معاوية نور: هل كان التوسط ممكنا؟
7 December, 2009
(2)
elnourh@gmail.com
في المقدمة التي كتبها الروائي الكبير، الراحل، الطيب صالح لكتاب الأستاذ السني بانقا (معاوية نور) الصادر عن مركز عبد الكريم ميرغني، في أمدرمان، في العام 2006، ناقش الأستاذ الطيب صالح مأساة النابغة معاوية محمد نور، مشيراً في أكثر من موضع، من تلك المقدمة إلى أن معاوية محمد نور قد "انهزم" و"فشل". ولقد استغربت كثيرا في استخدام الأستاذ الطيب صالح للفظي "انهزم"، و"فشل"، وهو يلخص الحصيلة النهائية للحياة الملحمية التي عاشها الكاتب النابغة معاوية محمد نور! تحدث الطيب صالح عن اختيار إدوارد عطية لشخصيتين تأثرتا بالثقافة الغربية هما: أمين عثمان باشا، من مصر، ومعاوية محمد نور، من السودان. وذكر الطيب صالح أن إدوارد عطية أتي بنموذج أمين عثمان باشا كمثالٍ لنجاح عملية التأثر بالحضارة الغربية. قال الطيب صالح: ((ذهب أمين عثمان من كلية فكتوريا إلى جامعة أكسفورد في إنجلترا، وعاد إلى مصر حيث لمع نجمه واحتل مكانة مرموقة في فترة وجيزة، وكان أثيراً لدى الإنجليز، مقرباً من المندوب السامي البريطاني)). (السني بانقا، معاوية نور، مركز عبد الكريم ميرغني، أمدرمان السودان، 2006، ص 15). غير أن الطيب صالح علق على رأي إدورد عطية حول نجاح أمين عثمان باشا قائلاً، إن قصة أمين عثمان باشا نفسها، قد انتهت هي الأخرى بالفشل، وكتب معلقاً: ((لكن حتى هذه القصة انتهت بالفشل، ففي عام 1950، أي بعد صدور كتاب إدورد عطية، أصبح أمين باشا وزيراً في حكومة الوفد، فاغتيل رمياً بالرصاص بتهمة الخيانة)). (المصدر السابق، ص 15).
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا، هل يمثل الموت، مبكراً كان أو متأخرا، مبرراً لكي نصف تجربة حياتية لفرد ما بالفشل، أو بالهزيمة؟ وهل في وسع المرء أن يتجنب كل الخيارات والمواقف التي يمكن أن تُفضي إلى الموت إغتيالا، كما في حالة أمين باشا، أو تلك التي تقود إلى الضغط النفسي الذي ربما أفضي لتدهور الصحة العقلية، وإلى الموت المأساوي المبكر، كما في حالة معاوية محمد نور؟ وهل لكي تكون حياة المثقف، أو الكاتب، أو السياسي، حياةً "ناجحة"، يتعين عليه أن يتخير الخيارات التي تضمن له الموت على سريره هانئاً، وادعاً، بعد عمرٍ مديد؟! فالأسئلة التي يمكن أن تثور في وجه هذه الرؤية الغريبة التي صدع بها الأستاذ الطيب صالح، ربما تناسلت لتشمل المعيار الذي وفقه يتم تقييم حيوات الأفراد وإلصاق بطاقة "الفشل" أو "النجاح"، أو "النصر" أو "الهزيمة" عليها. كما يمكن أن يتفرع الاستفهام في هذه الوجهة ليشمل التساؤل عن طول مضمار السباق الذي عند نهايته تتقرر النتائج؟! هل هو مضمار محدود ينتهي بالموت؟ أم هو مضمار مفتوح النهايات؟ ففي ما أرى أن مضمار العطاء الإنساني، مضمار مفتوح. ومفهوم المضمار المفتوح مفهوم تمليه الرؤية الدينية العميقة، التي تقوم على الوعي الكوسمي cosmicالمستحصد الذي يربط بين عدوتي الغيب والشهادة، ربطا محكما، نتيجة لفناء وهم العقل الذي يفصل بين العالمين، اللذين هما ليسا سوى عالمٍ واحد، لدى التحليل النهائي. ولا يقوم هذا المفهوم على أديم الفكرة الدينية وحدها. فالنظر الفلسفي العميق، يملي مثل هذا التصور أيضا، كما هو بَيِّنٌ في خلاصات التجارب الفلسفية المعاصرة، لدى فلاسفة الروحانية الجديدة من أمثال كين ويلبر Ken Wilber ومن ماثلوه من نقاد فلسفة حقبة الحداثة، وفصلها المتعسف بين الذات والموضوع.
الشاهد، فيما أرى، أن مضمار السباق فيما يتعلق بالعطاء الحياتي مضمار لا ينتهي بالموت، ولذلك لا مجال لإصدار أحكام قيمية نهائية على أي تجربة حياتية، أو رؤية شخصية، أو نهج حياة شخصي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالشخوص الإستثنائيين من المبدعين. ما أثبته التاريخ أن تأثير الحيوات المبدعة لا ينتهي بالموت. بل لقد بقي تأثير بعض الحيوات الإستثنائية خالداً أبد الدهر، رغم أن أصحاب تلك الحيوات قد ماتوا ميتاتٍ مأساوية، وكثير منهم مات في عمرٍ مبكر جداً. فما دامت التجربة الإستثنائية ذات قدرة على رفد الحياة، وتجديد دمها، وما دام اللاحقون يسمعون، أو يقرأون عنها، ويستلهمونها، ويسترشدون بقبسها، فإن صاحبها يبقى حياً، وإن غاب عن عالم المحسوس، وانطمر جرمه في التراب.
بدا لي، وأنا أتأمل ما كتبه الأستاذ الطيب صالح في هذه الوجهة، أن الأستاذ الطيب صالح يدعو إلى التوسط وإلى الإعتدال، وإلى مجانفة الغلو. ولكن هل تتوفر فرص التوسط في كل الأوقات؟ وهل تطورت الحياة عبر تاريخها الطويل بالتوسط، وبالإعتدال وحدهما، أم أن الثورات، والشطط، وقلب الطاولة على المتشكل الراهن، جملة واحدة، قد لعبت، هي الأخرى، الدور الأكثر تأثيراً في كل النقلات التاريخية الكبيرة؟
كتب الأستاذ الطيب صالح عن نموذج معاوية محمد نور قائلاً: ((أما معاوية محمد نور، ثاني الرجلين، فقد شاءت أقداره أن يسلك طريقا آخر، انتهى به إلى الهزيمة بطريقة أخرى)). (المصدر السابق، ص 16). ويقول الطيب صالح في صفحة 17 من نفس المقدمة: ((كانوا يريدون أن يأخذ من لغتهم ما يفي بالغرض، لكنه أخذ الأمر مأخذ الجد، فغاص في أعماق اللغة. وتبحر في طيات وجدان المستعمرين وعقلهم، كمن يبحث عن مفتاح للغز، وحاربهم في ما بعد بسلاحهم وانهزم، لأنه جاء باكراً، أبكر مما يجب، ولم يكن أمثاله كثيرين)). لقد كرر الأستاذ الطيب صالح، وهو يرسم لحياة معاوية نور محصلة نهائية، مستخدما تشكيلة من العبارات التي تصف خلاصة حياته بالهزيمة تارة، وبالفشل تارة أخرى. قال الطيب صالح: ((وحاربهم في ما بعد بسلاحهم وانهزم))، وقال: ((أما معاوية محمد نور، ثاني الرجلين، فقد شاءت أقداره أن يسلك طريقا آخر، انتهى به إلى الهزيمة بطريقة أخرى))، وقال: ((وهكذا نجح المحجوب بعض النجاح، بينما فشل معاوية فشلاً مأساوياً)).
يلمح المرء في كل هذه النصوص التي اقتبستها أعلاه من مقدمة الطيب صالح لكتاب السني بانقا، أن هناك إصراراً شديداً من جانبه، على وصف خلاصة حياة معاوية نور الإستثنائية، الرائدة، بالهزيمة، وبالفشل، لمجرد أن معاوية عاش خياة عاصفة، ولم يحرز في حياته عيشاً مادياً رغداً، ولم يلق من القبول من المحيط ومن الوجاهة الإجتماعية، مثلما لقيه بعض أقرانه. في حين أن العيش الرغد، والقبول الإجتماعي، والوجاهة تأتي غالبا للمثقف، بسبب ممالأة المؤسسات الممسكة بمقاليد الأمور، والانحناء لخياراتها. ولقد أجرى الأستاذ الطيب صالح مقارنتين، إحداهما بين معاوية نور والتجاني يوسف بشير، والثانية بين معاوية نور ومحمد أحمد محجوب، ودعونا نعرض لهاتين المقارنتين.
المقارنة بين معاوية والتجاني:
علق الأستاذ الطيب صالح على إصرار معاوية محمد نور على الذهاب إلى بيروت ليدرس الأدب الإنجليزي على حساب أسرته قائلاً: ((وربما يكون أول سوداني يدرس على نفقة عائلته في الخارج. ولا يملك المرء هنا إلا أن يقارن بين إصرار معاوية، ولين عريكة التجاني يوسف بشير، الشاعر الملهم الذي أراد أن يسافر ليدرس في مصر، فلحق به أبوه إلى محطة السكة الحديد في الخرطوم، واقتاده حزيناً مكسور الخاطر إلى أم درمان)). (المصدر السابق، ص 16). غير أن الذي حدث هو أن لين عريكة التجاني وانصياعه لأمر أبيه، لم يجولا بينه وبين الموت المأساوي المبكر. فحرمانه من ارتياد الآفاق البعيدة التي كان يود أن يطالها، ومن رؤية مصر، التي طالما برَّحَ به الشوق للوصول إليها، لم يحصنه من غوائل بيئته التي لم تعرف قيمته، بل وضيقت عليه في رزقه، وقضت عليه وهو في ريعان الشباب، بل وفي عمر أقل من عمر معاوية نور! فالمناخ الذي عاش فيه هؤلاء العباقرة جعل جو المأساة محيطاً بهما إحاطة السوار بالمعصم. بل ربما أجرؤ فأقول إن جو المأساة الذي أحاط بهم، ربما كان جزءا من حكمة وجودهم نفسه. لقد كانت المأساة هي قدر تلك الحيوات الإستثنائية، ولم يكن ليحدث أي فرق إن هي قامت، أو قعدت، خرجت من القطر أو بقيت فيه!!
لربما حالف الأستاذ الطيب صالح الصواب أكثر، لو أنه نعى على الظرف غير المواتي الذي أحاط بعبقرية معاوية، بدلاً عن نعيه على معاوية كونه لم يرتض الحلول الوسط، واختار مواقف صارمة مما يحيط به، أو كونه اختار خيارات لم يكن الواقع مهيأً لقبولها، في ذلك الوقت. ولربما يحسن أن نشير هنا إلى أن الحيوات الملحمية كانت جزءاً من ديناميات التغيير عبر التاريخ الإنساني. فمثلاً، عاش السيد المسيح حياةً ملحميةً، وعاش نبي الإسلام العظيم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، حياةً بالغة الاستثنائية من حيث ملحميتها. وعموما فإن المخاطرة جزء لا يتجزأ من وقود أي تغير جوهري جرى في حياة الناس. لابد من من وجود مخاطرين risk takers، بمخاطراتهم تنفتح الطرق المنغلقة. حتى أن تنكب المخاطرات الفكرية أصبح مزيةً وجزءاً من الأدبيات التي يتم تدريسها في تربية الشخصية من أجل خلق الأفراد القادرين على اجتراح المبادرات التي بها يتم تخطى السائد، وبها يتم الخروج من الدوائر الشريرة التي تمحق الجهد الإنساني، وتقتل الحلم الإنساني. ولو راجعنا التاريخ لرأينا كثيراً من النماذج التي تشبه نموذج معاوية نور. وعلى سبيل المثال، نجد أن الشاعر الفرنسي الذائع الصيت، جان آرثر رامبو ترك المدرسة وهو في سن العاشرة، بعد أن كتب على سبورة الفصل: ((ليس من الخير أن نُبلي سراويلنا على مقاعد الدرس!)). وحين بلغ السادسة عشر كتب رامبو شعراً مدهشاً، وحين بلغ العشرين كان رامبو قد كتب كل الشعر الذي أراد أن يكتبه. توقف عن كتابة الشعر في تلك السن المبكرة وذهب في مغامرات شملت منطقة هرر في القرن الإفريقي، ومدينة عدن في اليمن، وقضى وهو في السابعة والثلاثين من العمر. أما شعره الذي كتبه فلا يزال يشغل الناس إلى يومنا هذا. ومن الأمثلة أيضا، الرسام الفرنسي بول غوغان الذي ترك باريس وصالوناتها وذهب ليبدع فنه وسط الأهالي في تاهيتي. وعموما فإن ما يسمى بالمزاج الفني artistic temperament لا يعطي صاحبه خياراً غير خيار المخاطرة، وخيار الحياة العاصفة، وهذا معروف ومتواتر.
ليس بغائب عن بالي، أننا كلما تقدمنا، ودرجنا أكثر في مراقي التطور، كلما تناقصت حاجتنا إلى بذل التضحيات الجسام. غير أن ذلك لا يتم إلا حين تكمل العقول، وتسلم القلوب. وأغلب الظن عندي أن اختيار نهج المهادنة والتوسط في الوضع الاستعماري الذي عاش فيه معاوية، لم يكن ليتم إلا على حساب قيمة الذات وكرامتها. ولقد كان معاوية نور من أصحاب العقول الكبيرة، والقلوب الكبيرة، والنفوس الكبيرة، وكما قيل قديماً: ((وإذا كانت النفوس كبارا، تعبت في مرادها الأجسام)).
المقارنة بين معاوية ومحجوب:
أيضا عقد الأستاذ الطيب صالح مقارنة بين معاوية ومحمد أحمد محجوب، جعل فيها كفة المحجوب ترجح على كفة معاوية! تحدث الأستاذ الطيب صالح في تلك المقارنة عن محمد أحمد محجوب قائلاً، إن المحجوب كان في عمر معاوية، فهو قد وُلد بعده بعام واحد، كما تخرج الإثنان من كلية غردون، وكانا كثيراً ما يلتقيان ويناقشان شؤون الأدب، وفق ما عرفه الطيب صالح من الأستاذ السني بانقا. ويمضي الطيب صالح فيقول، إن الإنجليز فرضوا على المحجوب دراسة الهندسة، رغم شغفه الشديد بالأدب، فأذعن لهم، في حين رفض معاوية خيار دراسة الطب الذي حاول الإنجليز فرضه عليه. وقد رضخت أسرة معاوية لخياره بعد مقاومة، فبعثت به إلى بيروت، على نفقتها، ليدرس الأدب الإنجليزي. ويمضي الأستاذ الطيب صالح ليقول إن محجوب تزوج وأنجب وأصاب جاهاً كبيراً في حياته إذ أصبح أول زعيم للمعارضة، كما أصبح وزيراً للخارجية، ورئيساً للوزراء. يقول الطيب صالح: ((هكذا نجح محجوب، بعض النجاح، بينما فشل معاوية فشلاً مأساويا. ذلك لأن معاوية كان "أديبا" صرفا وكان "مفكرا" صرفا، ولم يكن يرضى لحياته في الأدب والفكر بديلاً، ولم يكن مستعداً للمساومة وقبول أنصاف الحلول)). (المصدر السابق، ص 20).
واضح من كل ما تقدم أن الطيب صالح قد ناقش في مقدمته هذه المشار إليها قضية المثقف والسلطة ـ سلطة الحاكم، وسلطة الأب، وسلطة المجتمع ـ وفاضل بين الانصياع للسلطة ومجاراتها وبين مواجهتها ومقارعتها، مؤثراً الإعتدال والانصياع، والمصالحة، على المواجهة. ويبدو أن الطيب صالح كان مهموماً بموقفه هو من قضايا التغيير، ومن السلطة بشكل عام. وإني لأرى في تفضيله لخيار المحجوب على خيار معاوية نور، واستخدامه للعبارت القوية من شاكلة "فشل" و"انهزم" في حق معاوية ما ينم عن محاولة محسوبة لإيجاد ما يعضد خياراته هو بما ماثلها من تجارب الأدباء السودانيين. وهذا ما سأتناوله بشيء من التوسع في الحلقة القادمة. (يتواصل الأسبوع القادم).