برد الغربة ودفء الأفئدة الاستوائية
14 January, 2010
تمر بأوربا هذه الأيام موجة صقيع وعواصف ثلجية شلت الحياة العامة وأرجعتها للعصر الجليدي، وأودت بحياة كثيرين ونفوق بعض الحيوانات، كما رفعت معدلات الاكتئاب بين المواطنين. أجد نفسي وأنا الكائن الاستوائي الهوى والفؤاد أستيقظ كل صباح وحالي يدعوني ألا أنفر للعمل وأن أرضى بأن أكون من الخوالف. هذا الطقس الموحش يجعلني أتساءل عن مغزى هذه الغربة في بلاد، أجبر البرد حيتانها ألا تكتفي بالموت الطبيعي فاختارت الانتحار الجماعي على الشواطئ. شكل الثلج الأبيض وهو يغطي الأرض يجعلني أشعر بالوحشة ولا يشفع لي أنه يذكرني بأيام لقيط القطن في جزيرتنا الخضراء حين يتساقط على الأرض السمراء فيكسوها هيبة كهيبة شيب الشيوخ الذي هو وقار. وعندما أمعن النظر في البحيرات وقطع الثلج المتراصة فيها كالزجاج المهشم الذي يكون لوحة سريالية تجسد روعة الخالق تعطيني الانطباع بأن طيور النورس المتجمعة تتعبد في محرابها ولكن لا أفقه تسبيحها.
في هذه الأوقات من كل عام أتأمل حال السودانيين الذين يعيشون في بلاد لم يعتادوا على طقسها ناهيك عن عاداتها، فأجدني ألعن الظروف التي جعلت بلادي تضيق بأبنائها وترميهم إلى الموانيء كأنهم أوساخ بحر وذلك بالرغم من أن فيهم درراً تحتفل كثير من الدول الأخرى بمواهبهم، فزامر الحي لا يطرب، وصدق الإمام الشافعي حين قال: التبر كالتراب ملقى في أماكنه والعود في أرضه نوع من الحطب. هذا الواقع المرير جعل بعض أبناء السودان في المهاجر تقسو قلوبهم في حب وطنهم دون مراعاة إلى أنه يعاني من أزمة منتصف العمر، فبرروا لأنفسهم الهرولة أبقين مغاضبين إلى فلك وأحضان الأجنبي فأصبح بعضهم (مخصيين ثقافيا) بلا جذور ولا إحساس بسودانيتهم.
شكل الصقيع الأبيض المنفوش كالقطن قادني إلى حالة (نستليجيا) محببة إلى نفسي فيها نوع من السلوى واغتراب الذات عن الواقع الكئيب، فتذكرت حادثة وقعت لي مع زميل الدراسة والسكن «نصر محمد أبو زيد» ابن ود مدني الجميلة (ونفسي مشتهية ود مدني)، فقد كنا في داخلية النيل الأزرق ونحن طلاب في السنة الأولى بكلية القانون جامعة الخرطوم في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وقد لاحظت ذات يوم نصراً وهو في حالة انجذاب غريبة لهته عن المذاكرة يتأمل طبقات من السحب الركامية البيضاء المتحركة في السماء كالجبال، فسألته عن سر شروده، فرد عليّ بأنه توصل إلى نظرية عن كيفية قيام يوم القيامة، وشرح لي نظريته التي أسميتها فيما بعد تهكما بنظرية (النفش)، مهد لنظريته بالقول إن الله قد جعل لكل شيء سببا، وعليه سيقوم رب العزة بتقريب القمر إلى الأرض مما سينتج عنه زيادة في ظاهرتي المد والجذر فتفيض الأنهار والبحار وتنهد الجبال ويطير البشر كالفراشات التي تحوم حول النيران المشتعلة بفضل ازدياد درجة الجاذبية في الأرض، واستدل على نظريته بقول الله تعالى (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ). وكما هو معلوم فإن كلمة َالْعِهْنِ تعني القطن والصوف عندما يضرب وتنشره الرياح. رد الله غربة الصديق «نصر محمد أبو زيد» فقد كان هدية الفلسفة للقانون ولا أقول ضل طريق كلية الآداب فوجد نفسه في كلية القانون المجاورة. وسامحني الله فقد ضحكت حينها من نظريته وحذرته من مصير العالم «جاليليو» أمام محاكم التفتيش حين قال بنظريته بأن الأرض تدور حول الشمس، وكانت تلك الفترة قد شهدت إعدام الأستاذ «محمود محمد طه» لآرائه الفقهية المثيرة للجدل.
تذكرت نظرية (النفش) تلك، في هذه الأيام والسماء والأرض مكفهرتان بفضل الرياح التي تقتلع الأشجار والثلوج المفروشة كالبساط الأبيض والطيور تبدو حائرة وهي تبحث عن رزقها وهي ترتعد من البرد، في هذه الأجواء فقط فهمت معنى مصطلح (البيات الشتوي) الذي قرأناه في الكتب. ومن المفارقة أنني أشكو همي وحزني إلى القراء من وحشة الصقيع، بينما أتذكر أول مرة رأيت فيها تساقط الثلوج حقيقة لا مجازاً في سويسرا في العام (1993)، وكنت حينها فرحا بها كالطفل الذي حصل على لعبة جديدة، وصرت أفتح فمي حتى أتذوق طعمها وأتركها تعلق في شعري ومعطفي، ووقعت في اليوم التالي عدة مرات على الأرض وأنا أحاول المشي، وكنت أتعجب لهؤلاء الفرنجة وهم يمشون بكل ثبات وبعضهم يمارس هواية التزلج على الجليد والأطفال يرمون بعضهم بكرات ثلجية وهم يتضاحكون بكل براءة، فتذكرت أيام طفولتي في المناقل المعطاءة ونحن نرمي بعضنا بالطين في الخريف عقب كل مطرة، وكنا قد تعلمنا حركة خبيثة من رفيق الطفولة «عثمان إسماعيل أندلي» حيث كان يضع حجارة صغيرة في وسط كرات الطين فيدمي رؤوس بعض الأطفال الأبرياء. تلك الذكريات المحببة إلى نفسي جعلتني أردد مع عقد الجلاد:
أيدينا يا ولد أيدينا للبلد
الغربة إن شاء الله تعقري يا تعدمي المال الفقري يا تعدمي
الشيك الخضري والله شلتي العيال من بدري والله شلتي
كان اخويا البره جانا والله يصلح الحال معانا والله يصلح الحال معانا
شن الغربة المأخرانا شن الغربة
لاهاي