معاوية محمد نور: كبرياء البُرْءِ من عقدة الدونية

 


 

د. النور حمد
1 December, 2009

 

 (1)

elnourh@gmail.com

 

            في هذا العام يكون قرنٌ كاملٌ من الزمان قد مر على ميلاد الكاتب السوداني العبقري معاوية محمد نور (1909 – 1941). ويتميز معاوية على سائر أبناء جيله بكونه القلم الذي ظل يشغل الساحة الفكرية السودانية، حتى بعد مرور قرابة السبعين عاماً على موته المأساوي المبكر. خرج معاوية على الحياة الفكرية السودانية في عشرينات القرن الماضي كما الشهاب، متوهجاً، مندفعاً في قوةً، وكما الشهاب أيضاً، انطفأ، وتفتت، وتناثرت طاقته الجبارة، في ظلمة السديم الشاسعة. كان معاوية محمد نور نسيج وحده، وأظنه لا يزال، إلى اليوم، نسيج وحده! فهو من جنس العباقرة الذين يعيشون وحيدين، ويموتون وحيدين.

            فكر معاوية بشكل مختلف، في وقت مبكر جداً، في بيئة لا ترحب بالتفكير المختلف. نحت معاوية لنفسه من خامة اللغة الصلبة العصية على التشكيل، أسلوبَ كتابةٍ مُمَيَّزٍ. فعل ذلك في وقت كان فيه الكتاب غارقين، حتى آذانهم، في التزويق اللغوي وفي افتعال حشر المحسنات البديعية في نصوصهم. لا يكاد المتأمل في كتابات معاوية يلمح ميلاً إلى تقليد أحد ممن سبقوه أو عاصروه، أو إعادةٍ لتدوير الأفكار، أو الرؤى، أو الأساليب التي كانت سائدة في زمانه. كان معاوية، فرداً، أصيلاً، منمازاً عن القطيع، في فكره، وفي نهج حياته، وفي أسلوبه للكتابة.

            أميز ما يميز معاوية عندي، هو أنه لم يحس بالدونية تجاه أحد من العالمين. قال عنه الروائي الكبير الطيب صالح: ((وكان على حداثة سنه، كما يظهر من مقالاته واسع الإطلاع، معتد بنفسه، ثاقب الرأي في كثير من الأمور، جريئا لا تخيفه الأسماء الكبيرة)) (السني بانقا، معاوية نور، مركز عبد الكريم ميرغني، 2002م، ص 22). نعم، كان معاوية كما وصفه الطيب صالح، ((ثاقب الرأي في كثير من الأمور)). ولقد كان معتدا بنفسه، بالفعل، ولكن اعتداداه بنفسه، فقد كان اعتداداً أصيلاً، لا ادعاء فيه. ولا غرابة! فمعاوية من ذوي المواهب العالية، ومن أصحاب العقول الشديدة التوقد. يضاف إلى ذلك أن أطلاعه الواسع والعميق، الذي تفضل الأستاذ الراحل، الطيب صالح بالإشارة إليه قد مكنه، في أحيان كثيرة من أن يطل على أعلام عصره من علٍ، وهو يناقش انتاجهم الفكري والأدبي، وذلك بالرغم من صغر سنه مقارنة بأكثريتهم. وفي تقديري أن تعالي معاوية كان من جنس التعالي الذي برء من شائبات الكِبْرِ، والرعونة، ومن سخائم الأنا التي لا تجد سبيلاً إلى رؤية علوها، بغير الحط من أقدار الآخرين. كان معاوية موضوعياً يصوب عقله الوقاد على الموضوع، وليس على صاحب الموضوع. والشمم الذى يبدو على شخصية معاوية لم يكن شمماً ادعاه صاحبه إدعاءً، وإنما كان حُلَّةً إلهية خُلِعَتْ عليه خلعاً. لم يكن تعالِي معاوية تعبيراً عن طاقة نفسية منحرفة منحصرة في مجرد إعلاء الأنا، وإنما كان جزءاً من طاقته العقلية والروحية الكبيرة، التي طفحت من على حواف آنية وقته.

الإستعمار الثقافي وعقدة الدونية:

            ما من أمة تعرضت إلى الاحتلال بواسطة الأجنبي، وإلا تعرضت لقدر من الإستعمار الثقافي والإستتباع. ولقد حكمت مصر التركية السودان في الفترة من عام 1821م وحتى عام 1885م، ثم عادت عقب انهيار الدولة المهدية، لتحكمه مرة أخرى في شراكة مع الإنجليز، في الفترة ما بين عام  1898م إلى عام  1956م. وكان من أبرز آثار الحكم المصري في الحقبتين، هو تمكين الفقه العثماني الوافد، على حساب التصوف السناري السوداني، وفقهه الذي تشكل على أديم التربة السودانية. جلبت التركية للبلاد المؤسسة الدينية الرسمية التي تم إنشاؤها أصلاً لتكون ذراعاً للسلطة الحاكمة. وسار الإنجليز، حين جاءوا، على نفس ذاك النهج التركي الذي يستخدم الدين المؤسسي الرسمي كذراع للحكم. قاد ذلك الوضع، الذي عرضته هنا بصورة مبتسرة جدا، إلى نوع من الإستتباع الثقافي للسودان، للمنظومة العقلية العثمانية شرق الأوسطية، التي كانت حكومتها الرسمية في الاستانة قد ذهب ريحها، إلا أن عقلها الفقهي بقي، واستمر فينا إلى اليوم. ولقد تركت تلك الفترة الكثير من الآثار السلبية على الحياة الفكرية والثقافية في السودان. ولذلك فإن من الآثار الضارة للإستعمارين التركي، والإنجليزي المصري، نشوء عقدة الدونية تجاه المصريين، وسط المتعلمين السودانيين الأوائل، وانصرافهم عن سبل إحياء ثقافتهم الوطنية. فهم حين وعوا محيطهم بقدر مناسب، أحسوا بوضعية الهامش التي تم وضعهم فيها. غير أنهم لم يتصدوا لمعالجة ذلك الوضع بالعمل على تنقية ثقافتهم من الآثار الوافدة السالبة، التي ألحقها بها الإستعماران التركي، والإنجليزي المصري، وإنما اتجهوا، ومنذ الوهلة الأولى، إلى تبني حالة الأخ الصغير، الذي يتوسل أن يؤخذ بيده، فانحصرت جهودهم في الإلحاح، بشتى السبل، على طلب الإجازة من المركز، في القاهرة وغيرها من حواضر شرقي المتوسط.

            ولإلقاء قليل من الضوء على حالة انكسار الأدباء السودانيين تجاه رصفائهم المصريين، أحب أن أعرض إلى حادثتين، ورد كلتاهما في كتاب الأستاذ حسن نجيلة، (ملامح من المجتمع السوداني). يقول نجيلة: ((وتطلع علينا مجلة الفجر لصاحبها المغفور له عرفات محمد عبدالله في عددها الصادر في يوم الأحد 16 مايو 1937 فتحمل في بابها الأسبوعي "آداب وفنون" على هؤلاء المتشاعرين الذين ملأوا أعمدة الصحف بشعرهم عن الجارم)). ولقد جاء في مجلة الفجر، في العدد الذي أشار إليه نجيلة، هذا النص الذي نقله نجيلة عن عرفات محمد عبد الله. يقول نص عرفات: ((والذي دعانا إلى هذا الحديث هو هذا الفيض من الشعر الذي امتلأت به أعمدة الصحف بمناسبة مقدم الشاعر المصري علي بك الجارم فكل من استقام له الوزن ساق القريض إلى ملك القريض مادحاً أو شاكياً وفيما يبدو لنا كانوا ينتظرون منه إصدار حكمه على مبلغ شاعريتهم. بل ربما انتظر البعض منهم أن يعطيه الجارم ـ ورقة براءة ـ كتلك التي يوزعها القسس أيام محاكم التفتيش)). (حسن نجيلة، ملامح من المجتمع السوداني، دار عزة للنشر والتوزيع، الخرطوم، 2005، ص522). واضح مما خطه قلم الأستاذ، عرفات محمد عبدالله، فيما أورده عنه الأستاذ حسن نجيلة، مبلغ تهافت أولئك "المتشاعرين" على الإجازة من قبل الشاعر الزائر علي بك الجارم مما حدا بعرفات على شن تلك الحملة الشعواء عليهم.

            أيضا، يحدثنا نجيلة، في نفس كتابه الشيق، (ملامح من المجتمع السوداني) عن زيارة الأستاذ محمود عباس العقاد للخرطوم في بدايات الأربعينات من القرن الماضي، وكانت بعد حوالي الأربع أو الخمس سنوات من زيارة علي الجارم، مشيراً إلى محاضرته أمام المثقفين السودانيين، بدار الثقافة في الخرطوم. كتب نجيلة عن تلك المحاضرة قائلا: ((ولعل دار الثقافة منذ إنشائها لم تشهد حشداً من المثقفين وعشاق المعرفة مثل الحشد الذي تجمع ليستمع للعقاد وهو يحاضر عن الثقافة، فقد تحدث حديثاً سامياً رفيعاً صَعُب على كثيرٍ من المستمعين أن يلاحقوه فيه، ولما فُتح باب النقاش عقب المحاضرة ظهر قصور آفاقنا الثقافية آنذاك عن مناقشته، أما الذين تصدوا للنقاش فسرعان ما تكشف ضعفهم فاستسلموا صاغرين)). (المصدر السابق، ص 314). ودعونا نتأمل عبارات مثل: ((تحدث حديثاً سامياً رفيعاً صعُب على كثيرٍ من المستمعين أن يلاحقوه فيه))، و ((ولما فُتح باب النقاش عقب المحاضرة ظهر قصور آفاقنا الثقافية آنذاك عن مناقشته))، و((أما الذين تصدوا للنقاش فسرعان ما تكشف ضعفهم فاستسلموا صاغرين))!! ألا تحمل كل تلك العبارات دلالة على حالة فظيعة من الإنسحاق والإحساس بالدونية؟! فالعقاد، مع سمو مكانته الأدبية وصيته الذي ملأ النصف الأول من القرن العشرين، في الشرق العربي، ليس ذلك المفكر الذي يصعب فهمه أو مجاراته. وفي تقديري، أن الذي أنشأ ذلك الإحساس بالانسحاق ليس قامة العقاد الفكرية الحقيقية، بقدر ما هي الهالة التي باعتها لنا آليات الثقافة المصرية المعاصرة وهي تروج نفسها، محالوةً استتباع هامشها المحيط بها، واشتريناها نحن منها دون فحص يُذكر. غير أن هناك من بين السودانيين من برء من مثل هذه الإحساس بالدونية، برءاً تاماَ، وعلى رأس هؤلاء النابغة، معاوية محمد نور، والأستاذ محمود محمد طه. ناقش معاوية أدب العقاد، وأدب شوقي، وأدب المازني وسرقات المازني الأدبية، وأدب طه حسين، ورومانسية علي محمود طه المهندس، وغيرهم، من منصة الناقد الند. وناقش بعده كبار الكتاب المصريين، وبندية تامة، الأستاذ محمود محمد طه. فعل ذلم مع كل من طه حسين، وعباس العقاد، وأحمد لطفي السيد، ومحمد النويهي، وخالد محمد خالد، ومصطفى محمود. (راجع كتابيه "رسائل ومقالات" الجزئين الأول والثاني على: www.alfikra.org

            أما عن الليلة التي جرت في نادي الخريجين إبان زيارة الأستاذ عباس محمود العقاد، فقد كتب نجيلة، ما نصه: ((وفرغ المتحدثون والشعراء واتجهت الأبصار إلى العقاد، فقام ومشى نحو المنصة وئيد الخطى مديد القامة .. وقف ليرد ـ وسمعنا عجبا. فقد أذهلنا بقوة ذاكرته، أخذ يرد على المتكلمين واحداً بعد واحد، كان يلمس أفكار المتحدث أولاً في رفق، ثم يأخذ في كشف أخطائه الفكرية واللغوية ـ وقد حفظها عن ظهر قلب. وما يزال به حتى يتركه أثراً بعد عين)) .(المصدر السابق، ص 320). ودعونا نتأمل في النص أعلاه "الدرمتة" dramatization التي قام بها الأستاذ حسن نجيلة لمشهد العقاد وهو ينهض للرد على المتحدثين. قال نجيلة: ((فقام ومشى نحو المنصة وئيد الخطى مديد القامة)). ودعونا نتأمل: ((كان يلمس أفكار المتحدث أولاً في رفق، ثم يأخذ في كشف أخطائه الفكرية واللغوية... وما يزال به حتى يتركه أثراً بعد عين))!! ودعونا نلاحظ أيضا، أن العقاد لم يجد بأساً أو غرابةً في يقوم بدور "المصحح" لأفكار المتحدثين وللغتهم أيضا! ونجيلة لا يرى بأساً أن يمسح الزائر المُحتَفى به بمضيفيه الأرض، ويتركهم (أثرا بعد عين)!! لقد منح كثير من طلائع الكتاب المصريين أنفسهم موضع الأستاذية التي لا نزاع عليها، ورسم كثير منهم هالات زائفة لأنفسهم، اشتريناها نحن منهم، فسدت علينا الأفق. ولم ينفذ من ذلك الأفق المسدود سوى قليلين، على رأسهم (الولد القلبو محدثو) معاوية محمد نور. ولو كان معاوية حياً حين وفد العقاد إلى الخرطوم لربما تواضع العقاد بعض الشيء، ولربما استقوى المبهورون بالوافد دونما مساءلة، بما يمكن أن تجبر به كسرهم وقدة عقل معاوية وجرأته العالمة، وعدم تهيبه للأسماء الكبيرة.

            نعم، برء معاوية بُرْءاً تاماً من الإحساس بالدونية تجاه الآخرين، في وقت كان فيه الإحساس بالدونية، سمةً غالبةً لدى أدبائنا، خاصةً تجاه رصفائهم في شمال الوادي. وهذا المقال في الإحتفاء بذكراه إنما يركز على هذه الخاصية التي تميز بها هذا المفكر، والأديب، والفنان، المقتدر. لقد وُلد معاوية ليكون شمساً تدور حولها الكواكب، لا كوكباً يتخذ لنفسه مداراً حول أي شمسٍ من شموسِ وقته، بالغاً ما بلغت. ولا غرابة إذن أن حمل معاوية صليبه وتابوته، لم يساوم، ولم يتراجع حتى اغترب بعقله لسبع سنوات غيبه بعدها الموت، وهو بعد في الثانية والثلاثين من العمر.  (يتواصل الأسبوع القادم)

 

آراء