ملامح الفكر السياسي للشيخ محمد الغزالي .. 2-8

 


 

 

 

نظرات في فكر الرواد

 

محمد وقيع الله

2-8

 

(إهداء إلى فضيلة أستاذنا البروفسور عمر أحمد العوض .. مع الإعزاز)

 

 

 

في سبيل ضم أجزاء الجسم الإسلامي بعضها إلى بعض، كان الفكر السياسي للشيخ الغزالي يعمل على جلب قضايا الغيب والروح والأخلاق إلى ميادين السياسة، كما يعمل من ناحية أخرى في سبيل جذب السياسة نفسها إلى إطار الدين، وتلك جهود ووجهت بمعارضات ومعاندات شتى، حتى من جبهة أولياء الدين.

ذلك أن قضية العلاقة بين الدين والسياسة، والمسلَّم بها حاليا بوجه عام في الأفق الثقافي، لم تتأت إلا عقب جهاد عقلي كثيف خاضه العلماء والمفكرون المسلمون ضد أساطين الغزو الفكري. ومنذ بداية عشرينيات القرن الميلادي الماضي كان المفكرون العلمانيون قد لجأوا إلى حيلة (علمنة الإسلام من الداخل). أي ترويج أفكارهم باستخدام أغطية شرعية إسلامية!

من علي عبد الرازق إلى محمود أمين العالم:

وكانت المهمة الكبرى تتمثل في عزل الدين عن الدولة. وفي هذا الصدد أصدر الشيخ علي عبد الرازق، العالم الأزهري  الذي أتيح له أن يدرس نزرا قليلا من مواد العلوم السياسية بجامعة أكسفورد البريطانية، كتابه الشهير (الإسلام وأصول الحكم)، الذي ذهب فيه إلى القول بأن:" الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية! كلا ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها، ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها ".

وعلى إثر هذه الأفكار المدوية صدرت سبعة كتب لعلماء ومفكرين مسلمين تعقبتها بالرد، فاضطربت مراكز الغزو الفكري، واضطرب علي عبد الرازق نفسه زماناً، وامتنع عن إعادة نشر كتابه على الرغم من إلحاح العلمانيين عليه.

 وفي هذا المدى ذكر المفكر الشيوعي محمود أمين العالم الذي هلك العام قبل الماضي بعد أن ظل يتقلب في الضلالة قرابة ثمانين عاما أنه سعى في ستينيات القرن الميلادي الماضي إلى الشيخ علي عبد الرازق ليقنعه بإعادة طبع الكتاب، فتمنع كثيرا، ولم يقتنع إلا بعد أن أوضح له أن الجو الفكري قد تغير كثيرا، وأن السلطات السياسية أصبحت أكثر جرأة في رعايتها لمثل هذه الأفكار، وحمايتها لأصحابها، فأذن له بإعادة طبع الكتاب، على ألا يُحمَّل هو – أي عبد الرازق- أي مسؤولية من جراء ذلك! وفي ذلك يقول محمود أمين العالم: " تمنيت أن يخرج الكتاب في حياته ليكون معنى من معاني الوفاء والعرفان بالجميل يقدمه جيلنا المعاصر لهذا الجيل السابق الذي مهد لنا الطريق "!!

البروز المريب لخالد محمد خالد:

وانقضت ثلاثون عاماً حتى برز خالد محمد خالد من الأزهر يروج للمضامين ذاتها في كتابه (من هنا نبدأ). وإذا كان علي عبد الرازق قد تشبَّث بمفاهيم العلوم السياسية التي شدَا بعضا منها في أكسفورد، فإن خالد محمد خالد قد انتحل لنفسه صفة المفكر الإنساني humanist الحادب على الحريات العامة وحقوق الإنسان، والذي يحذر أن تنتهكها الكهانة الدينية إذا ما استبدت بزمام السلطان.

 وعلى الرغم من معرفة الشيخ خالد بالتجربة التاريخية الإسلامية التي تنفي وجود مثل تلك الطبقة الكهنوتية أصلاً، بَلْه أن يتاح لها أن تتحكم في رقاب الناس، فإنه فضَّل أن يعزف على وتر تلك المخاوف المتوهَّمة، التي لا يمكن تأمين الناس من شرها إلا بفصل الحكم عن الدين.

وفي كتابه الذي أصدره بعنوان (من هنا نعلم) تولى الشيخ محمد الغزالي نقض هذه الأطروحة من الأساس. وقد كان طريفاً أن يشتبك شيخان أزهريان، يفترض أن مبادئ ثقافتهما موحدة، حول قضية أصولية كبرى من قضايا الدين، هي قضية معلومة من الدين بالضرورة الآن، ولكنها لم تكن كذلك في ذلك الزمان البعيد.

كهنوت أم تخصص:

وبمنطق علمي راسخ تولى الشيخ الغزالي إعادة تعريف المصطلحات المستخدمة في جداله مع الشيخ خالد محمد خالد؛ فنظام الكهنوت – بتعبير خالد محمد خالد - أو طبقة رجال الدين بالاستخدام الدارج، طبقة وجود لها، ولا شرعية لها في النظام الإسلامي قط. فقط : " قد يوجد فريق من الناس يختص بنوع من الدراسات العلمية المتعلقة بالكتاب والسنة، وهذا النوع من الدراسات لا يعدو أن يكون ناحية محدودة من آفاق الثقافة الإسلامية الواسعة، تلك الثقافة التي تشمل فنونا لا آخر لها من حقائق الحياتين ومن المعارف المادية وغير المادية ". وهؤلاء لا يشكلون طائفة مغلقة ذات تفويض سلطاني خاص.

وأما مصطلح ( تأويل القرآن) الذي اتخذه خالد محمد خالد حجة أخرى تشير إلى سعة سلطان الحاكم المسلم، الذي يستطيع تأويل القرآن كما يشاء لتسويغ تصرفاته وتمريرها على الناس، فإن الشيخ الغزالي يعطيه حدَّه الدقيق فيقول:

 " صحيح أن القرآن اعتمد في أحكامه وتوجيهاته على التعبيرات العامة والألفاظ المرنة، حتى يساير العصور كلها إلى قيام الساعة، وهذه آية من آيات إعجازه، بيد أن العموم والمرونة شيء آخر غير الغموض والإبهام... و[في] السنة مزيد من البيان لما أجمل القرآن وذكره من تفاصيل. [أما إذا] كانت بعض الآيات المتصلة بذات الله وصفاته فوق مستوى العقول، فإن آيات العقائد والأحكام والأخبار – وهي أكثر القرآن - محكمة، ثم هي وحدها منبع التشريع ومناط التكليف ".

 فليس ثمة فوضى في التأويل بحجة أن القرآن حمّال أوجه شتى، لك أن تختار منها ما يوافق هواك، كما زعم خالد محمد خالد.

المنهج المقلوب:

وتناول الشيخ الغزالي المنهج الذي بنى عليه خالد محمد خالد حججه في سلب حق الإسلام في الحكم قائلاً إنه منهج مقلوب: " ونحن نعلم أن الناس يُعيَّرون بتركهم للدين وخروجهم على أحكامه... بيد أن الشيخ خالداً يعيِّر الإسلام بخروج البعض عليه ويريد ليحمله تبعة أعمالهم.

 فإذا ضلَّ الحَجَّاج فالعلة في نظره أن التشريع غامض، لا أن الحَجَّاج حاكم ساقط... وتطرّد الأمثلة في استدلالاته على هذا النحو المتداعي، حتى يخرج منها في النهاية بأن الدين ليس أهلاً لأن يحكم! ولو كان عبث الحكام بنصوص الحكم سبباً لإهدار العمل بها، فلم لا يكون عبث العامة بسائر الأحكام في العقائد والآداب سبباً لإهدارها كذلك؟ .

فالمنطق مقلوب بشكل مثير، فقد كان على خالد محمد خالد – كما ذكر الشيخ الغزالي- أن يميز بين المثال والواقع التاريخي، وأن يحاكم الوقائع التاريخية الشاذة في ضوء المثال الإسلامي العام، لا أن يحمِّل الدين آصار تلك الوقائع، أو أن يبني أحكامه الشاملة التي قضت بحرمان الدين من سلطته، على إساءة استخدام بعض الحكام لها.

وعلى الرغم من أن خالد محمد خالد قد سبق أن رفض منهج التأويل، إلا أنه عاد ليستخدمه لما رأى أن يقضي مأربه في سلب سلطان الدين السياسي. وهاهو يؤول حديث: " أنتم أعلم بأمور دنياكم " ليستنتج منه أن الناس أولى بأن يترك لهم أمر اختيار أو ابتكار أنظمة الحكم التي تناسب أوضاعهم؛ وفي هذا المقام يتجاهل أن أصول الاستدلال الفقهي لا تعطي هذا الحديث ذك المدى المطاط الذي ولج فيه، وإنما تقصره على مدى القضايا الفنية المتعلقة بمسائل الصناعة، والزراعة، والطب، ونحوها من الحرف والمهن، من غير ما تعدٍّ إلى حدود القضايا المبتوت فيها شرعا، كقضايا الحكم، والقضاء، والاقتصاد.

والغريب أن خالد محمد خالد قد استخدم هذا الحديث ليحمل على مبدأ الحدود الشرعية، وليوهم جواز تغييرها أو تعطيلها، وإمكان توكيل السلطات المدنية بتنفيذها في إطار ما تنفذه من أحكام القضاء المدني، هذا إذا كان لا بد من تنفيذها!

وردا على ذلك يؤكد الشيخ الغزالي أن نظام الحكم الإسلامي ليس نظاما من سائر الأنظمة المعروضة ليختار منها المسلم ما يشاء، ويهمل ما يشاء، وإنما هو نظام منبثق أساسا عن عقيدة التوحيد ومعبَّر عنها في واقع الحياة الاجتماعية، وأن الحدود جزء لا يتجزأ عن نظام الإسلام القضائي؛ صحيح أن الجانب العقابي في الدين ليس هو الجزء الأهم من التشريعات الإسلامية، ولكنه جزء أصيل لا يتجزأ عن مجمل شريعة الإسلام.

الحجة الأثيرة لدى العلمانيين:

وفي تعقُّبه لاستدلالات صاحب من (هنا نبدأ)، فإن الشيخ الغزالي يتولى دحض الحجة التي ابتكرها هذا الكاتب، والتي ستصبح –مع ذلك!- الحجة الأثيرة للعلمانيين، الذين لا يريدون مصادمة الدين بعنف، وإنما يظهرون بمظهر الحادب عليه.

 يقول خالد محمد خالد: "إن الدولة عرضة للنقد والتجريح، وعرضة للسقوط والهزائم والاستعمار، فكيف نعرِّض الدين لهذه المهانة؟" وعلى ذلك يرد الغزالي رداً معجباً حيث يقول: صحيح أن :"الدولة عرضة للانتصار والانحدار، فإذا تأسست على الدين، فأي ضير على الدين أن يكون في حال النصر زماماً يمنع المنتصر من الطغيان، وفي حال الهزيمة حافزاً يغري بالمقاومة ويدفع الشعوب إلى رد العدوان. ولنفرض أن حكومة دينية محضة سقطت أمام أعدائها فهل ينقلب الحق باطلاً لأنه انخذل في معركة؟ أيّ عار على الدين إذا لحقته الهزيمة على يد الدولة التي تنافح عنه؟ وقديماً هزم الدين وقتل في هزيمته صديقون وأنبياء"؛ فهزيمة الدين أو أوليائه لا تعني ألاَّ يناضل الدين ودعاته، وأن ينسحبوا من ميدان المعركة ابتداءً.

هذا الزائد الإسلامي:

وبهذا النهج المنطقي تعقب الغزالي مفاصل كتاب (من هنا نبدأ)، وترصَّد حججه التي بذل صاحبه جهداً كبيراً في تطويرها وإلباسها ثوب المنطق الإسلامي، حتى تستأصل – في عملية جراحية شرعية!- هذا " الزائد الإسلامي " المسمَّى " أصول الحكم "، الذي ما كان سوى مظهر سياسي خارج عن حدود الدعوة الدينية التي كلف بها الرسول صلوات الله عليه، كما قال علي عبد الرازق، أو طارئ استلزمته الضرورات الاجتماعية في ذلك العهد لا غير، كما زعم خالد محمد خالد.

وهنا يعطي الغزالي هذا المثال المقارن المستقَى من المناخ السياسي لتلك الأيام. يقول الغزالي: "هب أن رجلاً كوَّن فكرة عن تشرشل داهية إنجلترا المعروف أنه أديب وخطيب وأن حياته تقوم على الكتابة والخطابة فحسب، وأنه لا يعرف عن السياسة شيئاً ولم يعمل في ميادينها يوماً! فإذا قلت له: إن هذا الرجل ولد وشاخ في السياسة، وإنه خاض حربين هائلتين، وضرب دول العالم بعضها ببعض، وكان لتدبيره وتفكيره أثر عميق في تاريخ بلاده، وشنّ الحروب، وعقد المعاهدات، وتشريع القوانين، وتولي القضاء، وغيرُ ذلك من الأعمال قد يتولاها الرجل ولا يسمى سياسيا" !

وهكذا فغِنى الدين الإسلامي بالتوجيهات التي تغطي مجالات العقيدة والعبادة والتربية لا يعني بالضرورة أن تلك هي حدود الإسلام، وأن كل ما سوى ذلك من قضايا السياسة والسلطة مجردُ " زائد " ينبغي أن يستأصل أو يزاح!

لقد تطلب الدفاع عن ذلك (الزائد) جهاداً متطاولاً، أدى في النهاية إلى تأصيله وتوطينه في مقامه الصحيح، فرضاً لا يُمارَى فيه من فروض الدين. وإذا كان كتاب خالد محمد خالد ( من هنا نبدأ ) قد حظي بالشهرة الواسعة حتى غدا  من مراجع العلمانيين الأثيرة، فإن كتاب الشيخ الغزالي ( من هنا نعلم ) والذي لم يحظ بالقدر ذاته من العرض والتلميع، قد أسهم بقدر معلَّى في تقويض تلك الأطروحة الجامحة، وفي تحويل المناخ الفكري لصالح الإسلام، حتى استنار بنور الفكر الإسلامي عدد كبير من غلاة العلمانيين ومعتدليهم، وحتى غدا بعضهم من أشهر المنظّرين السياسيين الإسلاميين المشهودين في ساحة الفكر اليوم.

وغني عن القول إن خالد محمد خالد نفسه قد تراجع في منتصف سبعينيات القرن الماضي عن مقولات كتابه من هنا نبدأ، ولكن فكره ظل مشوشا حتى آخر حياته، لأنه لم يقم بمراجعة أصيلة وجازمة لمجمل أفكاره . وعند مماته حظي برثاء كبير من العلمانيين الذين ربطوا بين إنجازاته الفكرية وكتابه من ( هنا نبدأ ) والضجة الكبرى التي أثارها عند صدوره.

 

آراء