دارفور .. التسوية ممنوعة قبل الانتخابات … بقلم: خالد التيجاني النور
30 January, 2010
tigani60@hotmail.com
ما الذي يجري في الدوحة بشأن مفاوضات تسوية أزمة دارفور؟, ما يحدث بالضبط قبل الدخول في أية تفاصيل هو كل شئ إلا ما يؤدي فعلاً للوصل إلى تسوية نهائية تطوي ملف أزمة الأقليم. وسؤال آخر لماذا تتعثر المفاوضات, ومن هو المسؤول عن ذلك, وسؤال أهم من هي الجهات المستفيدة من عرقلة حلحلة الأزمة؟ ذلك ما نرجو أن نجد له إجابة في هذا المقال.
ولعله من المفيد هنا الإشارة أولاً إلى أن دولة قطر التي تستضيف المفاوضات وتشارك في قيادة الوساطة بين فرقاء أزمة دارفور بدعم دولي, بذلت كل ما يمكن من جهود حثيثة لضمان تهيئة أجواء مواتية لمفاوضات جادة لمثمرة, ولكن مع ذلك تتعثر المفاوضات لأسباب ليس من بينها تقصير قطري.
ومن المهم كذلك التذكير بأن منبر الدوحة التفاوضي يأتي تحت مظلة الممثل المشترك للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي جبريل باسولي المكلف بإيجاد تسوية سياسية لأزمة دارفور عبر المفاوضات, وهو جهد انضمت إليه الجامعة العربية ليصبح منبر الدوحة متمتعاً بدعم وتنسيق دولي وإفريقي وعربي معلن, ولكن وبعد مرور أكثر من عام من إطلاقه فإنه يصعب القول أن تقدماً حقيقياً أو اختراق قد حدث في جدار الأزمة الشائكة, لقد بدأ المنبر بمفاوضات ثنائية بين الحكومة وحركة العدل والمساواة أثمرت اتفاقاً إطارياً ما لبث أن دخل ثلاجة التجميد السياسي, وتجري محاولات لتوسيع قاعدة التفاوض, ولكن ذلك تحول إلى سبب إضافي لعرقلة حتى ما أحرز من تقدم وإن كان محدوداً.
من الصعب المسارعة للتكهن بمآلات ومصير جولة الدوحة الحالية, كما أنه من الصعب القول بأنها انهارت قبل أن تبدأ, ولكن المعطيات المتاحة حالياً تشير بوضوح إلى أن أكثر الاحتمالات وروداً حتى الآن هو أن الوصول إلى تسوية نهائية لأزمة دارفور قبل موعد الانتخابات العامة المققررة في منتصف أبريل المقبل أصبح ضرباً من المستحيل, ليس فقط بسبب عامل الزمن المحدود المتبقي, بل بسبب عدم توفر الإرادة السياسية لبعض الأطراف لتحقيق هذا الهدف في ظل المعادلات والأوضاع السياسية الراهنة في السودان.
وما يرجح احتمال فشل التوصل إلى تسوية قبل الانتخابات, تلك المتاعب التي تواجه جولة الدوحة الحالية وتمنع انطلاقتها, ومن المهم هنا التذكير بأن هذه الجولة أعلن عن جدولها منذ وقت طويل, وقد جرى تأجيلها أكثر من مرة حتى موعدها الأخير لإحكام التحضير لها, وعنوانها الرئيس هو الدخول في محادثات التفاوض مباشرة, وبفهم انها ستكون الجولة الأخيرة المفضية إلى اتفاق نهائي, غير أن جدول أعمال الجولة تعثر منذ البداية بإلغاء اجتماع مشاورات المجتمع المدني الدارفوري, ثم ما لبث أن تعثرت بداية جولة التفاوض الفعلية حتى بعد قدوم عدد من أطراف الأزمة, لتعود الأمور إلى نقطة الصفر مجدداً ولتتحول جولة التفاوض المفترضة إلى جولات للتشاور المكوكي بين الأطراف على خلفية التنازع حول الأطراف المؤهلة لمشاركة في المفاوضات.
لقد كان من المفترض أن تكون مرحلة المشاورات قد جرت بالفعل خلال الأشهر الطويلة الماضية, ومن المفترض أن جدول المفاوضات أعلن بعد اكتمال تلك المشاورات, وأن الأطراف أتت للدوحة للتفاوض الموضوعية حول القضايا محل التسوية, ولكن عاد فتح التشاور حول موضوعات إجرائية مما قاد للتأجيل الفعلي لإطلاق جولة الدوحة التي كان يؤمل أن تكون هي الأخيرة التي تقود إلى تسوية نهائية قبل حلول موعد الانتخابات العامة, وفي ذلك إخفاق واضح لا مراء فيه, ولكن من هو المسؤول عن هذا الإخفاق؟.
من المؤكد أن مسؤولية الإخفاق تقع على الأطراف جميعاً, الوساطة الدولية, والحكومة والحركات المسلحة في إقليم دارفور, ولعل ذلك يقود إلى تساؤلات وشكوك حول جدوى النهج السائد في محاولة حلحلة الأزمة. مما يتطلب فحص وتقييم ومراجعة جذرية لمواقف هذه الأطراف المختلفة.
وبداية بالدور الدولي فإن الوقائع تشير بوضوح إلى فشله الصريح في الإسهام جدياً في الوصول إلى تسوية سياسية ونهائية لأزمة دارفور, وهو فشل غير مبرر إلا لحاجة في نفس يعقوب, وكما هو معلوم فإن التدخل الدولي على خط أزمة دارفور يرتكز على ثلاثة أضلاع ففي حين يسجل حضوراً مؤثراً ونجح بدرجة كبيرة في فرض أجندته في ضلعي الشؤون الإنسانية, ونشر القوات الهجين, فإنه على مدار السنوات الست الماضية وعلى الرغم من كل التركيز والاضواء التي حظيت بها مأساة دارفور فإن الدور الدولي لم يسجل نجاحاً يذكر على صعيد التسوية السياسية, والسؤال الملح لماذا امتلك المجتمع الدولي القدرة على فرض تدخله في فرض أجندته في العمليات الإنسانية, وفي فرض تدخل عسكري عبر قوات يونميد ثم يبدو عاجزاً عن فرض أجندة التسوية السياسية وحمل الأطراف على الدخول في مفاوضات جادة وحاسمة تنهي المعاناة والمأسي لمواطني دارفور بسبب الحرب الأهلية, والمنطق يقول أنه مع ضرورة الاهتمام بالآثار الإنسانية المأساوية التي أفرزتها الحرب, ولكن مع ذلك يجب أن تكون الأولوية بلا منازع لنزع فتيل الحرب, ومعالجة جذور الأزمة عبر مفاوضات سياسية تعترف جميع أطراف النزاع بأنها السبيل الوحيد لتسوية نهائية, ومع ذلك فالمحاولة الوحيدة الشاملة التي أنتجتها اتفاقية أبوجا تبددت لسبب اساسي هو رفع الأطراف الدولية, التي اسهمت في الوصول إليها, يدها عنها لتتعثر أكثر بالتفاف ومماطلات الأطراف الموقعة على التزاماتها.
لقد امتلك المجتمع الدولي الإرادة الكافية لفرض أجندة التدخل الإنساني والعسكري بعد ضغوط عنيفة وقوية على الحكومة السودانية التي رضخت لها في نهاية الأمر وإن تم ذلك بصيغ مخففة من ناحية الشكل, ولكن بالتأكيد ليس من ناحية مضمون تلك التدخلات, ولكن يلاحظ أن المجتمع الدولي لم يفرض تلك الإرادة على الحركات المسلحة لحملها للجلوس للتوصل إلى تسوية سياسية عبر المفاوضات, ولعل مرد ذلك من جهة إلى أن الأطراف الدارفورية في النزاع لم تتجاوب مع المطالب الدولية بشأن التفاوض لأنها تريد إخضاع الحكومة للمزيد من الضغوط الدولية بغرض دفعها للاستجابة لشروطها ومطالبها, على غرار استجابة الخرطوم تحت الضغوط لأجندة التدخل الإنساني والعسكري, لتقدم تنازلات كبيرة في التسوية السياسية ليكون الجلوس للتفاوض لحصد ثمار هذه التنازلات وليس التفاوض بشأن القضايا محل النزاع.
ولعل ما يفسر نجاح المجتمع الدولي في فرض تدخله الإنساني والعسكري يعود إلى أن هناك ثمة حد أدنى من الاتفاق بين الأطراف الدولية بهذا الشأن, بيد أن الخلاف بين هذه الأطراف بسببب تباين المصالح التي تريد تحقيقها من خلال التسوية السياسية لأزمة دارفور هو الذي أدى لأن يفتقر المجتمع الدولي للتناغم المطلوب في هذا الخصوص مما تسبب في تعطيل قدرته على فرض أجندة موحدة بشان التسوية السياسية وتحريك أطراف النزاع والضغط عليهم لتحقيقها إذا كان الغرض فعلاً حل جذور الأزمة لصالح الضحايا البؤساء من مواطني الإقليم, ولكن ما يحدث فعلاً أن بسطاء دارفور الذين يُرفع قميص عثمان من أجلهم تستخدم مأساتهم في الواقع لتمرير أجندة أخرى, وتأتي مهمة إنقاذهم في آخر سلم أولوياتها.
وثمة ثلاثة توجهات دولية وإقليمية بشأن أزمة دارفور, توجه يريد استغلالها لتغيير المعادلة السياسية الراهنة في السودان إما بإعادة هيكلة جذرية لسلطة المؤتمر الوطني الحاكم تبقيه ضمن اللعبة بقدر ولكن دون الذهاب إلى حد الإطاحة به خشية أن تكون عواقب ذلك انفلات للأوضاع لا يمكن السيطرة عليها, وتوجه ثان لا يرى بديلاً من أن يكون ثمن إنهاء أزمة دارفور الإطاحة بالنظام من جذوره دون اعتبار لما قد يخلفه ذلك من آثار وربما لا يؤمن هذا الفريق أصلاً بأنه لن تكون هناك آثاراً سلبية لذلك, وتوجه ثالث يريد معادلة تسوية تقدم فيها تنازلات متبادلة ولكنه في الوقت نفسه يريد أن يدفع النظام ثمناً مقبولاً للخروج من الأزمة.
ومن المؤكد أن تقاطع المصالح الدولية والإقليمية حول أزمة دارفور هو في الواقع ما يعطل عجلة التسوية السياسية بدرجة كبيرة, وما مسألة المحكمة الجنائية الدولية وتداعياتها, والانقسام الامبيبي للفصائل الدارفورية إلا مظاهر تكشف طبيعة توجهات الأطراف المختلفة, وما تجب الإشارة إليه هنا أن الأطراف الدولية الأكثر تأثيراً, والمقصود هنا بالطبع الدول الغربية الحاملة لواء المحكمة الجنائية الدولية التي تقودها ترويكا واشنطن ولندن وباريس, تتحمل الدور الأكبر في عرقلة جهود التسوية, لأن الدخول في مفاوضات لإنهاء الأزمة بالمعطيات الحالية يتقاطع مع توجهها الهادف إلى إلى إعادة هيكلة النظام في الخرطوم بصورة جذرية على الأقل إن لم تكن بعضها تريد الإطاحة به.
ومن باب السذاجة السياسية أن يتوقع أحد في الخرطوم أن تكون جولة الدوحة المنتظرة ستقود بالفعل إلى تسوية نهائية لأزمة دارفور نحو ما صرح به بعض المسؤولين في الحكومة, فالتوصل إلى تسوية تنهي أزمة دارفور في هذا التوقيت بالتحديد, بين يدي الانتخابات العامة الوشيكة, سيصب بلا شك في مصلحة المؤتمر الوطني ويعزز فرصه في تلك الانتخابات, فهل يعقل أن تقدم الدول الغربية المتمسكة بإجراءات المحكمة الجنائية الدولية, وخصوصاً قرار توقيف الرئيس عمر البشير, هدية مجانية له في الوقت الذي لم يتجاهلها فحسب بل تحداها بالترشح لولاية جديدة؟.
والحال هذه فإن الدول الغربية لن تسمح بحدوث تسوية نهائية لأزمة دارفور لتفقد أهم ورقة ضغط بيدها على النظام في الخرطوم, ومن الواضح أنها تريد إبقاء الملف مفتوحاً, فإذا جرت الانتخابات وأسفرت عن فوز البشير وهو ما لا ترغب فيه بالتأكيد ستلجأ إلى استخدم ورقة دارفور والمحكمة الجنائية الدولية للاستمرار في فرض ضغوطها على الخرطوم.
أما فيما يخص الحركات المسلحة في دارفور فالمفترض أنها ثارت من أجل تحقيق مطالب مشروعة سواء على صعيد دارفور أو على صعيد أزمة الحكم في البلاد, وهو أمر يتطلب أن تنتبه إلى أنها تجد دعماً دولياً لا يصب بالضرورة في مصلحة أهل دارفور وإن تلاقت معها في بعض الطريق, والسؤال الذي يجب عليها الإجابة عليها بوضوح هل تريد تحقيق مصالح أهل دارفور وهو أمر ممكن بالطبع عبر المفاوضات السياسية مهما كانت العقبات التي تواجه ذلك, أم تريد أن تتحول إلى مجرد مطية لتحقيق مصالح أجنبية دون اعتبار لاستمرار المعاناة القاسية التي يواجهها مواطنوهم النازحون؟. من المؤسف أن ما تشهده ساحة الحركات المسلحة في دارفور من انقسامات حادة وصراعات محتدمة يقدح في مصداقية الشعارات التي ترفعها, فضلاً عن أن ذلك يشكك في توصيف أسباب صراعهم مع الخرطوم, ويمكن أن تقوم دليلاً على أنه في ليست هناك قضية حقيقية يجمع عليها أهل دارفور, وأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد صراع من أجل المصالح الذاتية وليس من أجل مطالب وطنية, فإذا كان المنادون بمطالب دارفور لا يستطيعون التوحد والالتفاف حولها فكيف يلومون غيرهم على إهدار حقوقها المشروعة.
وحركة العدل والمساواة ربما تكون معنية, بحكم وضعيتها المؤثرة, بمراجعة بعض مواقفها المعلنة خاصة إصرارها على التمثيل المنفرد لدارفور في طاولة المفاوضات, كما أن تقليلها من شأن الأطراف الدارفورية الآخرى لا يجب أن يجعلها تضحى بالتسوية الممكنة, لقد أثبت الصراع الدامي في دارفور في السنوات الماضية أن هناك قضية تحتاج إلى حل وهو أمر لم تعد حتى الخرطوم تنكره, واعتراف جميع الأطراف بهذه الحقيقة يوجب على حركة العدل والمساواة ألا تجعل القوة العسكرية وحجم السيطرة الميدانية هو المعيار الوحيد لتحديد من يحق له الدفاع عن مطالب الدارفوريين, فالمطلوب هو مخاطبة جذور القضية وإيجاد حلول عادلة لها, ويفترض أن يكون ذلك هو مطلب حركة العدل والمساواة, اللهم إلا إذا كانت ترى للتفاوض ثمرات تريد أن تقطفها وحدها, وتعتبر أن وجود آخرين يزاحمونها في ذلك سيكون على حساب نصيبها من كيكة السلطة والثروة.
المطلوب من الحركات الدارفورية أن تثبت أنها صاحبة قضية وطنية, وأنها مستعدة للتضحية بالمصالح الخاصة من أجل مصلحة مواطني دارفور الحقيقية, وليست مجرد نوافذ لقوى إقليمية ودولية تستخدم مأساة مواطنيهم من أجل تمرير مصالحها.
والقول بتأثير هذه المصالح الأجنبية لا يعني أبداً أنه ليست هناك قضية حقيقية تستحق الحل في دارفور, أو للتقليل من شأن الأزمة هناك, أو مسايرة الحكومة في البحث عن شماعة تعلق عليها الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها هناك. ولكن هذه طبيعة الأشياء وقواعد لعبة الأمم التي تقوم على المصالح فليس هناك دولة تحركها بواعث عاطفية, وهي لعبة مشروعة فكل دولة تبحث عن مصالحه ولا يمكنك أن تلوم دولة لأنها تستفيد من أخطاء غيرها, وإذا لم نعرف نحن هنا مصالحنا فليس لنا أن نلوم الآخرين على مصائبنا.
ومع ذلك كله تبقى المسؤولية الاساسية في إيجاد حل لأزمة دارفور هي مسؤولية الحكومة بلا منازع, ومما يؤسف له أنها استمرأت لعب دور المتفرج وانتظار المبادرات الخارجية, والقبول حتى بالتدخلات الأجنبية من أجل تخفيف الضغوط عليها دون اعتبار لما يحتمه عليها إمساكها بزمام الأمور من الحفاظ على مصالح البلاد وسيادتها.
ومما يؤسف له أن المؤتمر الوطني الحاكم لم يقدم على استطالة أزمة دارفور وتعقيداتها مبادرة جرئية لسودنة حل الأزمة, والسؤال هو ما دام أنها مستعدة لتقديم تنازلات للتوصل إلى تسوية سلمية فلماذا لا تقدمها إلا عبر أطراف خارجية, وقد لفتنا آنفاً إلى أنه ما من حل خارجي مجاني, لماذا لا تنهض في مبادرة حقيقية وجريئة, ليست من شاكلة تلك المبادرات البهلوانية, لتدخل في تفاوض مباشر مع الحركات المسلحة ما دام أنها معترفة بها ومستعدة للجلوس معها في منابر آخرى, ما الذي يمنع الحل الوطني, الخشية أن العجز عن ذلك سببه إدمان البحث عن حلول لأزمات السودان المستفحلة خارج حدوده, وإدمان لعبة الهروب إلى الأمام وانتظار حلول خارجية وهيمنة عقلية المساومات والصفقات الصغيرة, وما تفعله الحكومة بهذا النهج أنها تحسب في ذلك منجاة, فيما هي تلف حول عنقها حبل لا يكاد يلتف حتى يخنقها تماماً.
ولو انتظر المؤتمر الوطني حلاً يأتيه من الخارج فسيطول انتظاره وستزداد أزماته, ولكن من يدفع ثمن ذلك لن يكون وحده بل الوطن كله, ببساطة التجربة علمت السودانيين أن الحل الناجع هنا في الخرطوم وليس في أي عاصمة آخرى, ولو كان ثمن ذلك تنازلات قاسية, فالوطن أبقى, وأول ما يمكن أن يقوم دليلاً على جدية وجرأة الحل الوطني المضي قدماً في تحقيق العدالة بلا مواربة, والتفاوض المباشر حول القضايا العالقة.