التنوع الثقافي والأمنية العذراء: خَيْبَة القادة والعقول الراكدة (4-5)
22 April, 2010
قراءة في مسار السودان السياسي
أماني بناء الأمة وأحلام تحقيق الوحدة:
(فلا اختلاف أديانه، ولا اختلاف عاداته، ولا اختلاف شعوبه، ولا اختلاف أجوائه وظروف المعاش فيه بحائلة دون تحقيق الأمنية العذراء). محمد عشري الصديق (1908م-1972م)
(هي وحدة تبدو كالخيال ولكنها صخرة صلدة، وتبدو كالحلم ولكنها حقيقة ماثلة، وتبدو كالخرافة ولكنها فكرة عميقة الجذور). مبارك زروق (1914م-1965م)
في الحلقة السابقة، ذكرت أن التَنَوُّع جمال وحيوية، وسعة للحياة. فهو موضع احتفاء عند النفس البشرية السوية. أما التماثل يعني التشابه، واشتراك الموجودَيْن في جميع الصفات، فهو موضع قبح ورتابة ونفور. وعلى مستوى الثقافات، فإن التنوع الثقافي، هو مصدر التبادل والتجديد والإبداع، وهو البيئة الأصلح لنمو القيم الجمالية والإنسانية، وهو المورد لإثراء الحياة وإخصابها. أما التماثل الثقافي والقولبة، تلغيان الخصوصيات الفردية والثقافية. وذكرت بأنه لا يستقيم فرض سياسة التماثل الثقافي أو القولبة في السودان؛ لكونها جرم على واقعه، واعتداء على تاريخه، وانتهاك لحقوق إنسانه، كما أنها سياسة خشنة وقاسية على شعوب السودان. وقلت مشيراً إلى الهوية، أن البحث عن مرتكز حضاري للسودان من خارج كينونته وإرثه الحضاري، يُمثل ردة حضارية، وتشويهاً لثقافات السودان وإنسانه. وأشرت إلى أن بعض مؤرخي وعلماء السودان خلصوا في دراساتهم، إلى أن السودان كانت له شخصيته التاريخية المميزة منذ فجر التاريخ. وأن شخصية السوداني استطاعت أن تسودن الثقافة العربية والإسلامية قبل أن تتقبلها، كما أبرزت كينونتها الخاصة في إطار الثقافة الإفريقية التي تنتمي إليها. وأن الحاضنة الثقافية للشخصية السودانية ليست العروبة ولا الزنوجية وإنما السودانوية.
وفي الحلقات السابقة، ذكرت أن وضعية الفشل المتوارثة والمستمرة في السودان، تجلت في حالة اللا استقرار واللا سلام، وفي حرمان شعوبه من دخول الحداثة وأسباب الرفاهية، وفي انهيار مؤسساته ذات العائد التنموي. وأشرت إلى أن الفشل تَمكَّن في الواقع، وتسرب إلى النفوس. وقلت إن الفشل يعود إلى عوامل عديدة، أهمها ضعف القادة، وإهمال التنوع الثقافي. وذكرت أنه تبعاً لمسار السودان منذ الاستقلال، بمعزل عن الواقع والتاريخ، ونتيجة للسياسات التعليمية والثقافية، ظللنا مُضَللين في خريطة ثقافاتنا، ومُغَيبين عن تاريخنا، وجاهلين بإرثنا الحضاري. وقلت إن إهمال التنوع الثقافي كان نتاجاً لانحراف المسار السياسي للسودان عن وضعه الطبيعي منذ فجر الحركة الوطنية في بداية القرن العشرين. واليوم أتابع حديثي بإلقاء الضوء على بعض العوامل التي أدت إلى انحراف المسار السياسي للسودان.
السنوات العجاف وانحراف المسار السياسي
وسم الشاعر محمد المكي إبراهيم، أحد فصول كتابه: الفكر السوداني: أصوله وتطوره بـ "السنوات العجاف"، وأرجع حق الابتكار في نحت الوسم، إلى الدكتور عبدالله على إبراهيم. قال المكي: (لقد بدأت السنوات العجاف.. سنوات القحط والجدب والهزيمة التي انعدم خلالها كل تفكير سياسي وكل تحرك وطني كما انعدم بالضرورة كل نوع من النشاط العلمي الرائد وعاد الفكر السوداني فكراً أدبياً مجرداً مثلما كان قبل الوثبة (ثورة 1924م).. وظل هذا الشبح المقبض يجوب البلاد حتى تجمع الوعي القومي مرة ثانية عند انعقاد مؤتمر الخريجين في فبراير 1938م... إن السنوات ما بين 1924م-1938م تمثل بالنسبة للفكر السوداني الحديث مرحلة الجنينية الثانية فبعد أن بدأ بالنشوء مع الوثبة اغتاله الاستعمار بقسوة بالغة وكان على جيل الرواد أن ينشأ ويستكمل وعيه تحت وطأة السنوات العجاف وأن يحمل أمانة الفكر ويعيد صياغته تحت ظلها الثقيل...) .
بدأت السنوات العجاف، بعد فشل ثورة 1924م، التي قادها الأفندية، وأمتدت حتى قيام مؤتمر الخريجين عام 1938م. لقد برزت في هذه الفترة عوامل سياسية وفكرية كبيرة وجديدة، كانت نتيجة لفشل الثورة. شكَّلت تلك العوامل معطيات جديدة في المناخ العام، السياسي والفكري، وتحكمت في مساره، ومن ثم كانت اللبنة التي قادت إلى تغيير مسار السودان السياسي، ويمكن تلخيص تلك العوامل في اثني عشر عاملاً، وهي قابلة للزيادة، إذا ما أمعنا النظر، وتعمقنا في البحث والتمحيص:
1. التعجيل بتطبيق برنامج استعماري، وفقاً للسياسة التقليدية التي تسير عليها الإمبراطورية البريطانية في البلاد الأخرى.
2. تحجيم حركة الأفندية. وتبع ذلك تعسف في كلية غردون، وإلغاء للمدرسة الحربية.
3. تراجع حظوظ الأفندية كقادة مستقبل للسودان، وتشجيع البريطانيين لغير المتعلمين، ودفعهم لتقدم الصفوف وتولي القيادة.
4. إصدار تشريعات الإدارة القبلية، وإحياء التنظيمات القبلية كبديل للأفندية، ليستعين بهم البريطانيون في حكم البلاد.
5. تنافس الموظفين وتسابقهم لاسترضاء الحكام البريطانيين.
6. بداية اهتمام الطائفية بجيل الشباب المتعلم، والسعي لاستقطابه، وقد مثَّل إضراب الطلبة- طلبة كلية غردون عام 1931م، نقطة البداية لنشاط الطائفية الاستقطابي.
7. بداية تنظيم الأفندية لجماعات القراءة في الأحياء والجمعيات الأدبية، الأمر الذي أدى لنمو المزاج الصفوي لدى الأفندية واللا تواصل مع الواقع.
8. أدى انزواء الأفندية في جماعات القراءة في الأحياء والجمعيات الأدبية، إلى التمسك بالتراث العربي، باعتباره يمثل عملاً لمقاومة الاتجاه الاستعماري لهدم اللغة العربية وآدابها في السودان، تبعه صراع حول مفهوم الهوية والذاتية السودانية.
9. تراجع معاني القومية، وخطوات بناء الأمة.
10. صعود نفوذ القيادات الطائفية، وازدياد ارتباطها بالاستعمار، وتطور نفوذها الاقتصادي إلى جانب قبضتها الدينية.
11. بداية تعاون الأفندية وتحالفهم مع الطائفية.
12. انقسام الأفندية بين طائفتي الأنصار والختمية (شوقيين وفيليين). وقد مثَّل ذلك الانقسام أحد العناصر الأساسية في الحركة السياسية، وفي تكوين الأحزاب السودانية منتصف أربعينيات القرن الماضي، الذي تبلور حول الوحدوية والاستقلالية.
من المعروف أن مطلع القرن العشرين في السودان، شهد نشأة التعليم المدني الحديث أثناء فترة الحكم الثنائي البريطاني- المصري (1898م-1956م)، حيث رفدت مؤسسات التعليم الحديث واقع الحياة السودانية بالطلائع الأولى للمتعلمين، وقد تخرجوا في كلية غردون التذكارية التي افتتحت عام 1902م، والمدرسة الحربية (مدرسة الخرطوم الحربية) التي تأسست عام 1905م. والمعهد العلمي بأم درمان الذي أُنشىء على غرار الأزهر عام 1912م. إلى جانب القلة التي درست في مصر ولبنان فيما بعد. لقد كان التعليم قبل ذلك تعليماً دينياً، محوره العلوم الشرعية واللغة العربية، ومؤسساته الكُتاب والخلوة والمسجد ومجالس العلماء والأزهر.
كان إنشاء نادي الخريجين بأم درمان عام 1918م، الثمرة الأولى لنشأة التعليم الحديث في السودان، وكان بمثابة أول تنظيم يضم المتعلمين على أساس التعليم وليس المنطقة أو القبيلة، ولذلك بدأ نشاطه مهتماً بنشر التعليم وتوسيعه بالنشاط الثقافي عامة. على أن تطور النشاط السياسي وجد طريقه إلى النادي الثقافي الاجتماعي وتحول إلى منبر للعمل السياسي . كما أثمر التعليم الحديث في السودان، بالإضافة لعوامل أخرى خارجية، من أهمها الحركة الوطنية المصرية، في قيام ثورة عام 1924م، بقيادة الشباب الأفندية.
كان قيام ثورة عام 1924م، حدثاً عظيماً، جعل البريطانيين يحسون بأن "جرثومة" القومية السودانية تتواجد بين العناصر التي أطلقوا عليها "العناصر الزنجية المنبتَّة قبلياً Negroid but De-tribalized People" بينما الإنتماء القبلي بين أهل الشمال يصطدم بشكل مباشر مع المشاعر القومية ويقف حجر عثرة أمام انصهار أهل السودان في بوتقة الأمة . قامت ثورة عام 1924م، ولعبت تلك العناصر دوراً قيادياً وبطولياً منهم على عبداللطيف (حوالي 1896م-1948م)، وعبدالفضيل ألماظ (حوالي1895م-1924م)، وزين العابدين عبد التام (حوالي 1895م-1924م)، وآخرون. تقول الأستاذة إلينا فيزيديني، أستاذة التاريخ بجامعة بولونيا بإيطاليا، في دراستها "نحو هوية وطنية: جمعية اللواء الأبيض ونهضة القومية في السودان 1919م-1924م": (كثيراً ما تقترن جذور الوطنية السودانية الحديثة بثورة 1924م وجمعية اللواء الأبيض، تلك الجمعية السياسية التي أذكت المقاومة ضد المستعمر. برزت جمعية اللواء الأبيض بمضامين مختلفة كلياَ قياساً بحركات المقاومة السابقة لها إبان الحكم الثنائي كحركات المقاومة الدينية في الشمال والغرب والمقاومة القبلية في الجنوب وجبال النوبة، أولاً: كانت الحركة تطالب بحقوق الأمة وكانت أول من يستخدم الايدولوجيا والعبارة. ثانياً: كانت للحركة القدرة على استيعاب الطبقات الوليدة من موظفي الحكومة والضباط الإداريين والعمال، ووجهت دعوتها من المراكز المدنية إلى مجتمع كان يمر بعملية (التنبيت القبلي) التي بدأت في زمن الدولة المهدية وازداد ظهورها بفضل سياسات الإدارة الاستعمارية. ثالثاً: كانت أيدولوجيا اللواء الأبيض وتكوينها الاجتماعي شاملين وطاغيين على الانتماءات الاجتماعية والعرقية حيث قد تكونت بواسطة شباب من أصول قبلية وطبقية مختلفة، شباب قرر أن يتجاهل المقام الاجتماعي المرتبط بالقبيلة والعرق، لذلك شكلت الجمعية تهديداً لنظام الطبقات الاجتماعية والتمييز العرقي الذي كان يبنيه المستعمر. لم تعتمد الجمعية في اختيار قادتها على زعماء العشائر والطوائف الدينية بل كان قادتها من الشعب أمثال علي عبداللطيف وكان اختيارهم يقوم على مقدار وطنيتهم لا على أحسابهم وأنسابهم) .
اندهشت الإدارة البريطانية والقيادات الطائفية لما حدث أمامهم في صيف عام 1924م وشتائه... وتكشفت لهم مجموعة من الحقائق. اتضح للبريطانيين أن الشباب من الأفندية، هم الذين يقودون الحركة الوطنية بعيداً عن نفوذ رجال الدين، وأن المستقبل الحقيقي هو لتلك القيادات، وليس فقط للقيادات الطائفية التي اعتمدوا عليها طويلاً. فأخذوا في وضع سياسات لاحتوائهم بالإغراء، أو بقهر من يعزفون عن ذلك الإغراء. كما قاموا بإحياء التنظيمات القبلية لتكون لهم بديلاً آخر يستعينون به على حكم البلاد. واتضح للقيادات الطائفية أن جيل الشباب المتعلم الذي لم يحفلوا به كثيراً، قد جنح بعيداً عن شطآنهم وارتاد أعالي بحار الثورة... فوضعوا خططاً للتقرب إلى ذلك الجيل، من أجل فهمة أولاً، ثم للتعاون المشترك في سياسات ترضي طموحاتهم سوياً .
أُخمدت الثورة، وأحكمت الإدارة البريطانية الطوق على حركة المثقفين بإجراءات مكثفة... وتبع ذلك تعسف في كلية غردون إضافة إلى إلغاء المدرسة الحربية . أدت هذه الإجراءات إلى تحول كبير في حركة المثقفين. هذا التحول ألقى بظلاله على دور المثقفين، وأسس لانحراف المسار السياسي في السودان عن وضعه الطبيعي. كان الوضع الطبيعي هو أن يتولى المتعلمون والأفندية قيادة الحركة الوطنية، ويكونوا هم أصحاب المبادرات، ولكن منذ أن أشرقت شمس عام 1925م حزينة ملتفحة بدم الثورة التي ظلت نيرانها مستعرة قرابة سبعة أشهر من العام السابق (مايو- نوفمبر 1924م) كما يقول أحمد خير المحامي (1903م-1995م): (خرج المجتمع السوداني مكلوماً تتردد في أصدائه زفرات الأيتام والأرامل، ... وانكشف المسرح عن انتصار إيجابي كامل للاستعمار الإنجليزي في مصر والسودان. وأدركت حكومة السودان أن البلاد تجتاز فترة من الضعف والانحلال. فقررت أن تعجل ببرنامج استعماري، وفقاً للسياسة التقليدية التي تسير عليها الإمبراطورية في البلاد الأخرى، ... وكان المظهر النظري لتلك السياسة في الجهاز الحكومي إصدار تشريعات الإدارة القبلية. أما مظهرها في التطبيق فإضطهاد المتعلمين، والتضييق عليهم، وتشجيع غير المتعلمين، ودفعهن لتقدم الصفوف وتولي القيادة) . ويضيف الأستاذ أحمد قائلاً: (ونشأت بين طبقة الموظفين منافسة وتسابق لاسترضاء حكامهم الانجليز بعد أن رأوا ما ناله مناصرو الاستعمار إبان الثورة...) .
لجأ المثقفون بعد فشل ثورة 1924م، إلى إنشاء جماعات القراءة في الأحياء والجمعيات الأدبية بأندية الخريجين والموظفين. ومارسوا من خلالها نشاطاتهم الأدبية والاجتماعية. كانت "جمعية أبوروف" أول هذه الجمعيات التي تكونت ممن تخرجوا من كلية غردون في عامي 1924م و1925م. و"جماعة الهاشماب" (أولاد الموردة) وقد عرفت فيما بعد بمدرسة الفجر، إشارة إلى مجلة الفجر التي أصدرتها الجماعة في عام 1934م، و"جمعية ود مدني الأدبية"، و"جماعة الأشقاء"، و"جمعية الآداب والفنون والمناظرة"، و"جماعة مكولي" ، وغيرها. تجدر الإشارة إلى أن قيام الجمعيات الأدبية وجماعات القراءة في السودان، لم يبدأ مع "جمعية أبوروف" التي تكونت في عامي 1925م و1924م، فقد بدأ هذا النشاط بجمعية "روضة الشعر بسنار" التي كانت أول جمعية أدبية في السودان، قامت مع بداية العمل في خزان سنار عام 1914م .
ساهمت جماعات القراءة في الأحياء والجمعيات الأدبية في التعلُم الذاتي الذي اكتسبه المثقفون من حواراتهم ولقاءاتهم؛ إلا أنها أسست بالإضافة لنظام التعليم الذي أنشأه البريطانيون، إلى المزاج الصفوي، وضعف التفاعل مع الواقع. يقول الدكتور محمد سعيد القدال (1935م-2008م) عن جماعات القراءة في الأحياء والجمعيات الأدبية أنها كانت: (تعكس المزاج الصفوي للمثقفين. ولكن حصيلتها من التراكم المعرفي قاد إلى بلورة أفكار اجتماعية وسياسية فكانت هي القنطرة التي وصلت العمل الثقافي بالنشاط السياسي) . أيضاً، أدى انزواء المثقفين في جماعات القراءة في الأحياء والجمعيات الأدبية، إلى تعميق الارتباط بمصر، فكرياً وسياسياً، والتأثر بمثقفيها، إلى جانب التمسك بالتراث العربي، باعتباره يمثل عملاً لمقاومة الاتجاه الاستعماري لهدم اللغة العربية وآدابها في السودان، تبعه صراع فيما بينهم حول مفهوم الهوية والذاتية السودانية، وصلتها بالعروبية الإسلامية، يقول البروفسير يوسف فضل حسن: (وباستثناء محمد وعبد الله ابني عشري الصديق، فلم يكن أفراد مجموعة الموردة والهاشماب يختلفون عن الأبروفيين في مفهوم الهوية والذاتية السودانية، وهو ما قاد للصراع داخل الجماعة فحول اسمها من الموردة إلى الهاشماب، ثم الصراع بين ابني عشري الصديق من جهة وباقي أفراد الجماعة حول مفهوم " السوداني" حيث رأوا عدم موضوعية الاحتفاظ بالصلة العروبية الإسلامية في وضع ديباجة حزب القوميين القائم على " السودانية" في حين رأت البقية غير ذلك) .
كان من نتائج فشل ثورة 1924م، تهافت المثقفين على الطائفية. يقول الدكتور محمد سعيد القدال: (ومن خيبة الأمل التي أصابت المثقفين من أحداث 1924م، ومن صعود نفوذ القيادات الطائفية ومن ضغط السياسة الاستعمارية، ومن لهفة البرجوازية الصغيرة وتعجلها للنتائج، أخذت فئة المثقفين تتطلع إلى التعاون والتحالف مع الطائفية باعتباره اقصر الطرق التي يتوسلون بها إلى الجماهير. ولكنهم بذلك التوجه تنكبوا طريق الجادة، وارتادوا مضماراً لا يمكنهم السير فيه إلا في ذيل الطائفية. ومن هنا جاءت غضبة بعضهم على الطائفية والابتعاد عنها ونقدها) . وقد مهد إضراب طلبة كلية غردون عام 1931م الطريق أمام الطائفية لاستقطاب المثقفين، كما أدى ذلك الإضراب إلى بداية الصراع فيما بينهم.
إضراب الطلبة 24/10/1931م وبداية الاستقطاب
منذ فشل ثورة 1924م لم يحدث في السودان حدث سياسي يذكر حتى عام 1931م، الذي حدث فيه إضراب الطلبة، طلبة كلية غردون. كان السبب المباشر للإضراب تخفيض مرتبات الخريجين من ثمانية جنية في الشهر إلى خمسة جنيهات ونصف ، نسبة لانفجار الأزمة الإقتصادية العالمية في عام 1929م. يقول الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (1942م- 2004م): (لقد استغلت الإدارة البريطانية (سانحة) تلك الأزمة لتمعن في مخططها لضرب المثقفين وإجهاض تطورهم مكملة بذلك إجراءات التعسف التي بدأتها بعد عام 1924م. وجد البريطانيون المبرر فألغوا ألف وظيفة في الخدمة المدنية وخفضت مرتبات جميع الموظفين ما عدا البريطانيين) . وعن إضراب طلبة كلية غردون يقول البروفسير محمد عمر بشير (1926م-1993م): (وأقسموا على المصحف بألا يعودوا للدراسة ما لم يتم إلغاء القرار الصادر من الحكومة بتخفيض المرتب الشهري للخريج... وفي 24 أكتوبر 1931م أضرب الطلاب. وقفلت أبواب الكلية. وأرسل الطلاب إلى أولياء أمورهم) .
يقول الدكتور محمد سعيد القدال: لقد كانت للإضراب آثاره السلبية والإيجابية، التي ألقت بظلالها على الحركة السياسية. فقد فتح منفذاً محدوداً كشف عن قدرات الجيل الجديد الصاعد للمصادمة. وحفز المتعلمين للتصدي لبعض مشكلاتهم. فتكونت لجنة من عشرة منهم، ظلوا يتداولون لمدى شهر، بسبب التيارات المختلفة بينهم. وخرجوا في النهاية بمذكرة عكست التنازلات التي قدمها كل فريق، وصاغوها وقدموها للحاكم العام... ولكن الحكومة أغفلت المذكرة وأصدرت أمراً بحل اللجنة. وتمثل الجانب السلبي في تدخل القيادات الطائفية، الذي أدى إلى إنهاء الإضراب .
كان الخريجون قد تداولوا في موقف اللجنة العشرية وردود فعلها إزاء خطط الإدارة البريطانية.... كما عاب بعضهم على اللجنة العشرية قبولها مبدأ الاجتماعات المنفردة مع المسؤول البريطاني فحدث أول انقسام في صفوف الخريجين، تمحورت فئة حول (أحمد السيد الفيل) وفئة أخرى حول (محمد على شوقي)، ومما عمق ذلك الإنقسام تأييد بعض الخريجين لاستمرار الطلاب في إضرابهم..، وذلك كان موقف جناح الفيل حيث عرفت فئته بـ (الفيلست) أما الفئة الأخرى التي أدانت الإضراب خشية قيام الحكومة بقفل الكلية فقد عرفت بـ (الشوقست) . وكان يقف خلف فئة (الشوقستس) السيد عبدالرحمن المهدي (1885م-1959م)، وخلف فئة (الفيلستس) السيد على الميرغني (1873م-1968م).
كان محمد على شوقي قد تقدم باقتراح إلى الحكومة برفع راتب الخريج إلى ستة جنيهات ونصف كحل وسط، وقبلت الحكومة اقتراحه. وقبل به أيضاً الطلبة، لأن إغلاق الكلية لفترة طويلة قد يؤثر على مستقبلهم. كما تعرضوا لضغوط عائلية. وتدخل السيد عبدالرحمن المهدي، الذي كان ابنه الصديق أحد قادة الإضراب، وكان من ضمن ما قاله للطلبة أنه من الضروري أن تظل أبواب الكلية مفتوحة لكي تخرج جيلاً من المتعلمين لخدمة القضية الوطنية. وأكد للطلاب أنه وفقاً لاحكام الشريعة الإسلامية فإن التحلل من القسم يمكن أن يتحقق لدى القيام بعمل من أعمال البر أو العبادة. وإنه على استعداد لأداء ذلك نيابة عنهم بإطعام 5000 من الفقراء والمساكين . (لدى البروفسير محمد عمر بشير وكذلك الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد، وستين مسكيناً كما ورد عند الدكتور محمد سعيد القدال).
كان الأخذ باقتراح شوقي إنتصاراً للسيد عبدالرحمن وللشوقيين، مما أثار حفيظة السيد علي وجماعته الفيليين. وازدادت حدة الصراع بين المجموعتين، عندما تناولوا تقييم الإضراب والصيغة التي تم التوصل إليها. وانتقلوا بصراعاتهم إلى نادي الخريجين، واصبح شوقي الذي كان رئيساً للنادي والشيخ الفيل رئيس لجنة العشرة، هما قطبي ذلك الصراع وواجهتيه .
بدأ السيد عبدالرحمن المهدي يهتم بالخريجين. فاخذ يتبرع لهم بسخاء لجمعياتهم الخيرية، ويساعد غير المقتدرين على مواصلة دراستهم، ويستضيف البعض في داره... مما جعل المخابرات تصفه عام 1934م بأنه الزعيم السياسي "لطبقة الخريجين" . أقف هنا، وفي يوم الخميس القادم أُتابع حديثي.
(نقلاً عن صحيفة الأحداث 22/4/2010م).
الهوامش
Abdalla El Bashir [abdallaelbashir@gmail.com]