خطرُ التشظِّي الماثل: نظرةٌ في منعطفين شاخصين (3) … د. النور حمد
4 January, 2010
elnourh@gmail.com
برع الغربيون، منذ فجر الهجمة الاستعمارية التي اجتاحت قارات الأرض خارج الفضاء الأوروبي، في الكيفيات التي بها يتدخلون في شؤون الدول المستضعفة. عرفوا كيف يصرفون انتباه قادتها ـ وكثير منهم قادة بلا رؤية، كما هو الحال في كثير من بلدان القارة الإفريقية ـ عن مواجهة التحديات الحقيقية، والغرق في العراك السياسي غير المنتج. وتمثل المفاوضات، والإتفاقيات، التي تحرص النخب الغربية الحاكمة على رعايتها، فخاً من فخاخ صرف الانتباه عن جوهر الأخطار، ووسيلة ناجعة لتضييع الوقت، وإلهاء أطراف النزاع في بؤر النزاع الساخنة عن الرؤية الثاقبة. عن طريق هذا النوع من طمس صورة الهدف، والإلهاء المتعمد، يتم تمرير مخططات الهيمنة!
في هذا النهج المدروس للإلهاء، يتم استخدام الإعلام لتصوير الاتفاقات وكأنها الوصفات السحرية الناجعة لنقل الأحوال من الأسوأ إلى الأفضل. وما أكثر المخاضات الطويلة المؤلمة لهذا النوع من المفاوضات التي لا تلد سوى اتفاقات تصبح هي في حد ذاتها، أداة للإلهاء عن جادة الصواب. وكم من مفاوضاتٍ استغرق فيها التحاور الطويل، الممل، المرهق للإعصاب، مدداً تُحسب بالسنوات، وحين تنظر إلى حصيلتها النهائية، تجد أن نقعها الكثيف الذي أثارته، لم يسفر إلا عن خلق مناخٍ جديدٍ، يمثل حلقة جديدة أفضل لخدمة أجندة الهيمنة الغربية! ولنأخذ مثالاً لذلك بـ "اتفاقية أوسلو"، التي تم توقيعها بين الفلسطينيين والإسرائيليين في العام 1993، ومر عليها حتى الآن سبعة عشر عاماً. فلا الدولة الفلسطينة المستقلة قامت، ولا قضية القدس تم حلها، ولا موضوع اللاجئين نوقش بشكلٍ جدي! ضاع حق اللاجئين في العودة، ودخلت قضية القدس في مدار جديد، خدم الأهداف الصهوينية في تهويد المدينة، وجعلها، بشقيها، عاصمة لإسرائيل. أما التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي المحتلة فلم يتوقف قط، بل أصبحت إسرائيل لا تبالي بإذاعة الخطط المتعلقة به على الملأ! فالناتج النهائي الحقيقي لاتفاقية أوسلو تمثل في موت المقاومة الفلسطينية بالتدريج، وموت الزعيم التاريخي ياسر عرفات بكل ما يمثله للفلسطينيين ولقضيتهم، وقيام جدارٍ للفصل العنصري. أكثر من ذلك، برزت غزة كقضية جديدة، خطفت الأضواء عن القضية الأساسية، مضيفةً عاملاً جديداً من عوامل خلق مزيدٍ من التباعد بين مواقف الدول العربية الداعمة للحراك الفلسطيني.
أما في السودان، فللنظر إلى ماذا أوصلتنا إتفاقية نيفاشا، التي تم توقيعها قبل سبع سنوات؟! وهي الإتفاقية التي هلل لها الجميع، حين توقيعها، وتنفسوا الصعداء، رغم ما بعثه فيهم حق "تقرير المصير" من مخاوف، تم تجاوزها بالآمال في جعل الوحدة خياراً جاذباً. تحت الهالة البراقة لتلك الاتفاقية وصل الدكتور جون قرنق إلى الخرطوم، وتم استقباله استقبال الأبطال الفاتحين، في تظاهرة شعبية لم تشهد لها الخرطوم مثيلاً، لا في تاريخها القديم ولا الحديث. ثم كان أن مات جون قرنق موتاً مفاجئاً غامضاً، وانقشعت سحابة الأمل الصيفية، وانقشع القتام، ولم نر في المحصلة النهائية شيئا! اللهم إلا نُذُراً بتجدد الصراع الذي يقود إلى مزيد من تبديد الطاقات، ومزيدٍ من الخراب! خلقت نيفاشا في ناتجها النهائي واقعاً جديداً أكثر وعداً بخدمة المخططات الغربية، في مدارٍ جديدٍ أكثر تعقيداً من سابقاته. مدار أصبح فيه كلُ من الشمال والجنوب ضحية جديدة في أفق جديد!!
يظن الجنوبيون الانفصاليون أنهم كسبوا من نيفاشا حق حرية القرار و"دولة الجنوب المستقلة"! غير أن حقيقة الأمر، فيما أرى، هي أنهم خسروا كلاً من الجنوب والشمال. وربما أجرؤ فأقول بأنهم خسروا أمن الإقليم كله، ولوقت طويلٍ مقبلٍ، إن جاءت نتيجة الاستفتاء في صالح الانفصال، الذي أصبح يرجحه كثير من المراقبين! فلو كان هدف النخب الجنوبية هو تحقيق أمن ورفاه المواطن الجنوبي، فإن مجرد الانفصال عن الشمال لا يؤدي إلي ذلك. خلق الرؤية الصحيحة التي تهدي نهج الحكم في القطر الموحد، هي التي تؤدي إلى ذلك. أما إن كان هدف النخب الجنوبية، الانفراد بحكم الجنوب، من أجل حشو الحسابات البنكية خارج الحدود بالدولارات، في أقصر وقتٍ ممكنٍ، شأنهم شأن كثيرٍ ممن سبقوهم من القادة الأفارقة، ومنهم قادة الشمال، فذلك هو الطريق المطروق والمضمون النتائج، لمثل ذلك الغرض. فنماذج النخب الإفريقية التي آثرت مصالحها على مصالح شعوبها، فراكمت الثروات، وتركت بلدانها قاعاً صفصفاً، غارقاً في أتون الفوضى، فإنها (على قفا من يشيل)! وما فتئ الناس في الشمال يتساءلون: كيف يا ترى جمع بعض متنفذي الشمال من الإنقاذيين كل هذه الثروات الضخمة، في هذا البلد الذي يُعد ضمن أحد أكثر الدول فقراً في العالم!
أخلص مما تقدم أن العنصر المهم في استقرار ونجاح بلد ما، إنما هو الرؤية التي توجه ذلك البلد، وليس الشكل الذي يكون عليه البلد. فلا السودان الموحد، ولا الجنوب المنفصل، ولا مثلث حمدي، تمثل عواملَ مقرِّرَةًً للحالة السودانية الأفضل. ما يقرر نماء القطر، واستقراره، ورفاه مواطنيه إنما هو نهج الحكم، وما يتسم به ذلك النهج من ديمقراطية وشفافية، ونزوع للعدالة، ومعرفة بالخيار الأفضل في هذا المفترق التاريخي الكوكبي. فصورة البلد الجغرافية صُغر فيها البلد أم كبُر، ربما لا تعني كثيراً. الاتفاقيات من شاكلة نيفاشا وما شابهها، اتفاقياتٌ لا يهتم رعاتها بالرؤية. بل هي ليست سوى واحدة من وسائل تعتيم الرؤية. هذا النوع من الإتفاقيات المرعية من القوى الكبرى، والتي تُستخدم فيها مختلف الضغوط على الأطراف المعنية، إنما هي اتفاقيات يتم تفصيلها بغرض خلق واقعٍ أكثر مواتاةً لخدمة أجندة الرأسمالية المعولمة في الزمان والمكان المُعَّينين. فالرؤية بالنسبة للغربيين محددة سلفاً، وتتلخص في إعادة نشر الرأسمال، وخدمة رفاه الإنسان الغربي على حساب بقية شعوب الأرض. كان ذلك هو الهدف منذ الهجمة الإستعمارية في القرن التاسع عشر. ولا أرى سبباً يجعلنا نظن اليوم أن أجندة الهيمنة الغربية القديمة قد تغيرت. ولا يغيب عن بالي أن الغرب لم يعد يمثل كتلةً واحدة. فأوروبا قد أخذت تتباعد رويداً رويداً عن المحور الأمريكي. غير أنها حين فعلت ذلك، لم تفعله حباً في شعوب الأرض المستضعفة، وحرصاً على رفاهها، وإنما لأن مؤشر المصلحة قد أخذ يشير نحو وجهةٍ جديدة. غيرت أوروبا مسارها لأنها قد بدأت تحس أن النهج الأمريكي الخشن قد أستنفد فاعليته، وأصبح أقل قدرةً على الصمود على المدى الطويل، وربما المتوسط، وأن محاور جديدة في طريقها إلى التشكل. محاور أصبحت تمثل فيها روسيا والصين واليابان والدول النامية التي بدأت تصحو هنا وهناك، عناصر جديدة لواقعٍ جديد هو قيد التشكل. والعاقل من ذهب إلى حيث تميل الكفة.
لحظة تاريخية مفصلية!
تقف أمتنا السودانية في هذه اللحظة التاريخية أمام منعطفين حاسمين كبيرين: أحدهما قطري، وهذا ما جرت مناقشته في الحلقتين السابقتين. أما الآخر فكوكبي. وهو منعطف أكثر حسما فيما أرى. وهو ما نقف عليه الآن في هذه اللحظة المفصلية الفارقة في تاريخنا السياسي والإقتصادي، وتقف معنا فيه كثير من الأمم الفقيرة، التي حبستها الهيمنة الغربية، قسراًً، في وهدة الفقر، ولزمانٍ طويل. يتعين علينا في هذا المنعطف الحاسم اختيار رؤية تنموية تستهدف الفكاك من أسر هذه الهيمنة، التي ترى أن رفاه الإنسان الغربي لا يمكن أن يستمر إلا على حساب غيره من سكان الأرض. يقول المفكر سمير أمين: ((انقلبت علاقة السببية في معادلة الوطني/العالمي. في الماضي كانت القوى الوطنية تتحكم بالحضور العالمي، أما اليوم فالعكس هو الذي يحصل. إنطلاقاً من ذلك، تمتلك المؤسسات العابرة للقوميات مصالح مشتركة في إدارة السوق العالمية، أياً كانت جنسياتها ... لقد أصبحت الإمبريالية جماعيةً فعلاً في بعدها الإقتصادي. وهذا، بنظري، تحوُّل نوعيٌ ثابت)). (سمير أمين، ما بعد الرأسمالية المتهالكة، دار الفارابي، بيروت، لبنان، 2003، ص 121). إذن، فإن ما يجب أن تنتبه له النخب المثقفة والجمهور هو موقف حكامها من هذه الصورة الجديدة التي تحدث عنها سمير أمين. فملاحظة سمير أمين تقودنا إلى ضرورة أن تمتلك الدول التي تنهض الآن، وهي تحاول انتشال شعوبها من وهدة الفقر، رؤيةً استراتيجيةً واضحة. فمنعطف انهيار الشيوعية، الذي فتح شهية النظام الرأسمالي إلى أقصى مدىً لها، لاستتباع الكوكب كله للإحتكارات الغربية، منعطف بالغ الخطورة، لأنه يمثل الحد الفاصل بين استدامة الإقامة في وهدة الفقر والعجز المزمنة هذه، وبين فرص الإنفلات والطلاق البائن منها.
رغم تغني جماعة الإنقاذ المستمر، بأنهم إنما يستمدون شرعيتهم من الصبغة الإسلامية، إلا أنهم في تطبيقاتهم العملية، فيما يخص صورة الدولة، وصورة العلائق المنضوية تحتها، إضافة إلى مسلك كثير من متنفذيهم، الذي يغلب عليه الفتون بالثراء وبالبريستديج، لا يتبدون للرائي الحصيف، سوى قومٍ مستتبعين بالكلية للنموذج الرأسمالي الحداثوي الغربي. بل، هم مستتبعون ومفتونون بأكثر صوره تنكيلاً بالإنسان، وذلك بغرامهم الشديد بالخصخصة المتسرعة، وتسريح العاملين، ورفع الدعم عن كل سلعة. إنهم منسجمون من حيث التوجه العام، مع فلسفة إقتصاد "السوق العولمية" المتوحشة، التي تريد بها القلة القليلة من الملاك الغربيين، إبتلاع كل شيء في الكوكب، واستتباع كل شيء. ومن حيث المسلك الشخصي فإنهم متماهون تماماً مع نهم النخب الغربية للتملك الفردي. ونحن لا نقول هذا رغبةً منا في الزراية بهم، وإنما نقوله بغية نقل التحاور معهم من حرب الشعارات غير المنتجة، إلى ساحات الحوار المنتج، الذي يفضي بنا، حكاماً ومحكومين إلى تبني رؤية مشتركة للتغيير، تجعل من الجميع مواطنين يحلمون أحلاما مشتركة وتؤرقهم هوم مشتركة، ويعملون بسبل متقاربة لغايات مشتركة. رؤية تستلهم فضاء المثل الإنسانية العليا، التي خطتها أصول الديانات الكبيرة، في تجلياتها الإنسانية الفسيحة، لا في مستوى عقائدها المنغلقة الضيقة التي صاغها تاريخاً لاهوت السيطرة، وتقنين الظلم. رؤية منعتقة من أسر الاستلاب الفكري للغرب الرأسمالي، الذي محق جهود البشر، وقضى على أجسادهم وأرواحهم في كل مكان.
السودان "المؤسلم" أم "المعولم"؟
ما يجري اليوم في السودان لا يمثل حتى هذه اللحظة سوى تجسيد عملي لإيمانٍ مفرطٍ بقوى السوق، بوصفها الناظم الأوحد للقيم ولتحقيق التوازن الإجتماعي. يقول المفكر المبصر روجيه غارودي عن اقتصاد السوق بشكله الحالي: ((إن ما يسمى اليوم "اقتصاد السوق" ليس سوقا تبرز فيه الحاجات على السوق، وتهدف فيه المبادرة الفردية إلى إشباع هذه الحاجات، فمن شأن ذلك أن يرد السوق إلى وظائفه الضرورية والسليمة. اقتصاد السوق، بشكله الراهن، اقتصاد تكون فيه السوق هي الناظم الوحيد للعلاقات الاجتماعية، وفيه يُشترى كلُّ شيء ويُباع بما فيه الإنسانُ وعمله. ويحدث حينئذ ما سماه "غالبيرت" "انعكاس السلسلة" إذ لا ينتج المنتج استجابةً لحاجة، لكنه يخلق حاجات (ولو كانت مصطنعة أو حتى منحرفة) ليمكِّن الإنتاج من التوسع الدائم)). (روجيه غارودي، نحو حرب دينية: جدل العصر. ترجمة صياح الجهيم، دار عطية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1996، ص. 14). وللتدليل على خلق إقتصاد السوق لحاجات منحرفة يمكننا أن نشير إلى الحروب المختلفة التي تغطي وجه الكوكب اليوم، والنزاعات الإقليمية المسلحة التي ما تنطفئ في مكان، حتى تشتعل في مكانٍ آخر. فكل هذه النزاعات ليست سوى نتاجٍ لمخططات محكمةٍ للابقاء على الهيمنة الرأسمالية، من أجل خلق سوقٍ أوسع للسلاح، وإيجاد فرص عمل للعاطلين في البلدان الصناعية الذين عجزت الرأسمالية من حل مشكلتهم، رغم إدارتها للعالم منذ قرون. (راجع مقدمة كتاب أشرف منصور، الليبرالية الجديدة، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ج.م.ع. 2008). وراجع كتاب سمير أمين (Capitalism Obsolescent ، الصادر من Zed Books، لندن ونيويورك، 2003، ص 83).
ما هي الرؤية المركزية الموجهة لحكومتنا؟ وأعني هنا ما يسمي في العمل المؤسسي بالـ vision. فحكومتنا في شمال السودان، تزعم أنها (حكومة إسلامية)، وتزعم أنها تريد أن ترسخ للقيم الإسلامية. فما هي القيم الإسلامية يا ترى؟! أين يقف فهمنا للإسلام في هذا المنعطف التاريخي؟! هل الإسلام هو مجرد إطلاقٍ لِلِّحَى، وإظهارٍ للمسبحات، وللثفنات على الجباه، وزحمٍ للقنوات الفضائية بالمظاهر الدينية الخالية من الروح، ومن المعنى، أم هو قبل كل شيءٍ معرفة بالقوانين الكلية الموجهة لحركة عناصر الطبيعية ولحراك الحياة الإنسانية على الأرض؟ رؤية كلية يتأسس عليها بشكل عضوي بسط للعدل، وبسطٌ للأمن، وتحقيقٌ للرفاه العام، ودرءٌ للمظالم عن الناس؟
من العدل القائم على الرؤية الكونية الروحانية كبح جماح الطبقية الفالتة، ومنه أيضاً تحقيق التكافل، والأخذ بيد الضعيف. وهذا لا يُقال اليوم كما كان ُيقال في الماضي، حين كان الفقراء والمحتاجون يُحالون إلى بيوت الصدقة. وإنما يُقال في أطر استصحاب التغيير المؤسسي في عصر المؤسسات. فحق التعليم، وحق العلاج، وحق السكن، وحق الحد الأدنى من العيش، لابد أن يتم حلها مؤسسياً، لا إعلامياً، أو عن طريق الإحالة إلى المؤسسات الخيرية، التي أصبحت وسائل جديدة لثراء الأفراد.
في التدين الصحيح لا تهزم الوسيلة الغاية، وإنما تعمل الوسيلة، ومنذ الوهلة الأولى في خدمة الغاية. بعبارة أخرى، أنت لا تضحي بالبشر الموجودين الآن على وجه البسيطة، بالتخصيص والتسريح من العمل، لكي يجني الثمرات البشر الآتون غداً. فكل إنسان إنما هو غاية في ذاته. أيضاً، في الاسلام الأصيل الذي لم يلحق به تزييف الحكام، لا يُثري الحاكم منذ البداية، مترخصاً لنفسه في حق الثراء، مضللاً نفسه والناس بأن ثراءهم آتٍ في الطريق، وما عليهم سوى أن ينتظروا!! فإن كانت وعود الحاكم للناس بالثراء والفرج القادم، حقاً وصدقاً، فلماذا لا ينتظرها هو مع المنتظرين؟!
الرأسمالية "خشم بيوت"!
ما من شك أن الوفرة التي تمكن من تحسين حياةِ سائر الناس تحتاج نهضةً شاملة. والنهضة تحتاج في المبتدأ نهجاً رأسمالياً. فلا أحد يريد تكرار فشل التجارب الإشتراكية التي سادت الكتلة الشرقية، في النصف الأول من القرن العشرين. ولكن لابد لنا، ونحن ننتهج نهجاً رأسمالياً، أن نفصل بين توجهنا الرأسمالي الذي يجب أن نعي منذ البداية أنه توجه مرحلي، وبين توجهات الرأسمالية المعولمة التي تظن بنفسها الخلود، والتي تريد أن تهدف إلى إخراج كل المنتجين المحليين في بقاع العالم من المنافسة، وتريد أن تستتبع الدولة الوطنية، والشركات الوطنية في الدول لتضعها تحت سيطرتها الكاملة، ولتجعل منهما حليفاً محلياً لها، منتفعاً منها، تستخدمه ضد مصالح المواطنين. هذا، باختصار شديد، هو خطر توطين الإمبريالية الذي يجب أن نواجهه اليوم قبل الغد.
في مثل هذا الوضع يمكن أن يتحول الحاكم الوطني، والحكومة الوطنية، والشركة الوطنية، إلى مجرد ممثلين للقوى الخارجية. هذا هو تلخيص المنعطف الخطير الذي نقف عليه الآن. فبقاء الجنوب مع الشمال، أو انفصاله عنه، لا يعنيان، من الناحية العملية شيئاً، من دون اعتبار للرؤية المركزية الموجهة للمسار. فلا انفصال الجنوب يمثل غاية في ذاته، ولا بقاء السودان موحداً يمثل غاية في ذاته. فلو انفصل الجنوب، أو بقي السودان موحداً، ما يهم حقيقة هو الرؤية المركزية، ونهج الحكم وفلسفته.
لن يجني المواطن العادي حين تقع بلاده في فخ العولمة، أكثر من مجرد الرؤية من على بعد لناطحاتِ السحابٍ البراقة، وهي تشرئب بأعناقها في مراكز العواصم، أو يرى المطاعم والمقاهي معولمة المظهر والأسعار، التي لا يطالها سوى القليلين. ويصاحب هذا المنظر ـ الذي لن يكون أكثر من مجرد منظر لغالبية الناس ـ ازدياد متسارع لأحزمة الكرتون والصفيح حول خواصر هذه العواصم المعولمة. والذي تنوي حكومة الانقاذ فعله الآن بمشروع الجزيرة، بدفعها للمزرارعين للاستدانة من المصارف، لتمويل عملياتهم الزراعية، وهشهم في تلك الوجهة بالعصا الغليظة، لن يقود في نهاياته المنطقية، إلا إلى نزعٍ تدريجي لأراضي المزراعين، والدفع بهم، مثل غيرهم، إلى أحزمة الفقر حول المدن. ولا حاجة بي إلى شرح التداعيات الإجتماعية الفظيعة التي يمكن أن تنتج من مثل هذه النقلات الفجائية، وهذا الاقتلاع القسري للناس من جذورهم وبيئتهم التي عاشوا فيها صاغراً عن كابر.
تفتقر نخبنا المتنفذة في الجنوب وفي الشمال إلى فهم الكيفية التي تُرسم بها الاستراتيجيات، وتُدار بها الدول. فنخبنا هذه، في الشمال، وفي الجنوب، نخب قفزت إلى السلطة بليل. يستوي في ذلك منهم، من أتي إلى الحكم من على ظهر دبابة ومن امتشق بندقيتةً ودلف إلى الغابة رافعاً شعارات تحرير المهمشين. كلهم جاءونا من علٍ وخلقوا واقعاً على الأرض، أصبحنا مجبرين على التعاطي معه. هذه نخب وضح أنها تخلط بين الشخصي والعام خلطا وبيلاً. كما أنها شديدة الوثوق في ما تقوم به، ولا يخالطها شك أن خيوط اللعبة كلها في أيديها، وحدها. فالآخرون غير موجودين لديها إلا حين يحملون السلاح! نحن الآن في هذا المنعطف الذي يتعين علينا فيه إدارة كل هذه الشؤون والشجون المتشابكة بحكمة وبروية، والخروج من المأزق بأقل الخسائر الممكنة. لابد أن تكون قضايا البلد الجوهرية، وقضايا الإحياء الفكري والثقافي في صلب مناهج الدراسة في الجامعات والمدارس، ومراكز الأبحاث، وفي دوائر رسم الرؤية الاستراتيجية، كما يجب أن تكون شأنا مركزياً في ما تناقشه المنتديات العامة وسائر وسائط الإعلام.
لا سبيل إلى نهوض حقيقي يقيم البلاد من أطرافها إلا بالحوار الموسع. وأعني هنا: الحوار الذي يتعدي المماحكات المملة حول تفاصيل الاتفاقيات الملغومة، إلى القضايا الجوهرية المتعلقة بإخراج الأمة من حالة الموت الفكري والأخلاقي الطويلة التي ظلت ترزح فيها. هذا الموات الفكري، والثقافي، والأخلاقي هو الذي أنتج لنا هذه النخب المسيسة المتنفذة التي لا ترى أبعد من أنوفها. هذه النخب المسيسة بلا علم وبلا أخلاق، هي التي بددت أحلام الأمة، وقتلت روحها، وأدخلتها في هذه الأجحار المظلمة العطنة. فإن لم نستيقظ الآن، فإن هذه الأجحار سوف تمتلئ بمزيدٍ من الماء الآسن!