شوقى أنا للبلد بى حالا والشوق لى تراب أهلى
6 March, 2010
(7)
بعد أن أخذ الركاب راحتهم بمحطة أبو حمد وتزودوا بما يعينهم على مواصلة الرحلة التى قاربت على النهاية لكن لابد من الإحتياط لمفاجات الطريق .... هذا المحطة التى تقف على رأس منحنى النيل وكأنها تشير إلى أن القطار سيكون خط سيره إنحدارا وهذا يعنى أن سرعة القطار ستكون أسرع مما سبقها من محطات ..... ولقد كانت بالفعل حيث أننا مررنا سريعاً بما قابلناه من محطات ولم يكن الزمن الذى نقضيه فيها إلا جزء من ساعة ولقد كنت أقرأ أسماء تلك المحطات فقرأت محيسة ... كحيلة .... وكنت أستغرب لهذه المسميات وأحاول أن أرجعها لأصل ما أو أن أجد معنى لهذه الأسماء دون جدوى ... وأخيرا أخذت الأمر دون تفكير إلى أن وصلنا إلى محطة الكاب التى كانت محطة أكبر من سابقاتها وهناك كثر الباعة يعرضون تجارتهم من بيض وحبال وهناك بعض مطاعم الفول والعيش ولقد كان وقوف القطار أطول بالكاب ... تحركنا بعد ذلك نستحث السير نحو مبتغانا فمررنا بالدغفلى وأبو غربان وأبو حراز أم رهو وكنت أسأل نفسى كثيراً ما سر تسمية هذه المناطق بأسماء تبدأ بـ أبو ... أم ... هل نحن نحاول أن نوثق لدور الأب والأم حتى فى تسمية المناطق ولقد رأيت بعد أن توسعت مداركى فى قابل الأيام أن ذلك منتشرا فى كل أنحاء السودان ففى الوسط أم درمان وغربا أم روابة وغيرها الكثير .... علمت أن المحطة القادمة بعد أم رهو هى محطة الكاسنجر ففرحت كثيرا لسببين أولهما أننا قد إقتربنا من نهاية الرحلة التى تنتهى بمحطة كريمة التى تلى الكاسنجر مباشرة .. أما سبب فرحى الأكبر والأقوى فهو إرتباط إسم الكاسنجر بالمادح الكبير حاج الماحى .... ذلك البحر الذى ملأ مديحه كل أرجاء السودان وغمرت صوفيته المحبين ... تناقل أولاده ومن بعدهم أحفاده هذا المديح بصوت جميل لم يتغير رغم تغير الأجيال وساروا على وتيرة واحدة تجذب إليها من يستمع اليهم .... سرحت مع هذا الصفاء وكأن السماء أرادت أن تشاركنى هذا الصفاء
فتلألأ القمر فى تلك الليلة يتوسط السماء ويرسل أشعته على تلك الرمال البيضاء التى تتخلل المرتفعات فكان سير القطار وهو يتهادى فى سيره يجعلنى أرى لوحة غاية فى الجمال بألوان تتفاوت من بقعة إلى أخرى وكنت أسأل نفسى إلى متى ستظل هذه الأرض بكر دون أن يستمتع بها أحد وخــُيل لى أن لا أحد سيلامس هذه الأرض بقدمه إلى قيام الساعة فما بالك بأن هناك من سيأتى ليعمر هذه المناطق بناءا وزرعا ... شعرت بروحى وقد حلقت فى فضاء فسيح معبق بصفاء الصوفية والطبيعة وتمنيت لو أننى أجيد الرسم أو الشعر لأرسم لوحة تعبر عن دواخلى رسما أو شعرا .... فجأة توقف القطار فى هذه المنطقة المقطوعة وكأنه قد قرأ أفكارى فأراد أن يــُرينى أن هذه الأرض ستطأها أقدام زوار وسأكون أنا من بينهم ولقد كان سبب توقفه هو سقوط أحد الركاب الذين كانوا يستلقون على سطح القطار أثناء نومه مما إضطر الشخص المسؤول عن عربة الفرملة بإيقاف القطار وانتهز الركاب الحدث فانتشروا إستلقى بعضهم وتمدد على الرمال النظيفة وكأنها تمثل ملاءة قد جــُهزت لضيف قادم .... ذهب البعض لقضاء حاجتهم فى الخلاء ... وأخرج البعض ما بقى من الزوادة ليجهزوا عليها حيث أنهم سيصلون بعد ساعات قليلة للقراصة من الصاج حارة ولا حوجة لهذه النواشف التى صاحبتنا فى رحلة طويلة حلوة وشاقة فى آن واحد .... اليوم هو اليوم الخامس بالتمام والكمال منذ أن تحركنا من الخرطوم ...
الحمد لله لقد تم إحضار الراكب الذى سقط والذى لم يــُصب إلا بخدوش بسيطة وتم إسعافه وتحرك القطار وهاهى الكاسنجر وهاهو عبق الصوفية يستقبلنا إنها رقم قرويتها إلا أنى أراها مدن تتفتح أبوابها مرحبة بنا فى هذا العالم السحرى وكأنه بحر لا ساحل له يذوبنا فى خفاياه فتطمئن النفوس وتهدأ من ضجيج الحياة وهرجها ...
فى غمرة صوفيته قال إسماعيل حسن
عايز أكون زي النسيمات التسافر دون تساريح
لاقيود تملكني لاهماني لاتزعزعني ريح
عايز أغني مع البغنو الليل واجر النم مع الوتر الجريح
وامسح دمعة العشاق أونس لي بنياتا جفاها النوم يلاون في
التباريح
وأقالد الراحو في درب الهوى وفي العتمة كايسين المصابيح
وأنوم جنب اليتيم يقلدني بي شوقا يفرح أمو في بطن الضريح
وابقى العافية أنشر ضلي في دار الفلاليح
أغتيهم من الاقدار ومن ريحا يولول في الجروف
شايل الكتاتيح
وابقالن سماياً هامى كان سكب السحاب دمعا شحيح
وازغرد في قطاطي النال دغيشا بدري في وكت التسابيح
تنجذب البوادي الخضرا ساعة الليل يهود بالمداديح
ويبقى الليل وتر مشدود ويرن في قليب عاشقا جريح
وكل يبكى فى ليلاه وا ويلاه من صوت الأسى الممزوج مع همس الوحيح
بدور أسكن فى جوف الغاب أشيل أنفاسو أسرح بيها فى الوادى الفسيح
أسافر فوق ضهور الغيم تشيلنى الريح وتتلقانى ريح
أحوم الدنيا ... كل الدنيا ... واصبح مســـــــــتريح
الآن لم يتبقى إلا ساعة أو أقل لنصل إلى نهاية الرحلة إلى مدينة كريمة ومنها سننطلق إلى ما جاورها وسنفرد حلقات قادمات لذلك إن شاء الله