الجنائية وعقلية المحرقة اليهودية… بقلم كمال الدين بلال
5 January, 2010
kamal.bilal@hotmail.com
التهديدات التي أطلقها مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية «لويس أوكامبو» أمام مجلس الأمن الدولي بملاحقة كل من ينكر أو يشكك في وقوع جرائم في إقليم دارفور بالرغم من أنها موجهة للسياسيين السودانيين إلا أنه بإمعان النظر في دلالة ألفاظه والمكان الذي أطلقت منه يتضح أنها عبارة عن رسالة موجهة للمجتمع الغربي عملا بمبدأ (إياك أعني وأسمعي يا جارة). فأوكامبو لا يمتلك آلية لملاحقة المشككين والمنكرين حيث لا يوجد لديه قانون يستند عليه وفقا للمبدأ القانوني الثابت لا عقوبة بلا نص، فمحكمته يفترض فيها ألا تكون محكمة لتفتيش الضمائر، فميثاق روما المؤسس للمحكمة لا يشتمل على نص يسمح بملاحقة منكري الجرائم التي تقع تحت اختصاصها، كما لا يوجد في أية دولة في العالم قانون وطني يلاحق المنكرين أو المشككين في وقوع الجرائم وذلك باستثناء قوانين بعض الدول الغربية التي تجرم إنكار وقوع المحرقة اليهودية التي ارتكبها النازيون في حق الجالية اليهودية في أوروبا في معسكرات التعذيب حيث استخدمت أفران الغاز لحرق الجثث وفقاً للمفهوم الديني اليهودي للقرابين (الهوليكوست).
هذا ينقلنا إلى الهدف الحقيقي لرسالة أوكامبو فالألفاظ التي استخدمها في تهديده بملاحقة (المشككين) و (المنكرين) لوقوع الجرائم مصطلحات ترجع جذورها وتغور أبعد مما تبدو للسامعين، فهي مرتبطة في الوعي الجمعي المضمر للغربيين وتعود بهم إلى نشوء مفهوم المحرقة بصفتها عملية إبادة جماعية منهجية مارسها النازيون في حق اليهود بدعوى أنهم قوم أدنى منهم إنسانية. وليست هي المرة الأولى التي يربط فيها أوكامبو بين جرائم دارفور والمحرقة اليهودية فقد سبق له عند توجيهه للاتهام للرئيس السوداني «عمر البشير» ذكر (وجود خطة شيطانية منهجية لإبادة) القبائل الأفريقية في إقليم دارفور (الفور، والزغاوة والمساليت). وهو نفس الوصف الذي وصفت به خطة النازيين التي بدء في تنفيذها في ليلة الخناجر والتي تعرف بخطة الحل النهائي التي أقرت إبادة اليهود، حيث أنطلق مارد العنصرية البغيض من قمقمه وفتح أبواب جحيمه على يهود أوربا، وقال «أدلف هتلر» قولته الشهيرة بعد تنفيذ تلك الخطة الشيطانية: (تركت لكم بعض اليهود لتعرفوا لماذا كنت أقتلهم و أعذبهم أشد العذاب).
أصر أوكامبو على استئناف قرار الدائرة التمهيدية بعدم توجيه تهمة الإبادة الجماعية للرئيس وهي ما يعرف في القانون الدولي بجريمة الجرائم لفظاعتها، ويعكس هذا الإصرار مصلحته في ربط الحدثين لتحقيق عدة أهداف أولها أن استخدامه لعبارات مرتبطة بالمحرقة اليهودية في وصف حالة دارفور فيه تحريك لعقدة الذنب لدى الأوروبيين حيث سمحوا للنازيين بسحب اليهود من بيوتهم في ظل صمت جيرانهم وتواطؤ مجموعات محلية ووشايتها. ثانيا: في ذلك حث للغربيين لزيادة الضغط على حكوماتهم لضمان عدم إعادة ترتيب أولوياتها وزحزحة قضية دارفور من أعلى أجندتها وذلك عملا بمبدأ نفخ الكير كلما خبت النار. هذا مع العلم بأنه متى أقر مجلس الأمن بوقوع جريمة إبادة جماعية في أي مكان في العالم فإن المجتمع الدولي ملزم بالتحرك وفقا لمبادئ القانون الدولي. ثالثا: في التهديد بملاحقة المنكرين والمشككين إلجام للأصوات الغربية التي تعمل في المنظمات الإنسانية في دارفور والتي أشارت إلى تراجع العنف وانخفاض عدد الوفيات الناتجة عن العمليات العسكرية مقارنة بضحايا العنف القبلي في جنوب السودان. رابعاً: في عملية تجريم التشكيك فرض قيود على حرية التعبير كمحاولة لحفظ التوازن الإعلامي بين المحكمة والمؤسسة الإعلامية السودانية خاصة بعد فقدان المحكمة لبعض مصادر معلوماتها نتيجة لطرد السودان لبعض المنظمات الطوعية الغربية.
لا بد من إدراك أن لتجريم التشكيك في حجم جرائم دارفور أو طبيعتها تبعات خطيرة، أولها تثبيت لما يردده أوكامبو من وقوع إبادة جماعية كحقيقة تاريخية غير قابلة للمراجعة والتحقق كما تقتضي قواعد البحث العلمي وذلك بالرغم من أنه يظل ما يردده بموجب التصنيف القانوني اتهامات مدعي عام وليست إدانة من قبل قضاة. ثانياً يتضمن التجريم رسالة سياسية وإعلامية مصاحبة للبعدين التاريخي والقانوني لمفهوم الإبادة الجماعية بحيث ستصبح التهمة وصمة عار مصاحبة للسودان تطوقه بحبل من مسد لن يستطيع لها فكاكا حتى بعد زوال النظام الحاكم الحالي. ثالثا في تجريم التشكيك والإنكار قلب لعبء إثبات تلك الجرائم بحيث يصبح مطلوباً ممن يشكك في وقوعها أثبات عدم وقوعها وهذا يخالف مبادئ الإثبات المتعارف عليها. رابعا إمكانية اتخاذ موقف المدعي العام المعلن كأداة لتبرير الجرائم التي قد ترتكبها أية مجموعة مسلحة تنتمي للقبائل الدارفورية المذكورة بحق الآخرين، فهذا التصنيف يجعل من ينتمي لهذه القبائل ضحية أو وكيلاً حصرياً للضحايا وبالتالي يصعب مع ذلك اتهامه بارتكاب جرائم كونه في حالة دفاع عن النفس.
لقد اخطأ أوكامبو كعادته في الدخول في هذه المناورة السياسية وربطه غير الموفق لما حدث ويحدث في دارفور بالمحرقة اليهودية وذلك لعدة أسباب أولها أن قضاة المحكمة الجنائية لم يفصلوا بعد في أية قضية تتعلق بالجرائم التي ارتكبت ضد القبائل المذكورة، والقضية الوحيدة التي ينظر فيها القضاة حاليا ارتكبت ضد قوات حفظ السلام الأفريقية، ثانيا تتضارب التقارير الدولية حول عدد ضحايا دارفور بينما يوجد شبه إجماع دولي على أن ضحايا المحرقة بلغوا ستة ملايين يهودي وتوجد ملايين الوثائق والصور المحفوظة في أرشيف الدول الغربية إضافة لاعتراف بعض الجناة وإدانتهم من قبل محاكم مختصة. ثالثا جاءت تصريحات أوكامبو في وقت ارتفعت فيه بعض الأصوات الغربية المطالبة بمعالجة الوضع القانوني الشاذ الذي أنتجته الحماية القانونية الاستثنائية لوقوع المحرقة كحدث تاريخي حيث تكفل الدساتير الغربية حرية التعبير لدرجة السماح بإنكار أو التشكيك في وجود الخالق والإساءة للأنبياء والمقدسات الدينية كما حدث في الدنمارك وهولندا بينما يجرم القانون إنكار أو التشكيك في المحرقة. وقد وصل التشدد في تفسير مفهوم إنكار المحرقة لدرجة إدانة المحاكم الأوروبية لكل من يحاول أن يشكك حتى في عدد الضحايا، ومن أهم الشخصيات التي عوقبت لهذا التشكيك المؤرخ البريطاني «ديفيد ايرفنج» والمفكر الفرنسي المسلم «رجاء جارودي» الذي أعتبر المحرقة مجرد صناعة يهودية لابتزاز العالم ونهب ثرواته. كما أدت الضغوطات التي مارسها المجلس اليهودي العالمي على بابا الفاتيكان بندكتوس السادس عشر الألماني الجنسية لتغيير موقفه من رفع الحرمان الكنسي عن الأسقف البريطاني «ريتشارد وليامسون» الذي شكك في وجود غرف للغاز وأتهم اليهود بتهويل عدد ضحايا المحرقة. ويرى المؤرخ النمساوي «لوثار هوبلت» البروفسور بجامعة فيينا أن من الخطأ تطبيق قانون يعاقب طرح تساؤلات عن حدث تاريخي. وعلى المستوى السياسي طالب «مارك روتا» زعيم الحزب الليبرالي الهولندي بتوسيع إطار حرية التعبير لدرجة إلغاء تجريم إنكار المحرقة. رابعا وأخيرا لن يرضى غلاة اليهود الذين يرفضون منح شرف الهوية اليهودية إلا بالأم تشبيه ما حدث لهم إبان المحرقة بما حدث في دارفور فهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار ولا يحق مقارنتهم بغيرهم حتى في كيفية الموت.
لاهاي