الجنوب.. ومستقبل السُّودان من خلال الماضي (15 من 15) بقلم: د. عمر مصطفى شركيان
4 January, 2010
ombill.ajang@googlemail.com
أبيي.. من لجنة ترسيم الحدود إلى محكمة العدل الدوليَّة
مشكل أبيي يشي بشكل صارخ عن وضع غير مألوف في بلد واحد؛ وهذا الوضع يمكن أن نسميه "قصة بلدين" في السُّودان على وجه العموم، أو "قصة قبيلتين" على وجه الخصوص. ولعلَّ هذا يعني فشل الحكومات الوطنيَّة بعد استقلال السُّودان العام 1956م في خلق بلد تسوده العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان والاحتفاء بالتعدديَّة الأثنيَّة والثقافيَّة والدينيَّة، حتى أفضى ذلكم الوضع المأزوم إلى احتدام الاستقطاب السياسي-الاجتماعي، وأخذ قطبي الشمال والجنوب في الماضي، أو المركز والهامش اليوم. وكان لا بدَّ من بعض المجموعات الأثنيَّة - حسبما أملته ضروريات الحياة وصيرورتها - أن تجد نفسها على إحدى طرفي هذا القطب الاصطناعي. هذه هي الأثناء التي فيها برز الصِّراع حول تبعيَّة منطقة أبيي كأحد الأجندة الرئيسة في مفاوضات السَّلام في كينيا بين الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشعبيَّة، وذلك لعدة أسباب نذكر هنا بعضاً منها على سبيل المثال:
(1) الأمر التأريخي المتعلِّق بعدم حسم هذه القضيَّة الخلافيَّة في بادئ الأمر، والتنكر على أو التنصل من المواثيق والعهود، ومحاولة تذويبها حتى لا يصبح لها طعم. إذ أنَّ مسألة أبيي من مخلفات اتفاقيَّة أديس أبابا العام 1972م، والذي كان من المفترض أن يجري الاستفتاء فيها لتحديد وضعها النهائي بتبعيتها للشمال أو الجنوب؛ الأمر الذي لم يحدث.
(2) إنَّ الإقليم ليمثِّل منطقة تماس (Buffer zone) وتقاطع المصالح الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، والصِّراعات التي تنشأ من جراء هذا النمط من المصالح بين دول ذات سيادة وطنيَّة تعتبر من أكثر النِّزاعات توتراً وحدة، فعلى سبيل المثال – لا الحصر – نزاع كشمير بين الهند وباكستان، ومسألة شط العرب بين إيران والعراق، وقضيَّة حلايب بين مصر والسُّودان، والصراع الذي نشب حول قطعة أرضيَّة حدوديَّة بين إثيوبيا وإريتريا. ولكن حين تُثار قضيَّة على هذا النحو في إطار الدولة الواحدة فهذا أمر مثير للدهشة أيما الدهشة.
(3) منطقة أبيي غنيَّة بالنفط ومعادن أخرى، علاوة على أنَّها تحوي مزارع ومراعي ومصادر مياه، بحيث يمكن أن تستفيد منها المجموعتان المتصارعتان.
(4) إنَّ أبيي لمنطقة يتصارع حولها كل من المسيريَّة العرب وتدعمهم حكومة الخرطوم من جانب، والدينكا الأفارقة وتقف وراءهم الحركة الشعبيَّة من جانب آخر.
وهذه المنطقة التي استحوذت على قدر كبير من النِّزاع بين الشمال والجنوب – وكما جاء في المسميات "الإنقاذيَّة" – هي "محليَّة أبيي، ورئاستها مدينة أبيي، (التي) يسكنها 180,000 نسمة، ومساحتها حوالي 30,000 كيلومتر مربع، وهي إحدى خمس محليَّات تتكون منها ولاية غرب كردفان (السابقة)، (حيث) تضم محليَّة أبيي وحدة الميرم الإداريَّة، وحدة المُجلد الإداريَّة، ووحدة أبيي الإداريَّة 23,000 نسمة (...) وتقع محليَّة أبيي، التي تضم الوحدة الإداريَّة موضوع النِّزاع بين خط العرض 9 درجة و38 ثانية، وخط العرض 11 درجة و15 ثانية تقريباً."(197) ويوضح الدكتور عبد الباسط سعيد في مقال بحثي جيد الإخراج: "(أنَّه) بحكم الموارد وفرص المستقبل تقع منطقة أبيي ضمن حوض المجلد للبترول، منطقة تعرف بآبارها الغنيَّة بالنفط، وذات المردود اليومي العالي، وقد تمَّ اكتشاف حقل بليلة للبترول على بعد 65 كيلومتر فقط جنوب شرقي مدينة الفولة، وتمَّ اكتشاف الغاز الطبيعي بكميات تجاريَّة بمنطقة أم شرا على بعد 50 كيلومتر شرقي الفولة بالولاية (ولاية غرب كردفان سابقاً) أكبر مخزون مكتشف بالسُّودان من خام الحديد عالي الجودة 63% من الحديد في الحجر الخام بمنطقة جبل أبوتولو، الذي يبعد 17 كيلومتر شرقي الفولة، (وفي) عاصمة الولاية وشمال الفولة توجد طبقة من خام الحديد 47% من الحديد في الحجر الخام، وتحتها طبقة من معدن البوكسايت تمتد من جبل الحواق شمالاً حتى منطقة كجيرة 35 كيلومتر غربي الفولة، فقد أعلنت وزارة الطاقة العام 1994م أنَّ ولاية غرب كردفان لما تذخر به من مخزون الموارد المعدنيَّة، هي الولاية الإستراتيجيَّة."(198) هذا عن الأرض وما تحوي، فماذا عن السكان؟
لا شك في أن تحديد هُويَّة وأثنية السكان الأوائل لمنطقة أبيي يتطلب بحثاً أكاديميَّاً وتحقيقاً أثريَّاً للمدافن والجماجم والهياكل وآثار المستوطنات البشريَّة القديمة للمجموعات السكانيَّة التأريخيَّة في المنطقة. وهذا الأمر قد يستدعي الاستعانة بالمؤسسات الأكاديميَّة الرفيعة والمنظمات العالميَّة الرائدة في هذا المجال كاليونسكو وغيرها. ففي ظل الكتابات التي ذخرت بها الساحة الإعلاميَّة السُّودانيَّة عقب نشوب الصراع حول تبعيَّة هذه المنقطة أبان عبد الجليل ريفا أنَّ هذه المنطقة أصلاً "لقبائل الداجو، وما زال جزء من آثارهم ومسمياتهم موجوداً، مثل "دينقا" و"دينقا النقعة" و"دينقا الطريرة"، إلا أنَّ هذه القبائل آثرت النزوح غرباً حتى دارفور، حيث استقرَّ بها المقام وجزء منها لا زال بجبال النُّوبة."(199) والمدهش في أمر الجدال الذي احتدم حول ملكيَّة أبيي هو التجاهل التام لمن سكنوا في هذه المنطقة قبل المجموعتين المتصارعتين (الدينكا والمسيريَّة). لذلك كتب الدكتور منصور خالد قائلاً: "فإلى حين حلول هاتين المجموعتين – أيَّاً كان التأريخ الذي حلوا فيه – كان أهل المنطقة الأصليون هم النُّوبة والداجو ومجموعة ثالثة تسمى الشات يقال إنَّ لها نسباً بالنُّوبة في الجبال وبالجور في بحر الغزال. والداجو أنفسهم وافدون إلى المنطقة هربوا إليها من دارفور بعد أن أجلاهم عنها سلاطين الكيرا، من بعد أن كانوا أهل سلطان في دارفور حتى القرن الخامس."(200) وقال دينق ألور، وزير الخارجيَّة في حكومة الوحدة الوطنيَّة: "إنَّ أبيي حتى العام 1905 كانت جزءاً من بحر الغزال، أي أنَّها في هذا التأريخ كانت جزءاً من الجنوب، وضمت إلى كردفان في ذلك العام."(201) واستطرد الوزير ألور بالقول: "(إنَّ) المسيريَّة جاءوا مهاجرين من مملكة وداي في تشاد، ودخلوا المجلد العام 1765م ووجدوا بها ثلاث قبائل إفريقيَّة، وصاروا جيراناً للدينكا من جهة الشمال، والدينكا موجودون أصلاً في منطقة بحر الغزال وأبيي منذ العام 1710م." وفي هذا المذهب مضى الدكتور منصور خالد كاتباً: "أنَّ المسيريَّة – الذين ينتمون إلى جماعة أكبر هي البقارة وينقسمون، هم الآخرون، إلى فرعي الحُمر والزُرق، وينقسم هؤلاء بدورهم إلى عموديات (الحُمر 7 والزُرق 6) – وفدوا إلى المنطقة من ودَّاي عند بحيرة تشاد، التي انتقلوا إليها عبر فزان بعد هجرتهم الطويلة من الجزيرة العربيَّة عبر البحر (الأحمر). ولكنهم سرعان ما تركوا المنطقة هرباً من الإتاوات الباهظة التي كان يفرضها سلاطين ودَّاي، وانتهوا إلى دارفور في عهد ملوك التُنجُر، وما زالت منهم مجموعات تعيش في تشاد ودارفور مثل عرب السلامات. ومسيرة العرب النازحين غرباً لم توقفها إلا الجبال التي استنجد النُّوبة بقممها، كما انتهى الداجو إلى سفوح الجبال كرقيق أرض."(202)
إنَّ دينكا نقوك، الذين تمَّ تقدير تعدادهم بحوالي 20,000-25,000 نسمة العام 1955م، ليجاورهم دينكا روينق ألور من الناحية الجنوبيَّة-الشرقيَّة، ودينكا توج من الناحية الجنوبيَّة، وتربطهم بهاتين المجموعتين مقاربة ثقافيَّة، مما يعني أنَّ نفوذ الشمال عليهم سطحي، وبخاصة عند النظر إلى النظام الاجتماعي والسياسي السائد عندهم. أما من الناحية الشماليَّة فيجاورهم العرب البقارة (المسيريَّة الحُمر)، الذين استوطنوا في المنطقة العام 1745م، حيث تربطهم بدينكا نقوك اتصالات مباشرة وموسميَّة. بيد أنَّ هناك فرعاً من نفس قبيل نقوك يسكن على ضفاف نهر السوباط، وبخاصة على نهر أبونق. ويقول دينكا نقوك في غرب كردفان إنَّ هؤلاء لأهلهم، برغم من انقطاع الاتصال بينهما لعدة أجيال. وعن هذه المنطقة الشرقيَّة – موطن جدود أنقوك – تقول التقاليد إنَّ النوير والدينكا قد احتلوا الجزء الشمالي من جزيرة الزراف، وانقسموا فيما بينهم وأجلاهم لوو (وهم فرع من فروع قبيل النوير). وقد قيل إنَّهم نزحوا إلى المنطقة من الجزء الشمالي في بحر الزراف بعد أن أجلاهم عنها النوير في صراعاتهم العديدة حول الماشية والمراعي في تأريخ يختلف عليه المؤرِّخون. إذ يرجعه البعض إلى القرن الثامن عشر (1740م)، ويرده آخرون إلى القرن التاسع عشر (1830م). لكن سواء أن هاجر نقوك إلى موطنهم الحالي قبل أو بعد احتلال النوير لأراضيهم، إلا أنَّهم وجدوا مجموعات من الدينكا من أصل آخر في موطنهم الحالي، وتصاهروا وانصهروا معهم. هذا، فقد كتب بول هاويل عن السمات الرئيسة لمجتمع دينكا نقوك، والبناء الاجتماعي، والقيادة والسلطة، والقانون العرفي، وكيف تغيَّرت هذه السمات تحت تأثير الحكومة البريطانيَّة-المصريَّة (1898-1956م)، برغم من أنَّه لم يتطرَّق إلى وضعهم بين العرب البقارة في الشمال والشعوب النيليَّة في الجنوب.(203)
ومثلما جاء في بروتوكول أبيي – كما سنرى لاحقاً - تُعرف "منطقة أبيي بأنَّها منطقة مشايخ (دينكا) نقوك التسعة الذين ألحقوا بكردفان العام 1905م؛ وأنَّ المسيريَّة والرحل الآخرين لهم حقهم التقليدي في رعاية الماشية والحركة عبر منطقة أبيي."(204) وهذه الفروع التسعة، التي يتكون منها قبيل دينكا نقوك، هي: أبيور، أجيل، اللي "قريب"، ماجو، أديل، أشوين، أشا، بنق، وماريق. ولعل نقوك هم فرع صغير جداً من أحد عشراً فرعاً للدينكا في السُّودان، والذين يُقدَّرون ب11% من مجموع سكان السُّودان، و50.4% من سكان جنوب السُّودان. وتقول الروايات إنَّ انسحاب دينكا نقوك من أعالي النيل إلى هذه المنطقة جاء إثر نزاع حول امرأة، حيث استقرَّت المجموعة المنسحبة في منطقة "فوك" ومنها إلى "تردة نمورة" للاحتماء بها، وذلك لبعدها عن مكان النزاع، وبها ماء وسمك، فتوافدوا على هذا المورد الحيوي، وطاب لهم المقام فيه، وبدأ القبيل يتجمع حول موارد الماء والسمك. والمسيريَّة في ترحالهم مروا بهذا القبيل، وقدَّموا لهم الذرة "دخن وماريق"، فاختاروا "الماريق"، فأطلق عليهم الشيخ علي أبو قرون اسم الماريق، وهو اسمهم الذي غطى على دينكا نقوك. وقد "عُرف دينكا نقوك (في) أبيي بالشموخ والاعتداء بالنفس، في تواضع جم وكرم فيَّاض جبلوا عليه، واحتفاء بالغريب، وإقراء الضيف."(205) وكذلك قيل "إنَّهم قوم أهل حكمة ونظر وميثولوجيا تتضمَّن قيم ضبط النفس، وكرم الأخلاق وحب الحياة والإيمان بتعميرها وعدم إفسادها."(206) ومن فرع أبيور تحدَّر الأب الروحي لدينكا نقوك وهو السلطان كوال أروب، والد الزعيم الراحل دينق مجوك، الذي مات بالسرطان العام 1969م بالقاهرة، ولكن جيء بجثمانه ليوارى في وطنه. والزعامة عند أهل الدينكا يكون دائماً للابن الأكبر، وكان الابن الأكبر لكوال أروب هو دينق مكوي. بيد أنَّ دينق مجوك نافس أخاه الأكبر على الزعامة لما كان يتمتَّع به من تفوق في فنون الخطابة والنشاط في العمل، برغم من بكوريَّة سنه آنذاك، وبذلك تغلَّب على أخيه غير الشقيق دينق مكوي. وقد تمَّت هذه المنافسة في الثلاثينيَّات من القرن العشرين إبَّان الاستعمار البريطاني-المصري في السُّودان (1898-1956م). وبالطبع، حين ترزح الدولة تحت نير الاستعمار تكون مسلوبة الإرادة. بناءاُ على ذلك رأى البريطانيُّون في دينق مجوك الرجل القدير على جمع "ووت" (عمديات) دينكا نقوك التسعة والمسيريَّة لما برز منه من نبوغ في حلول المشكلات التي كانت تنشأ وسط المجموعات السكانيَّة المختلفة في المنطقة بين الحين والآخر، مثلاً النجاح في حل نزاع أبيور-بنقو وهما فرعي دينكا نقوك. وقد قيل إنَّه حتى كوال أروب – قبل أن يموت – تنازل لمجوك في السلطنة المدنيَّة واحتفظ هو بالسلطة الروحيَّة. وبعد موت كوال أروب انحاز فرع أبيور لدينق مكوي، ورأوا أن تكون السلطة الروحيَّة له، بينما رأت الحكومة الاستعماريَّة وبقيَّة العمديات الثمانية بضرورة أن تؤول السلطات الروحيَّة والمدنيَّة على السواء للسلطان دينق مجوك، وهذا ما كان.(207)
من ناحية ثانية، تتكوَّن ديار المسيريَّة من أربع نظارات، هي: أبيي ومقر ناظرهم في أبيي، والعجايرة (العجائرة) ومقر ناظرهم مدينة المجلد، والفلايتة ومقر ناظرهم مدينة الفولة، والمسيريَّة الزرق ومقر ناظرهم مدينة لقاوة، وقد اختاروا بابو نمر ناظراً لعموم ديار المسيريَّة ومقره مدينة المجلد العام 1943م. ويقول الأمير بشير عجيل جودة من أعيان قبيل المسيريَّة وأمين أمانة شؤون السَّلام بالمؤتمر الوطني (ولاية غرب كردفان سابقاً) إنَّ قبيل المسيريَّة لينقسم إلى العجاجنة والفلايتة والمسيريَّة "الطوال"، وهم قبيل المسيريَّة الذين أخذوا من الدينكا ثقافيَّاً في منطقة أبيي حتى باتوا يُعرفون ب"المسيريَّة الطوال". وفي العام 1953م اختار جميع أهل الديار الناظر دينق مجوك رئيساً لمجلس ريفي ديار المسيريَّة.(208)
برغم من الصِّراعات التي حدثت في أزمنة مختلفة بين المجموعتين (المسيريَّة والدينكا)، إلا أنهما تعاونتا في بعض القضايا السياسيَّة والعسكريَّة في الماضي. وقد كتب أحدهم أنَّه "عند اندلاع الثورة المهديَّة هاجرت قبيلتا المسيريَّة ودينكا نقوك تحت راية واحدة، وذلك لنصرة الدعوة المهديَّة، ولأنَّ دينكا نقوك لم يريدوا أن يبقوا وحدهم نهباً للأطماع في حال سفر المسيريَّة، لأنَّ هناك حلفاً تتعاون بمقتضاه القبيلتان للرد على الهجوم على أيَّة واحدة منهما، وبعد نهاية المهديَّة عادت القبيلتان معاً، وعاد الدينكا يحملون حربة هديَّة من الخليفة لبلائهم وجهادهم في نصرة المهديَّة، وإنَّ هذه الحربة ما زالت مقدَّسة لديهم إلى اليوم، ولها سادن يخرجها ليحلف عليها المتفاوضون ليلة تمام البدر، ومن حلف عليها كاذباً فقد وقع في شر أعماله."(209) وفي هذا الإطار كتب كاتب آخر قائلاً: "كان من أبرز سلاطين الدينكا الذين بايعوا الإمام المهدي وخليفته قبيل موقعة شيكان (بالأبيض) السلطان أروب بيونق، جد الناظر دينق مجوك، والذي كان في صحبة صديقه علي الجلة وأبوكجة وآخرين، وقد كان في عدد من رجاله المقاتلين؛ السلطان ريان ريحان سلطان دينكا توج (مركز قوقريال)، وقد قيل إنَّه جاء في أكثر من ألف مقاتل من رجاله، حيث جاءوا في صفوف ويتغنون أغاني الحرب والفداء، والسلطان كورمو سلطان دينكا منطقة أبيم، والسلطان نقور مكول سلطان دينكا ملوال، وقد سمي لاحقاً مرجان شقير، والسلطان وال دورجوك، والسلطان كور شول من سلاطين منطقة نامليل، والسلطان جوك سلطان منطقة كوروك، والسلطان وول ريج سلطان دينكا روينق، والسلطان أبونا أتور جونق، والسلطان جوان مريال، والذي أهدى ابنته للمهدي، وهو أكبر سلاطين منطقة نامليل."(210) ويدحض هذا الحديث قول الذين هم في شك مريب في أنَّ أهل الجنوب لم يساهموا في الثورة المهديَّة، في محاولة منهم للتقليل من دورهم الوطني ووصفهم بالتقاعس عن النضال المسلح الذي عم أجزاءاً كبيرة من القطر آنذاك. وكما ذكرنا سلفاً، يورد هندرسون مثالاً للتعاون بين المسيريَّة والدينكا في "أنَّ (المسيريَّة) الحُمر الذين رفضوا موالاة المهدي، وعصوا أمر التحرك إلى عاصمة الخليفة في أم درمان، وعليه طُرِدوا من ديارهم، فكان أن أواهم جيرانهم النقوك واستقروا معهم حتى الغزو البريطاني-المصري (العام 1898م)."(211)
بيد أنَّ الدكتور فرانسيس دينق يقول في كتابه "حرب الرؤى" (War of Visions): "خلال المرحلة الأولى للحركة المهديَّة – وحسب رواية الزعيم دينق أبوت – يقول المهدي (إنَّ) هناك زعيماً عظيماً يدعى أروب سمعت عنه عندما كنت حينها في البعيد. أرجو منه أن يحضر لزيارتي. يبدو أنَّه وحكماً لسمعة الحركة المهديَّة وعنفها الذي لا يرحم، قوبلت الدعوة المهديَّة بالشك والتوجس. يواصل دينق أبوت حديثه فيقول: العديد من الزعماء ذهبوا لزيارة المهدي، وتمَّ قتلهم ولمدة عامين منع قوم نقوك زعيمهم أروب من الذهاب للمهدي. وقالوا له: كيف يمكن أن تذهب إلى حيث يُقتل الناس؟ ويقوم الخليفة عبد الله بقطع رقاب الناس حتى قبل وصولهم للمهدي. قرَّر أروب في النهاية الذهاب بصحبة الزعيم ألور أجينق من عشيرة دينديور المنافسة، والذي سبق وتم الاعتراف به ليكون نائباً للزعيم الأكبر لدينكا نقوك." هذا، وقد ذهب أروب لزيارة المهدي، وليعلن ولاءه في مكان يسمى أبو حراز، حيث قال المهدي لأروب: "منذ اليوم سوف يكون اسمك عبد الرؤوف، بدلاً من أروب، ورحب به معلناً إسلامه بصلوات، وأهداه سيفاً، ورجع أروب بعدها لقومه. وتتجلَّى هذه الصلوات – بحكمة وسخريَّة الدينكا – في أشعار منيل راو، وهو شاعر وحكيم الدينكا حين تغنَّى شعراً:(212)
هذا النزاع مع العرب بدأ مع زعمائنا القدماء
عندما ذهب أروب بيونق مع ألور أجينق
وسافروا كل الطريق إلى الشمال
وهناك قابلا المهدي وأقاموا الصلاة معاً متجهين شرقاً
سأل ألور – ورؤوسهم مطأطئة نحو الأرض – يا أروب ابن بيونق هل ترى الإله؟
وردَّ أروب ابن بيونق: لا يا ألور، لا أرى الإله!
ففي العام 1951م خُيِّر دينق مجوك – ناظر دينكا نقوك – بين الانضمام إلى مديريَّة بحر الغزال في جنوب السُّودان أو البقاء في إدارة مديريَّة كردفان في شمال السُّودان. هذا، وقد اختار الناظر مجوك أن يبقى هو وأهله في إدارة مديريَّة كردفان بشمال السُّودان، وبخاصة أنَّ دينكا نقوك والمسيريَّة الحُمر كانوا يتمتَّعون بعلاقات اجتماعيَّة يسودها السَّلام في ذلك الحين من الزَّمان. وفي الآن نفسه ورد في بعض الروايات أنَّ الأجر المضاعف، الذي كانت السلطات الاستعماريَّة تدفعه للنظار والسلاطين في شمال السُّودان – عكسما كانت الحال في جنوب السُّودان - هو الذي دفع الناظر دينق مجوك في البقاء في مديريَّة كردفان. وكان اعتراض المسيريَّة على تعيين أحمد دينق كضابط تنفيذي في أبيي قد أشعل نزاعاً بينهم وبين الدينكا، ومن ثَمَّ طفق الأخير يعيدون النظر في وضعهم في الشمال (كردفان)، وأمسوا يطالبون بالانضمام إلى الجنوب (بحر الغزال). وقد اعتقلت سلطات الحكم الثنائي وفداً من تجمع شباب دينكا نقوك تحت قيادة أحمد دينق في مدينة الأبيض – عاصمة مديريَّة كردفان يومذاك – حينما كانوا يتفاوضون حول مسألة الانضمام إلى الجنوب. ثم ما لبثت الأوضاع طويلاُ حتى نشبت أزمة الحرب الأهليَّة الأولى (1955-1972م)، وأفرزت انعكاسات سلبيَّة على العلائق بين المسيريَّة والدينكا في المنطقة بشكل خاص، وبين الجنوب والشمال بشكل عام. وقد أسهبنا في هذا المجال في صفحات خلت من هذا البحث. أما فيما يوضح سذاجة المسؤولين "الخرطوميين" في التعامل مع قضايا أهل الريف، وكيف تُحل مشكلاتهم، فيقول زكريا دينق – وهو ابن الناظر دينق مجوك: "جاء مسؤول كبير في عهد التمرُّد الأول (1955-1972م) (إلى منطقة أبيي)، وكان هذا المسؤول يخطب في المواطنين قائلاً: "إنَّ من يريد السفر إلى الجنوب عليه أن يقطع البحر." وهو كان يقصد بحر كير (بحر العرب)؛ وقد عني المسؤول بهذا القول إنَّ المنطقة ليست تابعة للجنوب. فقام الناظر دينق مجوك، الذي كان يجلس بجانب المسؤول، وصفعه صفعة قويَّة أمام الجمهور الكبير. وفور ذلك غادر (المسؤول الحكومي الكبير) المنطقة في نفس اليوم."(213) وهناك حادثة أخرى تبرز ظلم المسؤولين الذين تبعثهم سلطات الخرطوم إلى الأقاليم النائية. فقد حدث مرة أن قام ضابط عسكري في حامية أبيي باعتقال دينكا تج الذين يملكون أبقاراً أكثر من دينكا أبيي باعتبارهم خوارج، وينزع منهم عدداً من الأبقار لبيعها. وقام الناظر دينق مجوك إلى "الكركون"، حيث كان بعض المواطنين معتقلين وأطلق سراحهم بنفسه، وقال: "ليس هكذا نعالج قضايانا."(214)
ومع أنَّ نقوك قد عانوا كثيراً خلال الحرب الأهليَّة الأولى بين الشمال والجنوب، إلا أنَّ هناك عناصر بعينها داخل أبيي نفسها قد أسهمت في تدمير النسيج الاجتماعي في المنطقة. فربما كانت إستراتيجيَّة الزعيم دينق مجوك بتبني اندماج سياسي مع المسيريَّة هي الأفضل وسيلة لحماية نقوك من الاعتداء الشمالي، وهي إستراتيجيَّة تمت تجربتها في فترة الاستعمار التركي-المصري (1821-1885م). غير أنَّ هذا الأمر لم يدم، وخُضِعت أبيي لسلطات عسكريَّة شماليَّة واستؤنفت غارات البقارة عليهم – كما سبق أن ذكرنا في صفحات خلت – والتي كانت في معظم الأحيان تتم بتمويل التجار وبتواطؤ رجال الشرطة والجيش الشماليين. وعاملت قوات الأمن أفراد أسرة زعيم نقوك على أنَّهم متعاطفون مع التمرُّد، بينما استمرَّ أفراد العشائر المنافسة على السلطة المحليَّة في العمل على إضعاف القيادة السياسيَّة بالمنطقة بالتعاون مع الخرطوم لإنهاء نظام الحكم القديم. وبعد وفاة دينق مجوك العام 1969م خلفه ابنه عبد الله موينناك دينق، ولكن لم تكن لديه السلطة القانونيَّة أو الذاتيَّة ليكون زعيماً فعيلاً. وقد قام ضباط شماليُّون بإطلاق الرصاص عليه وعلى بعض إخوانه أثناء سيرهم على الطريق في أبيي، وذلك لاشتباه قوات الحكومة بتعاونه مع المتمرِّدين الجنوبيين.(215)
بيد أنَّ أكبر صراع نشب بين المسيريَّة الحُمر ودينكا نقوك قد حدث في أيار (مايو) 1977م حول مصادر المياه بالقرب من مدينة أبيي، مما أدى إلى مقتل 100 من الدينكا و33 من المسيريَّة في القتال الذي دار بين المجموعتين في مواقع متفرِّقة من المنطقة، كما جاء في سجلات شرطة محافظة جنوب كردفان. وفي أيلول (سبتمبر) 1977م عُقِد مؤتمر صلح قبلي في مدينة كادقلي – عاصمة محافظة جنوب كردفان – للوصول إلى صيغة للتعايش السلمي بين الخصمين الذين اقتتلوا. فلا سبيل إلى الشك في أنَّ السجلات الرسميَّة قد غطَّت بعضاً من سجالات وحوارات الجانبين، أما الجانب الذي سكت عنه الدهر سنيناً عدداً، فهو ما قيل في هذا الاجتماع من سقط الحديث، وفاحش الكلام، وبعض الإساءات دون التوقير الكافي لرجال الدولة. فقبيل بدء المناقشات حول الصلح، الذي كانوا من أجله مجتمعون، أصرَّ أحد أفراد المسيريَّة وألح في الإصرار بأن تُمنَح له فرصة للحديث. وحين سمح له رئيس الجلسة بالحديث، أشار إلى الدكتور فرانسيس دينق مجوك – وزير الدولة بوزارة الخارجيَّة، والذي كان جالساً وسط أعضاء الوفد الحكومي – وناداه: "يا ابن دينق مجوك! عليك أن تبرح مجلسك هذا وتتحوَّل إلى مقاعد أخوانك في الاتجاه الآخر." كما أنَّه في طيلة المحادثات كان يشير الناظر بابو نمر إلى الدينكا ب"الجنقي"، وهي لفظة مسيئة في الثقافة الشعبيَّة السُّودانيَّة. وبرغم من إنذار اللواء (م) محمد الباقر أحمد – نائب رئيس الجمهوريَّة – له بألا يستخدم هذه العبارة، إلا أنَّه لم يعر إنذاره أي اعتبار. غير أنَّ الشيء الذي حدث وكاد ينسف عمليَّة الصلح برمتها هو مقتل اثنين من إخوان الدكتور فرانسيس دينق بواسطة عرب المسيريَّة، وكانا قد أكملا إجازة الماجستير. فقد أصرَّ الدينكا أن يُقتل اثنان من المسيريَّة ممن لهما نفس الدرجة العلميَّة مثل القتيلين الدينكاويين. وحين اشتد النقاش في هذا الأمر وغلظ الجدال ردَّ الناظر بابو نمر بمثل شعبي محلي لا نرى من الحصافة ترديده هنا، وكل ما يعنيه ذلك المثل، الذي نتعفف عن ذكره هو أنَّ النِّزاع، الذي هم حوله يتجادلون لم يكن كافياً، وعليهم – أي المسيريَّة والدينكا – أن يعودوا إلى الاحتراب مرة أخرى، وبعدئذٍ يجلسون للصلح. وبرغم من الفقد الشخصي من نزاع المسيريَّة-الدينكا، إلا أنَّ الدكتور دينق ظلَّ حفيَّاً بمسألة التعايش السلمي والاندماج الاجتماعي في منطقة أبيي. وقد ظلَّ يشير إلى قضيَّة أبيي، ويقدِّم أطروحاته عنها في أغلب أسفاره العديدة عن المشكل السياسي-الاجتماعي، الذي أفرزته سنوات الصراع العقيم بين الشمال والجنوب. وبعد نقاش مستفيض بحضور حكومة كردفان ووفد من الحكومة المركزيَّة توصَّل المؤتمرون في هذا المؤتمر إلى الاتفاق التالي:(216)
(1) وافق المسيريَّة على أن يدفعوا 1,400 رأساً من الماشية كتعويض لقتلى (الدية) وتدمير ممتلكات دينكا نقوك.
(2) إرجاع الممتلكات المنهوبة إلى أصحابها.
(3) وافق الطرفان على عقد ثلاثة مؤتمرات كل عام لمراقبة مجيء المسيريَّة إلى بحر الغزال ومناطق الرَّعي الأخرى بالجنوب وبقائهم فيها ومغادرتهم منها.
وبحكم الموقع الجغرافي باتت أبيي في خضم الصِّراع الدموي الذي أمسى مستعراً بين الحكومة السُّودانيَّة من ناحية، والحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان من ناحية أخرى. وأخذ كل طرف يجيش نفسه بالاستعانة الانتمائيَّة، ولكن المسيريَّة لم يضعوا في الاعتبار أنَّ عليهم ابتكار علاقات حميدة مع جيرانهم الدينكا للمصالح الآنيَّة في الشؤون الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المشتركة في المنطقة إلا بعد حقبة من الاحتراب. ففي سبيل مساعي المسيريَّة لخلق علاقات حميمة مع الدينكا قام أحد أبناء الأولى وهو المدعو محمود خاطر بمبادرة تعايشيَّة سلميَّة بين المجموعتين. هذا، وقد أسفرت محاولته على نتائج إيجابيَّة. ولكن حين عاد محمود إلى مدينة المجلد لإخطار العرب بنتائج المباحثات مع الدينكا، كانت حكومة البشير تنتظره بالمرصاد، وفور وصوله تم اعتقاله، وحُكِم عليه بالسجن عشر سنوات. لم تراع الحكومة الدوافع النبيلة التي حدت بمحمود على أن يقوم بهذه المبادرة. إذ لم يرض تصرُّف الحكومة بعض شباب المسيريَّة، فقاموا بتهريب محمود من السجن واتجهوا به جنوباً، حيث انضمَّ الأخير إلى الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان. لقد فطن العرب لأهداف الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، التي حاولت أن تستغل فيهم تعصبهم للإسلام والعروبة واستعدادهم العسكري وحبهم الفطري للقتال، لاستعداء أهل الجنوب. بالإضافة إلى أنَّ الطبيعة لعبت دوراً هاماً في مساعي السَّلام بين المسيريَّة والدينكا،؛ فقد شحَّت الأمطار العام 1990م، مما دفع المسيريَّة جنوباً حيث الماء الغزير والعشب الوفير. فكان لزاماً عليهم أن يتفاوضوا مع الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان حتى يضمنوا سلامة أنفسهم وأنعامهم، ومن هنا جاءت اتفاقيَّة واردونق في الفاتح من نيسان (أبريل) 1990م بالقرب من ملوال بين المسيريَّة (العرب) وسلاطين الدينكا المحليين من جهة، والحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان من جهة أخرى. وكان أهم بنود الاتفاق ما يلي:
(1) وقف جميع العمليات العسكريَّة في مناطق التماس، وعدم التحرُّش بالعرب.
(2) منح جميع الأطراف حريَّة الحركة دون أيَّة مضايقات.
(3) الالتزام الكامل بالأعراف السائدة.
وفي هذا الاتفاق وقَّع عن الحركة الشعبيَّة أدواو تورجم، وعن المسيريَّة أحمد حامد (رئيس لجنة السَّلام عن العرب)، وعن الدينكا دينق لولو (رئيس لجنة السَّلام) عن الدينكا. ونتيجة للحريَّة التي أتاحتها الاتفاقيَّة تم فتح عدد من أسواق السَّلام شمال بحر الغزال، وهي: سوق مكوج، سوق بنداو، سوق واروار، وسوق منجيل (غرب السكة حديد) وهو مختلط بين المسيريَّة والدينكا والرزيقات. كذلك توِّجت هذه الجهود بانضمام عدد من أبناء المسيريَّة إلى الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وقد شارك في مؤتمر الحركة الشعبيَّة العام 1994م أكثر من اثني عشر ضابطاً من أبناء المسيريَّة.(217)
برغم من أنَّ قضيَّة أبيي ظلَّت حجر عثرة أمام المفاوضين في محادثات السلام بين الحكومة السُّودانيَّة من طرف، والحركة الشعبيَّة من طرف آخر، والتي كانت تجري في كينيا، إلا أنَّ الجانبين اعتمدا المقترح المعنون "مبادئ الاتفاق بشأن أبيي" الذي قدَّمه المبعوث الأمريكي الخاص جون دانفورث إلى السيد النائب الأول علي عثمان محمد طه وإلى الدكتور جون قرنق رئيس الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في 19 آذار (مارس) 2004م، وأعلن الطرفان اتخاذهما هذه المبادئ أساساً لحل النِّزاع بشأن أبيي. هكذا توصَّل الطرفان في نهاية الأمر إلى حل أُودِع في بروتوكول أبيي الموقَّع بين الطرفين وبشهادة الوسطاء والرقباء في نيفاشا بكينيا في 26 أيار (مايو) 2004م، والذي جاء فيه ما يلي:
(1) أبيي جسر بين الشمال والجنوب يربط شعبي السُّودان.
(2) تُعرف المنطقة على أنَّها منطقة مشايخ الدينكا نقوك التسعة التي حُوِّلت إلى كردفان العام 1905م.
(3) تحتفظ المسيريَّة، وغيرها من البدو الرحل، بحقوقهم التقليديَّة برعي ماشيتهم والتحرك عبر منطقة أبيي.
وعند توقيع اتفاقيَّة السلام تُمنح أبيي وضعاً إداريَّاً خاصاً في الفترة الانتقاليَّة كما يلي:
(1) يكون سكان أبيي مواطنين لكل من غرب كردفان وبحر الغزال مع التمثيل في الأجهزة التشريعيَّة لكلا الولايتين.
(2) تُدار أبيي بواسطة مجلس تنفيذي محلي ينتخبه سكان أبيي.. وإلى حين انتخاب المجلس التنفيذي تعيِّن الرئاسة أعضاء أول مجلس.
(3) تُقسَّم عائدات البترول من أبيي إلى ستة أقسام خلال الحكومة الانتقاليَّة: الحكومة القوميَّة (50%)، حكومة جنوب السُّودان (42%)، بحر الغزال (2%)، غرب كردفان (2%)، محليات دينكا نقوك (2%)، ومحليات المسيريَّة (2%).
(4) تقدِّم الحكومة القوميَّة المساعدة لتحسين مستوى معيشة أهالي أبيي، بما في ذلك المشاريع الإنمائيَّة والعمرانيَّة.
(5) نشر مراقبين دوليين في أبيي لضمان التنفيذ الكامل لهذه الاتفاقات.
وفي نهاية الفترة الانتقاليَّة، وبالتزامن مع الاستفتاء في الجنوب، يدلي أهالي أبيي بأصواتهم بصورة منفصلة، ويعطي المقترح الذي يتم التصويت عليه بصورة منفصلة أبيي الخيارين التاليين بصرف النظر عن نتيجة استفتاء الجنوب: أن تحتفظ أبيي بوضعها الإداري الخاص في الشمال، أو أن تكون أبيي جزءاً من بحر الغزال. وكذلك جاء في البروتوكول أنَّ "الخط بين الشمال والجنوب الموروث منذ 1 كانون الثاني (يناير) 1956م غير قابل للتعديل (للانتهاك)، إلا كما اتفق عليه أعلاه." وفي الفقرة الخاصة بتحديد الحدود الجغرافيَّة لمنطقة أبيي ورد ما يلي:
(1) تنشئ رئاسة الجمهوريَّة مفوضيَّة حدود أبيي لتحديد وترسيم منطقة مشيخات دينكا نقوك التسع التي حُوِّلت إلى كرفان سنة 1905م والمشار إليها هنا كمنطقة أبيي.
(2) تحدِّد الرئاسة تكوين مفوضيَّة حدود أبيي والإطار الزمني المتاح لها. غير أنَّ اللجنة ستضم، من بين ما تضم خبراء، وممثلين عن المجتمعات المحليَّة والإدارة المحليَّة. تنهي اللجنة أعمالها خلال فترة السنتين الأولين للفترة الانتقاليَّة.
(3) تُقدِّم مفوضيَّة حدود أبيي تقريرها للرئاسة حال الفراغ منه وعند عرض التقرير النهائي عليها تقوم الرئاسة باتخاذ الإجراءات اللازمة مباشرة لإدخال الوضع الإداري الخاص لمنطقة أبيي حيز التنفيذ.
بناءاً على هذا التفويض تكوَّنت "مفوضيَّة ترسيم حدود أبيي" من خمسة عشر عضواً": خمسة يمثِّلون الحكومة السُّودانيَّة، وخمسة يمثِّلون الحركة الشعبيَّة، وخمسة خبراء أجانب برئاسة السفير دونالد بيترسون، سفير الولايات المتحدة الأمريكيَّة السابق بالسُّودان، إلى جانب خبير واحد من كل من كينيا وجنوب إفريقيا وإثيوبيا، وكذلك خبير بريطاني وهو كان الوحيد المتخصص في مجال التأريخ السُّوداني.(218) ومن ثمَّ اتخذت المفوضيَّة من العاصمة الكينيَّة - نيروبي – مقراً لها، وكانت مهمتها تتلخَّص في تقييم الوثائق التي يدفع بها كل طرف والمرافعات وغيرها من المستندات، وذلك لترسيم الحدود بين الشمال والجنوب في منطقة أبيي، ويقتضي ذلك ترسيم حدود كردفان التي كانت قائمة منذ العام 1905م، ووضع تلك الحدود على خارطة. هكذا تحدَّدت مهمة المفوضيَّة ليس في التفاوض، وإنَّما في ترسيم حدود منطقة أبيي في ضوء الوثائق التأريخيَّة التي تضمها دار الوثائق البريطانيَّة والسُّودانيَّة، "والمصادر الأخرى عن السُّودان أينما كانت متاحة بغرض التوصل إلى قرار يكون مستنداً على التحليل العلمي والبحث." كما على الخبراء القيام بتحديد القواعد الإجرائيَّة لمفوضيَّة ترسيم حدود أبيي وأنَّ "تقرير الخبراء الذي يتم التوصل إليه حسبما هو محدَّد وفقاً للإجراءات المذكورة، يكون نهائيَّاً وملزماً للأطراف." وتمشياً مع هذا الشرط، فإنَّ الإجراءات لمفوضيَّة ترسيم حدود أبيي التي قدَّمها الخبراء بتأريخ 11 نيسان (أبريل) 2005م، والتي تمَّ قبولها من الطرفين، تنص على ما يلي: "تسعى المفوضيَّة سعياً حثيثاً للوصول إلى قرار اتفاق جماعي في الرأي. فإذا لم يتحقق موقف متفق عليه من الطرفين فيكون للخبراء الكلمة الأخيرة."(219) وما أن أُعلِنت نتائج لجنة ترسيم حدود أبيي حتى استعار أعضاء الجانب الحكومي، وجلهم ينتمون لقبيل المسيريَّة العرب، غضباً ورفضاً لما توصَّلت إليه اللجنة، وطفقوا يتَّهمون اللجنة ب"الفشل في مهمتها الأساسيَّة وتجاوز الصلاحيات". بل أخذوا يستدلون بقول كبيرهم زعيم المسيريَّة الناظر بابو نمر، والذي سُئِل في أعقاب اتفاق أديس أبابا العام 1972م إثر بروز قضيَّة أبيي للسطح عن حدود أبيي فقال: "أسألوا أبقار المسيريَّة عن حدود أبيي!!" فمتى كانت الأبقار أدوات ترسيم الحدود! وإذا كان الأمر كذلك لما ظلَّت هناك حدود دوليَّة بين السُّودان وتشاد، أو بين السُّودان وجمهوريَّة إفريقيا الوسطى، وذلك لأنَّ أبقار الأمبرورو تعبر هذه الحدود الدوليَّة سعياً وراء الماء والكلأ دون الإلحاح على زعامة الأرض في الجهة الأخرى. وكذلك يسير الأبالة من شمال كردفان بإبلهم وضأنهم وماعزهم إلى وديان جبال النُّوبة في جنوب كردفان دون أن يدَّعوا أنَّ هذه الجبال مناطق تابعة لهم ولأنعامهم.
وفي هذه الأجواء زعم العزب الطيب الطاهر أنَّ التقرير الذي أعده الخبراء الدوليُّون "وضع المنطقة ضمن حدود جنوب السُّودان، نازعاً بذلك ملكيتها لقبيلة المسيريَّة العربيَّة، ومنحها لقبيلة دينكا نقوك الجنوبيَّة مع خريطة جديدة منحت مناطق البترول لقبيلة الدينكا، معتبراً أنَّه لا حق لأبناء قبيلة المسيريَّة في هذه المناطق، والأخطر من ذلك حرَّض التقرير على إلغاء امتياز شركة النيل الأبيض للتنقيب عن البترول في منطقة أبيي، وطلب من الحكومة السُّودانيَّة وقف الأنشطة البتروليَّة بها (...)."(220) المطالبة بوقف عمليات التنقيب عن النفط – وأيَّة معادن أخرى - في المنطقة أمر له تداعياته. فحين يكون هناك نزاع أي نزاع حول مسألة ما وفي انتظار البت في أمره قانونيَّاً يصبح أي تدخل في شأن من شؤونه، أو التصرف في مورد من موارده، مرفوضاً لأنَّه لسوف يؤثِّر على مجرى العدالة، ولا استثناء لقضيَّة أبيي. فعلام الشكوى إذن؟ على أيَّة حال، ففي مقال تحريضي آخر ضد الأغيار في السُّودان كتب الدكتور هاشم حسين بابكر يقول: "(إنَّ) ذبول الذاكرة ووهن الإرادة في مفاوضات السَّلام كانتا السبب المباشر في ظهور قضيَّة أبيي والمناطق الأخرى التي لم تكن يوماً مناطق صراع.. وقبول مبدأ السَّلام من جانب (الحكومة السُّودانيَّة) بلا ذاكرة ولا إرادة، وإصرار الجانب الآخر (الحركة الشعبيَّة) على إبقاء باب الصراع مفتوحاً على مصراعيه تماماً كما تمَّ في مفاوضات التقسيم التي أفرزت إسرائيل (...)."(221) ثم يمضي الدكتور بابكر ممجِّداً قبيل المسيريَّة تارة، ومحاولاً إظهارهم كضحيَّة من ضحايا الإبادة العرقيَّة في وضع مقلوب تماماً تارة أخرى فيقول: "وقبيلة المسيريَّة وقفت سداً منيعاً يمنع التمرُّد والزحف شمالاً.. ولهذا السبب كانت القبيلة صامدة (أمام) أول الأهداف الإستراتيجيَّة التي تمهِّد (إلى) تحويل العنصر العربي الإسلامي في السُّودان إلى هنود أمريكا (أي الهنود الحمر)، أو أبورجينز (الأروما) في أستراليا، أو إلى حالة الأندلس مع الرحمة المتناهية."(222) لم تصر الحركة الشعبيَّة على إبقاء باب الصراع مفتوحاً في أبيي، بل إنَّ الحكومة السُّودانيَّة لهي التي أصرَّت على ذلك، وكما هو معلوم حين جاءت توصيات لجنة التحكيم في مسألة أبيي عكس ما رغبت الحكومة رفضت القبول بهذه القرارات برغم من موافقتها على أمر تشكيل اللجنة وأعضائها من قبل، والإذعان إلى أنَّ "تقرير الخبراء الذي يتم التوصُّل إليه حسبما هو محدَّد وفقاً للإجراءات المذكورة، يكون نهائيَّاً وملزماً للأطراف." هكذا كانت مسألة أبيي أحد النقاط الخلافيَّة التي بسببها علَّقت الحركة الشعبيَّة استمرارها في حكومة الوحدة الوطنيَّة في تشرين الأول (أكتوبر) 2007م، وذلك بسبب تعنت حزب المؤتمر الوطني وتلكئه في تطبيق – على الوجه الأكمل – اتفاقيَّة السلام الشامل الموقعة بينه وبين الحركة الشعبيَّة في كانون الثاني (يناير) 2005م.
وفي إطار وضع منطقة أبيي في كردفان والإصرار على كردفانيتَّها استدل أحمد عبد الله آدم بثلاث وثائق. ففي الوثيقة الأولى، والتي أشار إلى خلاصتها مهما يكن من الأمر، ذكر آدم تقرير البريطانيين عن منطقة أبيي بتأريخ 21 تموز (أيلول) 1927م، حيث قال: "إنَّ الفريق المكلف بدراسة أحوال دينكا نقوك أبيي والمسيريَّة لم يستطع أن يخترق تماسك القبيلتين، فأبقوا على أبيي كما كانت تأريخيَّاً وجغرافيَّاً وبشريَّاً."(223) أما الوثيقة الثانية، التي استعان بها آدم لتأكيد تبعيَّة أبيي للشمال وجزء من كردفان، فهي المذكرة التي بعث بها الدكتور فرانسيس دينق مجوك – وزير دولة بوزارة الخارجيَّة حينذاك – لمؤتمر أديس أبابا العام 1972م في مسألة جنوب السُّودان. وتقول المذكرة - من بين ما تقول: "إنَّ تصوري لحل قضيَّة أبيي، الذي قدمته لذلك المؤتمر المهم، لا يخرج عن ذلك النسيج الفريد من العلاقات بين دينكا نقوك أبيي والمسيريَّة، وقد حافظوا عليه على مر العصور فليس بخليق بمثقف مثلنا أن يشرخ في نفس أحد المؤمنين بتلك الوحدة المقدَّسة في أن يدعوه ليسبح عكس التيار الذي ارتاد العوم فيه الأجداد والآباء، فكان محور مذكرتي أن تبقى أبيي بالشمال وجزء من كردفان كما كانت عبر التأريخ لتحفظ وحدة المسيريَّة والدينكا وتقوي الروابط أكثر."(224) أما الوثيقة الثالثة فهي البرقيَّة التي بعث بها عمد وسلاطين وأعيان وزعماء دينكا نقوك بأبيي في يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) 1980م إلى الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري. وهي البرقيَّة التي تحدَّثت عن اجتماع مناديب دينكا نقوك في أبيي مع إخوتهم المسيريَّة بالمجلد. وتقول البرقيَّة – فيما تقول: "وانطلاقاً من روح الود والإخاء الذي انتهى إليه (اجتماعهم) المشترك، وحفظاً للعلاقات الأخويَّة عبر التأريخ بينهم، وتحت شعار الوحدة الوطنيَّة رفضوا شعارات الفرقة والانقسام، والتحدث عن مسألة الحدود والوصاية من أيَّة جهة، وإنَّهم لجزء لا يتجزأ من إقليم كردفان."(225) لكن ثمة أشياء أسياسيَّة تغافل عنها آدم، إما عن قصد أو جهل أو محدوديَّة الرؤية. فما هي هذه الوقائع التي لم يستطع كاتبنا هذا تداركه؟ ففي تقرير اللجنة البريطانيَّة العام 1927م وخطاب الدكتور دينق العام 1972م لم تطرح مسألة الوحدة أو الانفصال في ذلك الحين أو الآخر. كل ما ركز عليه المتفاوضون يومذاك هو البحث عن حل سياسي لقضيَّة الجنوب في إطار دولة موحدة. برغم من ذلك ترك المتحاورون مسألة أبيي ليتم تقرير مصيرها في استفتاء سكان المنطقة بعد التوقيع على اتفاقيَّة أديس أبابا العام 1972م؛ الأمر الذي لم يحدث. وما برقيَّة سلاطين الدينكا المشار إليها إلا طبخات سياسيَّة وحبكات أمنيَّة من قبل نظام مايو للتنكر على هذا الاستفتاء والزعم بأنَّ دينكا نقوك قرَّروا طواعياً بقاء أبيي في إقليم كردفان. أما الحديث عن أبيي من خلال محادثات السَّلام بين حكومة السُّودان من جهة، والحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان من جهة أخرى في إطار اتفاقيَّة السلام الشامل فالأمر مختلف تماماً، حيث هناك طرح لحق تقرير المصير للجنوب، والسؤال المطروح هو ما مصير دينكا نقوك بأبيي في حال انفصال الجنوب؟ بالطبع، أثنياً سوف يكون لهم الحق كل الحق النضالي والسياسي والقومي أن ينضموا إلى أثنيتهم ليس بأنفسهم فقط، بل بممتلكاتهم وأنعامهم وأراضيهم، وهي أرض أبيي التي لا يعرفون عنها بديلاً. ولا نحسب أنَّ المسيريَّة العرب حين أتوا إلى السُّودان - من حيث أتوا، ومتى ما أتوا – وجدوا هذه الديار بلا بشر؛ قطعاً كان هناك سكان على هذه الديار من الأفارقة سكان السودان الأصليين.
ومن خلال التعاطي مع مشكل أبيي في مفاوضات السلام في كينيا ظهرت ثلاثة حلول واثنين من المسكنات كما كتب الدكتور عبد الباسط سعيد.(226) فما هي هذه الحلول والمسكنات؟ قدَّمت الجهات المعنيَّة بالأمر الحلول الآتية:
(1) أن تظل أبيي في حدود شمال السُّودان كما كانت منذ الاستقلال في الفاتح من كانون الثاني (يناير) 1956م، وقد نادت الحكومة السُّودانيَّة بهذا الطرح، استناداً إلى مرجعيَّة "إعلان المبادئ للإيقاد"، والتي جعلت حدود كانون الثاني (يناير) 1956م تعريفاً لحدود الجنوب.
(2) أن يتم إتباع أبيي بقرار إداري يعدِّل الحدود، ويضمَّها نهائيَّاً لجنوب السُّودان؛ وقد نادت الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان بهذا الطرح، استناداً إلى التأريخ، ووحدة المصير مع دينكا نقوك، والذين ظلوا يحاربون في صفوف الحركة الشعبيَّة لمدة عشرين عاماً.
(3) المذكرة التي تقدَّم بها "حزب العدالة القومي"، وسلَّمها للنائب الأول لرئيس الجمهوريَّة – على عثمان محمد طه – في مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2003م، وتقضي ب"تقسيم منطقة أبيي إلى شطرين تبعاً للمجرى المائي لبحر العرب (نهر كير) لقفل باب الصراع مستقبلاً، فيتبع الشق الجنوبي لبحر الغزال والشمالي لغرب كردفان، ويكفل حق الاختيار لدينكا نقوك بالبقاء أو الرحيل للجنوب على أساس المواطنة المتكافئة."
أما المسكنات – والحديث ما زال للدكتور سعيد – بمعنى أن تظل هذه الأطروحات آراءاً تخضع لعوامل أخرى خارج مجريات التوقيع عند الاتفاق، بل تنتظر تنفيذ الاتفاق في الفترة الانتقاليَّة، وهي:
(1) قرار مؤتمر أسمرا للقضايا المصيريَّة في حزيران (يونيو) 1995م. فقد رأى التجمع الوطني الديمقراطي في هذا المؤتمر "أن يتم استطلاع رأي سكان أبيي حول رغبتهم في الاستمرار في إطار الترتيبات الإداريَّة داخل جنوب كردفان أو الانضمام لبحر الغزال عبر استفتاء يتم خلال الفترة الانتقاليَّة؛ وإذا أكَّد الاستفتاء رغبة الأغلبيَّة من مواطني منطقة أبيي هي الانضمام لبحر الغزال، فإنَّه يصبح من حقهم ممارسة حق تقرير المصير كجزء من مواطني الجنوب."
(2) إجراء استفتاء في المنطقة. إذ ورد هذا الطرح في صيغتين، إحداهما جاء بها مؤتمر التجمع الوطني الديمقراطي في أسمرا للقضايا المصيريَّة العام 1995م، والثانية في "مذكرة ناكورو" في 7 آذار (مارس) 2003م، والتي قدَّمها وسطاء وشركاء ورقباء "الإيقاد" كوثيقة لوضع الخطوط العريضة لاتفاق سلام شامل ونهائي، ولكن رفضتها حكومة السُّودان في حينها، إذ اعتبرتها غير متوازنة، بينما قبلتها الحركة الشعبيَّة.
وقد تطرَّق الدكتور سعيد في مقاله الأجود عن مسألة أبيي في منظور المسيريَّة ورؤى بعض قادتهم بالخرطوم، والتي يغلب عليها منظور تأريخي-شعبي (فلكلوري)؛ وكذلك تطرَّق الدكتور سعيد إلى مسألة أبيي في مخيَّلة دينكا نقوك خصوصاً وفي المنظور الجنوبي عموماً، وفرص التسوية النهائيَّة في المنظور السياسي الجنوبي. وكان الدكتور سعيداً أميناً في طرحه وتناوله للقضيَّة، حيث أبرز دور المسيريَّة كوقود للحرب الأهليَّة، وكيف ظلَّت عناصرهم في السلطة يجيشون العرب ويزوِّدونهم بالسلاح للهجوم على القبائل الإفريقيَّة المجاورة. ومن خلال ما أبانه الدكتور سعيد، وكذلك ما ظلَّ ينادي به الدكتور فرانسيس دينق في كتاباته عن مسألة أبيي، نرى "أنَّ المنظور الجنوبي يغلب عليه طرح ثنائيَّة الهُويَّة، وإنَّه منظم باتجاه حل سياسي يجعل من العدالة والشراكة المتكافئة قواعد مبدئيَّة للحل السلمي المستدام." ولا نستطيع أن نستثنى بروتوكول حل النِّزاع في شأن أبيي للعام 2004م، حيث تبنَّى البروتوكول هو الآخر الشراكة المتكافئة كقاعدة مبدئيَّة للحل السلمي، ومن بعد يقرِّر سكان أبيي مستقبل وضعهم الجغرافي والسياسي في استفتاء حر ونزيه. بيد أنَّ وقوف الحكومات المركزيَّة وانحيازها إلى المسيريَّة ضد الدينكا هي التي عقِّدت الأمور في هذا المشكل. إذ أنَّ تقسيم السُّودان إلى شمال وجنوب هو الذي فرض على منطقة وشعبها الانتماء إلى أحد الخيارين، فلو كانت هناك وحدة وطنيَّة صادقة يؤمن بها السُّودانيُّون على أنَّ هذا الوطن يمثِّل بلداً موحَّداً لما أخذ الصِّراع في هذه البقعة شكل الاستقطاب الحاد كهذا الذي رأيناه بين أيدينا. وقد اقترح الدكتور سعيد عدة محاور في الحل السياسي لقضيَّة منطقة أبيي:
(1) لكونها تقع ضمن حدود شمال السُّودان، ينبغي ألا تطبق عليها نصوص مشاكوس والاتفاقات التي تلته المعنية بالجنوب.
(2) لكونها تقع خارج حدود الجنوب المعتبرة في مرجعيَّة التفاوض، فليس ثمة إقرار بأن تكتسب الحقوق على فوهة البندقيَّة، وليس ثمة اتفاق مع المطالبة بحق تقرير المصير، أسوة بما كسبته الحركة الشعبيَّة.
(3) تقسيم منطقة أبيي إلى شطرين تبعاً للمجري المائي لبحر العرب (نهر كير) لقفل باب الصراع مسقبلاً، فيتبع الشق الجنوبي لبحر الغزال والشمالي لغرب كردفان ويكفل حق الاختيار الحر ل"دينكا نقوك" بالبقاء أو الرحيل للجنوب، على أساس المواطنة المتكافئة وبالتالي يتبع حيث يختار.
(4) تبني مبدأ الشراكة المتكافئة في الأرض والموارد، بحكم أنَّ الدولة الموحدة هي موئل السيادة، وليس لأحد الطرفين حق ادعاء أي امتياز.
(5) موارد سطح الأرض مشاعة بين المواطنين في كسب معاشهم الرعوي سعياً للكلأ والماء، وأن ينال كل طرف ما يليه من موارد باطن أرضه.
(6) إنفاذ كل ما من شأنه تنمية المنطقة اقتصاديَّاً وحفظ حقوق أهلها، من خلال الترتيبات المعتمدة قي اتفاق قسمة الثروة عبر الصناديق المنشأة بموجبه.
(7) عقد مؤتمر جامع لأهل المنطقة لإقرار التقسيم، والخروج بإعلان للتعايش السلمي، يحافظ على السلام ويحفظ المواثيق والعهود بين أهل المنطقة.
(8) انتخاب معتمد محليَّة أبيي عبر انتخابات حرة ونزيهة، تراقبها الأجهزة العدليَّة القوميَّة، في بحر عام واحد من بدء الفترة الانتقاليَّة.
وكذلك في سبيل معالجات مشكل أبيي استرعت انتباهنا "مبادرة التعاون والاعتراف من أجل التعايش السِّلمي في منطقة أبيي"، والتي ابتدرها الدكتور أبو القاسم قور حامد. وقبل أن نلقي نظرة فاحصة على هذه المبادرة ينبغي أن ننظر إلى الخلفيَّة الاجتماعيَّة-السياسيَّة لصاحب المبادرة نفسه، وذلك من خلال ما كتبه البروفيسور تي عبده ملكيم سيمون، وهو باحث إسلامي أمريكي جنَّدته الحركة الإسلاميَّة في السُّودان كمستشار لها في مشروع توحيد المسلمين وغير المسلمين في مناطق ما يسمى ب"السكن العشوائي" بالخرطوم. أي بأسلوب آخر كانت مهمته تتلخَّص في العمل وسط النشطاء الإسلامويين الذين أخذوا يهجرون الحركة الإسلاميَّة. وقد ارتكز بحثه على إمكانيَّة استخدام الإسلام كأداة للتحول السياسي في السُّودان. ومن خلال الصورة التوضيحيَّة للأصوليَّة الإسلاميَّة السياسيَّة في الفترة ما بين (1985-1989م) – أي الحقبة الديمقراطيَّة الثالثة في السُّودان – أورد البروفيسور سيمون كيف حاولت "حركة الشريعة" تشكيل نظام اجتماعي فاعل، وذلك من خلال الربط بين النزاهة الدينيَّة والتنمية الاقتصاديَّة، بحيث يسيطر التطبيق الديني على مشاهد المجتمع والحياة اليوميَّة للأفراد. وبما أنَّ المجتمع السُّوداني متعدِّد أثنيَّاً ودينيَّاً وثقافيَّاً، فقد قاد هذا الطرح إلى نزاعات وتشتت وعنف باسم الإسلام. وبرغم من خلفيَّة سيمون الإسلاميَّة، إلا أنَّه بغض العنف وإفرازات التدمير النفسي والاقتصادي والثقافي باسم هذا النمط من الراديكاليَّة الإسلاميَّة، فيما ظلَّ يأمل بأنَّه يمكن تطبيق نوع عملي من هذه العقيدة الدينيَّة الراسخة. وقد استدلَّ بنداء جنوب إفريقيا الإسلامي، الذي يتوسَّل إلى الوحدة السياسيَّة خلال التفسير المتسامح للإسلام. وقد قدَّم سيمون في مستهل كتابه - "في صورة مَنْ: الإسلام السياسي والتطبيقات الحضريَّة في السُّودان" (In Whose Image? Political Islam and Urban Practices in Sudan) - جدليَّة دينيَّة عميقة في إفريقيا على وجه العموم، وبذلك يصبح الكتاب مادة جديرة بالقراءة، وبخاصة لدي الطلاب والباحثين في الدراسات الإفريقيَّة والدينيَّة وعلم الإناسة (علم الأجناس) والعلوم السياسيَّة. على أيَّة حال، ماذا كتب البروفيسور سيمون – أستاذ علم النفس الطبي والاجتماعي والدراسات الإفريقيَّة في كلية مدجر إيفرز بجامعة سيتي في نيويورك – عن أبي القاسم قور حامد؟
يقول البروفيسور سيمون إنَّ أبا القاسم كان أحداً من الصحافيين الإسلامويين الذين شهدت حياته في الخرطوم سجالات معهم، والتي كان يبغي من ورائها النظر في كيف يمكن أن تشكِّل الثقافة السياسيَّة بتقاطع المواقع المختلفة مع الرؤى العالميَّة، حيث أنَّ الانتقادات اللاذعة المدمِّرة تفتح فرصاً لاكتشاف الدهاء والمرونة اللذان ربما – بغير هذه الانتقادات – لا يجدان السبيل إلى الاعتراف. فأبو القاسم صحافيَّاً كان ثم ناقداً أدبيَّاً، وكان يبلغ من العمر حينئذٍ 33 عاماً، حيث كان مسؤولاً عن الشؤون الثقافيَّة في ولاية كردفان. فهو ينتمي أثنياً إلى البقارة، وكان والده شيخاً من شيوخ البقارة ووالدته نتاج أخلاط بين الأزاندي والدينكا والبقارة. ويمتاز أبو القاسم بسواد جلده، أي يحمل ملامح إفريقيَّة أكثر منها إلى العرب. وقد قضى طفولته راعياً للماشية، واجتهد في مراحله التعليميَّة حتى حصل على إجازة في المسرح من جامعة الخرطوم، وأسرته من أنصار السيد الصَّادق المهدي المخلصين. هكذا نشأ أبو القاسم وفي معيته علائق سياسيَّة كان يمكن أن يستغلها لصالحه إن هو شاء ذلك.
ففي وقت ما كان أبو القاسم ما يزال محسوباً على الفكر اليساري. فالرجل عاد وتبدَّل كثيراً خلال الأحايين التالية، مثلما حدث لقسم من السُّودانيين "الثوريين" الذين عانقوا الأفكار اليساريَّة في مقتبل أعمارهم حين كانت هذه الأفكار مجرد نظريَّات وأحلام "يتوبيَّة"، لكنهم نبذوها حين جابهوها على أرض الواقع، وباتوا من أصحاب الميمنة. وبالنسبة لأبي القاسم فإنَّ منطقة أهله المسيريَّة – البقعة التقليديَّة لأنصار المهدي – هي أرض الواقع. وبعد أن قضى عاماً في السجن لأنَّه كان شيوعيَّاً في شبابه، هجر الحزب الشيوعي السُّوداني لإصراره على تبني سياسات في غاية الحساسيَّة الثقافيَّة، وتجاوز الإفراط العقائدي في الحزب. وأخيراً التحق بحزب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وقد رصده الحزب وأهل منطقته أن يكون مرشحاً لهما في الانتخابات البرلمانيَّة العام 1990م، التي لم تقم. وبرغم من تدينه العميق، إلا أنَّ أبا القاسم كان دوماً يجادل في القضايا التي يحسبها البعض ذات أبعاد إسلاميَّة وثقافيَّة في غاية الحساسيَّة، ومع ذلك كان يتحدَّى صلاحيات العلماء في تضييقهم باب الاجتهاد في العقيدة الإسلاميَّة. غير أنَّ القضيَّة الرئيسة في مواقف أبي القاسم هو دعوته للحكم الذاتي، حيث كان البعض – حتى داخل حزبه – ينظرون إلى رؤيته هذه بأنَّها انعكاس لسواده. وفي العام 1981م اشترك أبو القاسم في تأسيس صحيفة "ألوان"؛ وبرغم من أنَّه كان شريكاً مؤسساً لهذه الصحيفة، إلا أنَّه لم يكن صاحب المال. وكان يتقاضى راتباً زهيداً من الناشر خلال السنوات التي عمل بالصحيفة، ومُنِحت له صفحات في الصحيفة ليعبِّر بها عن آرائه التي كانت تثير حفيظة إخوانه المسلمين، والذين احتفظوا به في حال مستمرة من التهميش في الهرم المؤسساتي للحزب. وبُعيد تخرجه في جامعة الخرطوم، بحث أبو القاسم عن منزل ليقيم فيه، وكان مستعداً لإنفاق ما يقارب 40 دولاراً شهريَّاً في إيجار منزل لإقامته بعيداً عن دار الجامعة. وبرغم من الفوائد التي جناها حزب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في الاحتفاظ بأبي القاسم كأحد أعضائه، لم يرغب الحزب في توفير السكن له. وفي كل الأثناء كان يتلقى معلومات عن وجود غرف للإيجار في المدينة، ولكن حين يصل إلى أصحاب هذه البيوت يخبروه بأنَّه ليست هناك غرف شاغرة للإيجار. وفي مقر عمله، ظلَّ يتعرَّض إلى شحنات بذيئة – مرة على سبيل التفكه، ومرة أخرى على سبيل الإساءة – والإشارة إليه ب"ابن عبدة". وبرغم من أنَّه كان يعتبر ناقداً مسرحيَّاً فذاً في الخرطوم، إلا أنَّه قد تمت إعاقته من تقلد أي منصب رفيع في السلطة الثقافيَّة، مع أنَّ أفكاره ورؤاه كانت موضع استعانة واقتباس من قبل البُحَّاث الأدبيين.
وبما أنَّ أبا القاسم كان واحداً من أعضاء الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في دائرة جغرافيَّة تقليديَّة لحزب الأمة هي بابنوسة، لذلك كان في موضع الاهتمام والإهمال في الآن نفسه من قبل الإسلامويين. إذ كان يتلقى دعوات من تنظيمات إسلامويَّة عريقة لتقديم سمنارات، لكنها ترفض أن تدفع له أجر ندواته. وكتاباته أمست تفوز بجوائز ثمينة، لكن اسمه كان يُشطب من قائمة الذين يرشِّحهم الحزب للمشاركة في المؤتمرات الدوليَّة، حيث كان الذين يأتون في المرتبة الثانية أو الثالثة في الهرم الحزبي هم الذين كان يبتعثهم الحزب في نهاية الأمر. وعندما أبدا أبو القاسم رغبته في قضاء بعض السنوات في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، أسرع رهط من مفكري الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة يتوسَّلون إليه بالبقاء في السُّودان. وحين طلب من الحزب مبلغ 400 دولاراً لإكمال مراسيم زواجه، رفض الحزب تمويله، بل تمَّ شطب اسمه من الطلب، وكُتِب في مكانه ابن مسؤول حزبي ليحصل على منحة دراسيَّة ثمينة إلى بريطانيا. ولعل في قصة أبي القاسم عبرة وعظة لمن ابتغى تلويث نفسه بهذا الحزب العنصري الأثيم. وهذه العنصريَّة الماثلة أمامنا – والتي راح ضحيتها أبو القاسم في حياته اليوميَّة وأحلامه وإحباطاته – تشي، في نمذجة غير مدهشة علينا في السُّودان أبداً، بهذا السلوك المعيب المشين، بكل وضوح ومباشرة فجة أحياناً. ولدينا من النماذج المبثوثة هنا وهناك، والتي قد نأتي بها لا لكي نبرِّر التصرُّفات، بل فقط لكي نشرحها ونغطي كل أبعادها السيئة قولاً وفعلاً.
وعلى أيَّة حال، كان موضوع النقاش المفضال دوماً لدي أبي القاسم هو البنية المسرحيَّة، والتي كان يسميها "بكسا" – وهي مشتقة من مفهوم دينكاوي من الأصل الثقافي الذي تتحدَّر منه والدته – وكان يصفها ب"معمار المسرح". فالمعروف أنَّ الممثلين دوماً يؤدُّون أدواراً مختلفة على خشبة المسرح، من أحداث متباينة، قصص، وحوارات، ولكن في كل سيناريو توجد حركة رابطة، أو شخصيَّة منفتحة لأحداث مميَّزة يتم تمثيلها في انفصال تقاربي. هكذا يمكن أن يتم تمثيل مجموعة من مسرحيات صغيرة ومنفصلة، ولكنها تُؤدَّي في الحين نفسه، ومرتبطة آنيَّاً مع بعضها بعضاً. وكل الأحداث تتداعى في الفضاء المسرحي – أي معمار الأجساد. وفي هذا النمط من أنماط الهندسة الاجتماعيَّة التي يعبِّر عن الانقسام من خلال الارتباط، والعكس صحيح تماماً، هو الذي ينعته أبو القاسم ب"البكسا"؛ وهذه هي رؤيته عن السُّودان.(227) كان هذا عن صاحب "مبادرة التعاون والاعتراف من أجل التعايش السِّلمي في منطقة أبيي"، فماذا جاءت به المبادرة نفسها؟
لقد هدفت المبادرة – حسبما أطلقها صاحبها – إلى بلوغ الغايات الآتية:(228)
(1) أن يعترف المسيريَّة العجايرة بأنَّهم عرب جنوبيُّون، وذلك وفقاً لحقائق التأريخ التي تشير أنَّ عرب المسيريَّة قد جاءوا إلى السُّودان من البوابة الجنوبيَّة الغربيَّة – أي جهات أنزارا، وليس من شمال السُّودان من مصر مثلاً. ولا بد أن يكون هذا الاعتراف متبادلاً من قبل الدينكا كافة – أي أنَّ المسيريَّة الحمر (العجايرة) هم عرب الجنوب، وبالتالي فمصيرهم هو مصير إخوتهم في الجنوب في إطار اتفاقيَّة السلام الشامل.
(2) أن لا يتم التركيز على نقاط الاختلاف – مثل تقرير الخبراء، أو حدود أبيي، أو أي الفئات كانت أسبق إلى الحياة في المنطقة، لأنَّ مثل هذه الخلافات هي خلافات تأرخيَّة ذات أبعاد وتحققات ذاتيَّة يمكن معالجتها في إطار نظريات (تحوير الصراع)؛ وأن يتم التركيز على بروتوكول أبيي المنصوص عليه في اتفاقيَّة السلام الشامل، ومطالبة المجتمع الدولي بإيفاء وعده لعمل مشاريع رائدة، ومشاريع تنمية تفيد المجموعتين – أي الدينكا والمسيريَّة.
(3) جمع المثقفين والوطنيين والعلماء والباحثين من أبناء أبيي في لقاء علمي لإنقاذ المنطقة من الوقوع في دائرة الحرب القبليَّة، وتكوين لجان لمحاصرة عمليات الالتفاف السياسي من قبل حكومة الشمال وحكومة جنوب السُّودان، وأن يكون هذا التجمع قوة ضاغطة حتى تكمل الحكومة قرارات وتكوين الجهاز الإداري لمنطقة أبيي المنصوص عليها في اتفاقيَّة السَّلام الشامل.
وقبل الغرق في تفسير وتحليل ونقد وتفنيد نقاط المبادرة كان لزاماً علينا أن ننظر إلى العوامل العديدة التي دفعت بصاحب المبادرة لتقديم مبادرته. وفي هذا المجال يقول الدكتور قور إنَّ من العوامل الرئيسة التي دفعته لإطلاق مبادرته هذه ونشرها على صفحات صحيفة "الرأي العام" بغية الحوار والتفكير والإثراء من قبل كافة الجهات والأفراد والمنظمات المهتمة بمسألة أبيي ما يلي:
(1) إنَّ كل الأطراف تخشى وقوع الحرب أو انفجار الوضع الأمني في منطقة أبيي، لأنَّ مثل هذا الأمر سيؤثِّر سلباً على اتفاقيَّة السَّلام الشامل. ففي حال اعتقاد أي من طرفي النزاع – المؤتمر الوطني والحركة الشعبيَّة – بأنَّ الطرف الآخر يعد نفسه للحرب بدلاً عن السَّلام، فإنَّ هذا الوضع قد يقود إلى عدائيَّات عسكريَّة بالوكالة.
(2) إنَّ هناك تحولاً كبيراً لدي المواطنين، ونزوعاً نحو الاستقرار والتخلص من حياة الرعي التقليدي والبداوة، وذلك لتغيُّر المناخ والطبيعة التي لم تعد تفي بنمط الحياة الرعويَّة والبدويَّة – أي بروز التطور الاجتماعي والمعرفي والتحول السيسيولوجي لإنسان المنطقة.
(3) تنامي الوعي الكبير والمطرد لدي المجموعات والقوى الحديثة – مثل الشباب، ومنظمات المجتمع المدني، وقطاع المرأة ورجالات القبائل والعشائر والرغبة في الانفلات من دائرة الصراع القبلي والبحث عن فضاء اجتماعي للتعايش السلمي بين قبيلتي المسيريَّة (العجايرة) والدينكا (ملوال ونقوك)، لأنَّ خصائص الدولة الحديثة لا تقوم على القبيلة، بل على حقوق الإنسان والديمقراطيَّة الثقافيَّة.
(4) إنَّ نجاح هذه المبادرة لسوف ينقذ المنطقة كلها من الاستقطاب السياسي، ويوفِّر إمكانيَّة تنامي الملف الاجتماعي والتنمية البشريَّة والاقتصاديَّة.
الجدير بالذكر أنَّ المبادرة إيَّاها وغيرها من الجهود الفرديَّة تحوي – بلا شك – نقاطاً إيجابيَّة، إلا أنَّها ستظل اجتهادات أكاديميَّة بحثيَّة: فهي لم تتنزَّل إلى المجتمع الشعبي حتى تصبح قوة ضغط جماهيري على الحكومة لتبنِّيها وعمل شيء ما نحوها، ولا هي باتت أجندة حكوميَّة، بحيث تكون مدعومة بقوة سلطانيَّة تضمن تطبيقها. كذلك أتت هذه المقترحات بعد التوقيع على بروتوكول حل النِّزاع حول أبيي في 26 أيار (مايو) 2004م واتفاقيَّة السلام الشامل في 9 كانون الثاني (يناير) 2005م وتكوين مفوضيَّة ترسيم حدود أبيي، أي أنَّ هذه الاجتهادات قد جاءت بعد فوات الأوان. أما قدوم المسيريَّة العجايرة من البوابة الجنوبيَّة الغربيَّة، فلم يأت الدكتور أبو القاسم قور بأدلة تأريخيَّة لإثبات ذلك الزعم، مما لا نستطيع أن نأخذ هذا الادعاء كحقيقة لفقدان عنصر أو عناصر الإثبات والتحقق والتدقيق، ولا نستطيع أن نؤكِّد هل هذا هو زعم الدكتور قور وحده لا شريك له، أم يشاركه المسيريَّة العجايرة أنفسهم؟
أيَّا كان الأمر، فبسبب تصاعد الخلاف حول تبعيَّة المنطقة استمرَّت التوترات بين الحكومة السُّودانيَّة في شكل المؤتمر الوطني وبين الحركة الشعبيَّة حتى تحوَّلت إلى مواجهات دامية بين الطرفين (الجيش الحكومي والجيش الشعبي لتحرير السُّودان) في أيار (مايو) 2008م راح ضحيتها 100 قتيل، وأُرغِمت آلاف الأسر على الفرار. وفي أعقاب هذه المواجهات اتفق الطرفان على تكليف المحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي بهولندا حسم هذا الخلاف حول حدود منطقة أبيي، وبالتحديد أن تقول كلمتها في الحدود التي قامت بترسيمها للمنطقة لجنة الخبراء التي سبقت أن أوكلت إليها تلك المهمة. وجاء قرار أو حكم المحكمة الدائمة للتحكيم يوم 22 تموز (يوليو) 2009م ترضية للطرفين – أي الحكومة والحركة الشعبيَّة.(229) وكان قرار التحكيم الدولي منح قبيل الدينكا مساحات إضافيَّة في منطقة أبيي، كما منح الشمال حقول نفط كانت مثار نزاع. ومن بعد صدور القرار أعلن ممثلون لقبيل المسيريَّة العربيَّة رفضهم قرار محكمة التحكيم الدوليَّة، وطالبوا بتعليق ترسيم الحدود في المنطقة، وقال هؤلاء الناطقون باسم القبيل إنَّهم سيستأنفون القرار لدي المحكمة الدوليَّة، وسيطعنون فيه أمام المحكمة الدستوريَّة في الخرطوم، وقرَّروا تشكيل جسم عسكري للقبيل. وكذلك قال قبيل المسيريَّة في مؤتمر عام في منطقة "الستيت" بمشاركة ألف عضو في يوم الاثنين 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2009م إنَّ قرار التحكيم الدولي سلب منهم 56 قرية لمصلحة قبيل دينكا نقوك الإفريقيَّة التي تقطن في المنطقة، ودعوا إلى حل سلمي بين الطرفين، ورأوا إمكان التعايش مع الدينكا في حال تخليهم عن قرار التحكيم، مهدِّدين أنَّه في حال لم يتحقَّق ذلك فإنَّ كل الاحتمالات ستكون مفتوحة بما فيها اللجوء إلى القوة لاسترداد القرى التي فقدوها، مؤكِّدين أنَّهم يرفضون الحرب ولن يلجأوا إليها إلا في حال إرغامهم على ذلك. واتَّهم القبيل حزب المؤتمر الوطني الحاكم بإضاعة حقوقهم والتفريط بها، وحمَّلوه مسؤوليَّة تبعات ما يحدث جراء ذلك. وقالوا إنَّهم لم يفوِّضوا أحداً للتحدث باسمهم، أو تقديم شكوى لنيل حقوقهم، وقرَّروا الإقامة والاستقرار في المناطق التي منحتها المحكمة إلى الدينكا، علاوة على إقامة مناطق أخرى.(230) والمسيريَّة في هذه الحال – أو لنقل قياداتهم السياسيَّة والعسكريَّة – لا يلومنَّ إلا أنفسهم، لأنَّهم ارتضوا أن يكونوا مطيَّة وحصان طروادة لحكومات الخرطوم، وبخاصة حكومة "الإنقاذ"، التي استخدمتهم كوقود حرب (Cannon fodder) لكي تبقى هذه الحكومات في السلطة. وبدت هذه الحكومات هنا ماهرة حين راحت تلوح بين الحين والآخر بالتناقض – التي اعتادت الفئات المتسلِّطة، حاكمة كانت أم غير حاكمة – وبين ما يبث من أخبار وأقوال، وبين الواقع المزري الذي تعيش فيه الفئات الشعبيَّة المحرومة في "بلد الوفرة والمساواة والعدالة" المزعومة. فالنفط الممنوح للشمال – أي الدولة – لسوف لن يجد المسيريَّة منه إلا قسمة ضيزى، وهذه القسمة الضيزى سوف تصلهم بعد "لي الذراع" وتماطل وتنكر، فضلاً عن أنَّ النفط سلعة قابلة للنفاد، والأرض هي التي تبقى والمسيريَّة في أمس الحاجة للأرض أكثر منها للنفط، وذلك للزراعة والرعي ومصادر المياه. وهل ننسى أنَّ النفط يلوِّث البيئة، بما يهدِّد بإفراز مخاطر كارثيَّة على الإنسان والحيوان والطبيعة، وبخاصة إذا لم تُراع الطرق العلميَّة والصحيَّة والبيئيَّة في التعامل مع مخلفاته.
قضيَّة أبيي هي اختبار حقيقي لمسألة الوحدة الوطنيَّة بين شطري السُّودان. فإن استعصى التوافق على حل هذه القضيَّة بالتي هي أحسن، وإذا كانت هناك أثنيتان يشكلان طرفي النِّزاع في هذه القضيَّة، فما بال السُّودان كله بقومياته التي تُحصى بالمئات ولغاته العديدة التي تُعد بالمئات أيضاً. فالفشل في إيجاد حل سياسي توافقي يحفظ وحدة البلاد، التي أصبحت في كفي عفريت، يعني الفشل الذريع في الوطن الكبير كله. فقد عاش السُّودانيُّون على وحدة زائفة طيلة عهدهم بالاستقلال منذ العام 1956م. ومنذ ذاك التأريخ باتت الأسماء الكبيرة – مثل "العاصمة القوميَّة"، و"المسرح القومي"، و"المجلس القومي للفنون والآداب" وهلمجراً – تضخيماً لفظيَّاً دون أن يكون هناك تمثيل قومي حقيقي في إدارة هذه العاصمة، أو وجود لفنون وآداب قوميَّة تعبِّر بحق عن تعدُّديَّة سكان السُّودان الأثنيَّة والثقافيَّة والدينيَّة، لذلك أمست هذه المسميات دلالات فارغة (Empty labels) من غير أن تعني من هذه الأمور شيئاً.
فمثلما لعبت الجغرافيا والتأريخ دوراً رئيساً في مشكل أبيي، كانت الحال كذلك بالنسبة للسُّودان كله، وذلك لوقوع الأولى في النطاق الجغرافي الذي يفصل بين ما اعتاد الإعلام تسميته "العرب شمالاً والأفارقة جنوباً"، ونجد الشيء نفسه بالنسبة للوطن الأم. فتقلبات التأريخ وسياسات المركز الجائرة وانحياز حكومات الخرطوم نحو المسيريَّة العرب ضد الدينكا جعل الأخير يلوذ بالحركة الشعبيَّة حتى اشتدَّ الصِّراع ليأخذ هذا الطابع الدموي السياسي المعقَّد. ومن هنا يعتبر الإخفاق في التعامل مع مسألة أبيي نقلاً للفشل الخاص إلى العام، أو بعبارة أخرى تعميم الفشل العام ليصبح فشلاً خاصاً. وهذا الفشل العام يشي بظل ذي ثلاث شُعب: الجنوب ومستقبل السُّودان من خلال قراءة الماضي، ومصير المناطق الثلاث (أبيي، جنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق)، وما قد تُؤول إليه الأوضاع السياسيَّة-العسكريَّة في دارفور. أمَّا قضيَّة جنوب كردفان فقد تناولناها بإسهاب في ثلاثة أقسام خلت من هذا المبحث، وقضيَّة أهليهم لا تختلف في كثير أو قليل من مسألة جنوب النيل الأزرق، ولذلك جاء بروتوكول التعاطي مع هذين الإقليمين مشتركاً. وكذلك تناولنا إشكاليَّة دارفور في قسم منفصل من هذه الدراسة. بيد أنَّ مستقبل السُّودان كله – حسب اعتقادنا – متعلِّق بقضيَّة الجنوب. وفي الأسطر القادمة لسوف نقف على لمحات عما توفَّرت لنا من تقارير المؤسسات الأكاديميَّة الرفيعة الشغيلة بالشأن السُّوداني وتكهناتها عما يمكن أن تصير إليه الأوضاع بعد إجراء الانتخابات العامة واستفتاء أبيي وممارسة أهل الجنوب لحق تقرير المصير.
الخلاصة في الحلقة القادمة