زي الهوا … بقلم: عبدالله الشقليني

 


 

 

abdallashiglini@hotmail.com

        لم أكن أحلم أن أغنية  عبد الحليم حافظ ( زي الهوا ) يمكنها أن تنفذ إلى المستقبل بذلك الوضوح وذ اك الإشراق . وفي السيارة برفقة ابنتي من بعد أمسية  قضيناها في مطعم في مُجمع تجاري ، امتدت يد لتُدير مؤشِر راديو السيارة ، وكانت أغنية  ( زي الهوا ) لعبد الحليم حافظ ، فنـزفت الذكريات . كأن يوماً  من صيف 1982 م قد هبط نيزكاً من سماء الذاكرة ، إلى ليلة الثامن والعشرين من يناير 2005 م       تدخل أنت من بوابة  مستشفى ، ( إشبانداو ) على أطراف برلين الغربية . عند الطابق الأول من الجناح الأيمن ، وفي باحة  تُعادل مساحة غرفة قرب الدرج ، وقرب طاولة منـزوية ، تجدني أجلس  و بصحبتي ( مصطفى ) الفلسطيني  و  ( أحمد الكرماني ) المصري ، و (نادية ) اليوغسلافية ، نستأنس ليلاً و نلعب الورق . معنا إذنٌ مُسبق بالبقاء خفيةً عن الأعين من بعد أن هجد جميع  النُزلاء في الغُرف للنوم بقوة قانون المستشفى . أحضر ( الكرماني ) جهاز تسجيل ( استيريو ) ، وبدأ يُسمعنا من أشعار محمد حمزة وألحان الموسيقار بليغ حمدي  بمصاحبة الفرقة الماسية لعبد الحليم  أغنية  ( زي الهوا ) : ـ

 وخَدتِنِي مِن إيدي ومْشينا

تحت القمر غَنينا

 وسهِرنا وحَكينا

وفي عِز الكلام

سَكَت الكَلام

وتاريني مَاسْك الهوا .

وخدتِني ومشينا

والفَرح يضُمِنا

ونِسينا يا حبيبي

مِين إنتَ ومِين أنا

حَسيت إن هَوَانَا

حَيعيش مِليون سنة

   الدُرة الغنائية الرائعة  وصداها  يلتفّان من حولنا ، ويهُزنا الرَصف الموسيقي المتبتِّل . جمعتنا رفقة حانية أسهمت الصُدفة في صناعتها . نجلس مع بعضنا نُخفِف من  وحدة حبس الاستشفاء . صعُبت الترجمة و نحن نحاول أن نشرح لنادية  المعاني بالإنجليزية أو بالألمانية الدارجة  ، بعد أن أطربتنا جميعاً تلك التُحفة الفنية الإنسانية الرائعة .  كُنا جميعاً في ذلك الزمان نرقب حُباً ينمو  وعاطفة تخضَر ، فصفاء الدنيا  يطوقنا بثوبٍ عَطِر .  تضحك        ( نادية) بوهج  وهي تنظر إلى   ( الكرماني )  ، يشع من عينيها  بريق يفصِح عِشقاً ، نما وتعملَق ، وقد اخضرت أنوثتها وأزهرت . أنا ومصطفي كُنا  أقرب إلى  المشاهدة الفَرِحة  ورقابة التوثيق ، فالصُحبة تنمو بيننا ، ولكنها ازدهرت محبة بين ( نادية ) و ( الكرماني ) ، فالنفوس تطفح  و تُشرِق ونحن نستمتِع بلا حَسد  ! .  نشهد البوح المُغلف كأنه يخجل من وجودنا  . ومعي مصطفى استشعرنا ثقل جلوسنا كالعوازل ، فالليل قد انتصف ، ها نحن نُجبر  المحبة أن تتراجع قليلاً عن الإفصاح . نظرني مصطفى بعيون فيها كل الرؤى ، ففهمت أن نترك الأحبة لشموع الدفء . تذرعنا سوياً بشتى الأعذار للهرب إلى النوم ، وتركنا مقعدينا فجأةً . لكن الأعذار لم تُقبل ، كم كانت هي واهية  فسقطت أستارها ، فهب علينا  رفيقانا  ( الكرماني ) و ( نادية ) ، يطوقاننا بأحضان شقاوة الأحبة وهما يضحكان بعِتاب  رفرف علينا وأخجلنا فتراجعنا  . لا أسرار بين الجميع ... واستسلمنا .  جلسنا مُجدداً و أعِدنا سماع أغنية عبد الحليم ، ودلفنا جميعاً ننهل من دفق عواطفها الجارفة  مرة أخرى : ـ

خّايف ومَشيت وأنا خايف

إيدي ف إيدَك وأنا خايِف

خَايف على فرحة قَلبي

خايف على شوقِي وحًبي

     للنفوس تاريخ ... ،  تتأرجح بين ماضٍ يحاول الإمساك بالوهج  وحاضر يتشكل . يقال إن الحال أقرب لإصابة حب ، كسائر الإصابات التي يتعرض لها الإنسان ، تطول وتقصر  . ويمكن لنفس ( للكرماني ) أن تحتمل محبة تتربص ، وتنشر حبائلها حتى  تغطي خيمة الأُنثى بتنوع  الروح والشخصية والثقافة والإرث والحنين والمسلك و خليط الجميع ، و لا يُفصِح عن رغباته الدفينة . أو ربما هو اللهو بلا قيود ، يجد نفسه بين جموع من الأزهار النسائية  يجول بينها فراشاً يبحث الرحيق . فها هي زهرة جديدة جمعته معها في صُحبتنا الصدفة . أو ربما يتقيد هو بأخلاق الوفاء وآداب العِشق التُراثي القديم  و خصال التضحية  . لا نعلم أي النفوس تأسره  في حبائلها وتقود خطاه . ففي المنافي يتحلل السلوك من القيود ، ويَغلُب السير مع التيار  إلى أقصاه   . ما كُنا نلج بواطن الأنفس وخفاياها أو نسعى لبعثرة الدواخِل و هي تحتمل كل الخيارات الممكنة ، لكن المشاعر الإنسانية تبدَّت بجمال يُجبرك أن تجلسها قدرها من المكانة  .  تجِد أنت  القوة  يغلب عليها الضعف ، وتختلط الشدة باللين .  تجِد البساطة حيناً ، ثم يعتلي صفحتها التعقيد أحياناً أخرى . لنادية إرث من   ( البوسنا ) ، كأن وهج الشرق قد لفح بَشرة فؤادها ، فيتورد الخدان من تعليقٍ يفضح المحَبة  ، أو لمسة ( الكرماني ) الحانية وهو يُغطي أصابعها الرشيقة براحة كَفه حين ننهمِك نحن في رصف الورق . كان الكرماني طوداً ،  طويل القامة ، عظيم الجُثمان وبادي الوسامة . أبيض اللون أشقر الشعر ، مُخضَّر  القرنية ، كادت الأصول الشركسية أن تقول أنا دفينة هُنا في جَسده .

    الاستشفاء الحكومي في ( إشبانداو ) ، يُعادل  فندقاً فخماً في موطننا . طبيبٌ  يُشرف  على  أربعة عشر فرداً من النُـزلاء   ، وطاقم من فنيي التمريض يتابع التفاصيل ليل نهار ، تضغط على مكبس قرب مرقدك يأتيك من يخدُمَك . لكل طابق صيدلية ، ولكل طابقين مطعماً ، يتجول فيه البوفيه بتنوع المأكولات ، وقد حُجِب عنه اللاذع من البُهار  .  أمام طاولتك  يقف على راحتك المُختصين . تمُد اصبعك وتُشير ، ثم ترفع كفِك   الأيسر :

 ـ  هذا يكفي ....، شُكراً لك ِ سيدتي  .

    الدنيا كانت أرحب هُناك ،  وفي لقائنا  معاً  في الأمسيات تختلط العربية الفصيحة مع العامية  السودانية و الشامية والمصرية ، أما الإنجليزية فهي تستصرخ النجدة من لكنة الألسنة العربية . اللغة الغالبة بين جميع الأعراق هي الألمانية الدارجة التي تغوص في الركاكة و الطرافة ، ولكنها تفي بغرض  المعاملات ، ولا ترقى للغة المحبين ، ولا تمهد للذوق والأوتوكيت  . الجوع أو الشبع ،  القبول أو الرفض ،  المحبة أو الكراهية ، تظل جميعها لغةً في التبسيط المُخِّل ، ولا تقبل المتشابهات ، أو التمهيد أو الغزل الرفيع أو التأدب الحضاري . إلا أن للمشاعر الإنسانية لُغة أخرى تتخطى الصعاب لتنير دروب العشق ،  فالإرث الإنساني بالِغ القِدم وللأرواح طرائقها في الائتلاف  . ينطلِق حديثنا بطرافته ، والقاسم المُشترك  حكايات من طريف العادات والتقاليد والغناء . تُحِس  أن لمسات الشرق بدفء حياته الاجتماعية تلقي بِظلالها على مَجلسنا ، ترفرف علينا جميعاً . أغنية عبد الحليم أقوى وأنضر وأكثر جذباً من لَعِب الورق. فنحن نرقب العِشق و فضاءاته الرحبة ، وسباحة السماوات بالخيال الجامِح . يتسلل الدمع خِفية  يُغسِل مآقينا ، ويلُفنا صمت وحُزن حين نتسلق هضبة العُقدة الغنائية : ـ

وخَدتِنِي يا حبيبي

ورُحتَ طاير طاير

وفُتَنِي يا حبيبي

و قلبِي حاير ، حاير

وقُلت ليا راجِع

وبُكرة راجِع

وفضلتَ مُستني بآمالي

 ومالي البيتْ

بالورد ، بالشوق ،

 بالحُب  ، بالأغاني

       ليلة لن تٌنسى ، فعلى أطراف (برلين ) وعند المستشفى يخِف ضجيج المدينة ، وتتوهج اللحظات الحالِمة ، وتنـزل علينا اللغة الوَاجِدة في أوكار المنافي ، كأن نعيماً اندلق علينا بأنهاره العذبة ، تُمسك بتلابيب الجِزع وتهُزه نشوة .  ( نادية ) عازبة قدمت ألمانيا للعمل ، وتعول والديها في يوغسلافيا ( السابقة ) . تستأجر شقة  صغيرة وتَسكُن وحدها في برلين . أصبحت عطلة نهاية الأسبوع مناسبة  (لنادية  ) و (الكرماني  ) .  يمرح العاشِقان بعيداً عن الحيطة والحَذر . فتعصف بهما رياح الوِصال برونقها ، وطلاقتها بلا حواجز .وتحلقا في عوالم أكبر ، وبدأ الحديث عن مشاريع المستقبل والتخطيط بخُطى وئيدة بلا عجل  . لجذور المحبة  أن تنمو وتأخذ  سِعة  للتفاصيل  .

     على مركِب العشق ترفقت الدنيا  زمناً ، فالموج يلثُم أطرافها بحنان دافق . ما أيسر على قصص العِشق أن تتخطى الدروب الشائكة ، ولكن لن ينج أحد من  صَفعة  الأقدار بلا مُقدمات . ففي موعدها الدوري جاءت الإختبارات بخبر الشِفاء  للكرماني ، و تقرر سفره لموطنه  فجأةً  ، انكفأ القِدر وتفرقت المصائر  ، وترنحت  الأحلام واختلطت الحِسابات . نهض الجَسد من كَبوته صحيحاً  ، وآن لشجرة المحبة أن تزوي  ، فقد هبطت فؤوس البتر بلا موعد .  تقرر خروجه من المستشفى مباشرة وإلى السفر ، ومنحته إدارة التأمين الصحي يوماً وليلة للمُغادرة ، بعد أن أكملت  الترتيبات . كانت المفاجأة صاعِقة  ، ولم يكن هنالِك مُتسعاً . إنها  عيوب نُظم العلاج على نفقة التأمين الصحي ،ينـزل القرار صاعقاً  ومُدمراً . يجتمع الشِفاء للجسد  مع فراق الأحبة  . إنها الخسارة الفادِحة  .

    أخفى ( الكرماني ) أمر سفره عن ( نادية )  ، وأسَّر بالنبأ لشخصي ولمصطفى .  شرح لنا أبعاد  المأساة ، ورأى أن السفر بلا وداع أكثر رحمة لهما ،  يقلل من وقع الكارثة على  الطرف الغض من المعادلة  .فعودته ثانية من مصر  أمر يحتاج سنوات من التدبير والنحت في

 

حجارة الدُنيا والقبض على الجمر . وقرر هو  إلا يودِّع محبوبته ،  ولينهل مما اختزنته الذاكرة من فيض  ، وحَمَّلنا  أمانة تسليمها  مفتاح شقتها إذ كانت تستأمنه دارها . فارقنا والدهشة تلبس لباس الحُزن وانعقدت الألسن جميعاً ونحن نودعه، ولم نقُل الكثير . قفزت الفاجعة الآن  إلى نور المصابيح ، وبرزت أنياب  الدنيا الكالحة . أطلت أغنية عبد الحليم حافظ من الذاكرة المنسية  ، وكأنها تستكتب المستقبل حين تغنى من قبل  ونحن في  رونق أيامِنا : ـ

رميت الورد طفيت الشمع

يا حبيبي

والغِنوة الحلوة مَلاهَا الدمع

يا حبيبي

 َوفْ عِز الأمان

ضَاع مني الأمان

وتاريني ماسكْ الهوا بأيديَّ 

    جلست مع ( مصطفى ) عند الطاولة التي نلتقي عندها كل ليلة ننتظر . حلَّت علينا كآبة لا تُحتمل ، وقَدمت ( نادية )  بفرائحيتها تسأل عنه . وهطل المطر أسوداً على ليلِنا  ، فغطت   نادية  وجهها بيديها ، ونشجت بكاءً يفطر القلوب ، فاضطربت الأنفس وحبست الحديث في الصدور . لم يكن سهلاً علينا مشاهدة  المحبة تُغتال بسكين النُظم في وطن لا نُدرك  قوانينه بالقدر الذي يجنبنا الفواجِع  . فلبسنا السواد أسبوعا ، ولم تستعِد المرأة العاشِقة ثوب نضارها أبداً حتى افترقنا . بقيت الحسرة  تُضيء مجلسنا حتى فرقتنا الدروب التي لا تنتهي .  الدنيا كانت أرحب  ، وبرلين الغربية كانت داراً تأوي كل الأعراق المقهورة في أوطانها . مائتا ألف من طالبي اللجوء  يقطنون برلين الغربية في ذلك  الزمان . الدفء يلف الغرباء بالحنين ويَحضنهم . بعض أحزان الماضي ربما أكثر رأفة من تعقيد الحاضِر . نهض الآن صقيع الجفاء يصُد القادمين الجُدد ، فالدنيا من حولنا ارتدَّت إلى الوراء  ، وأضحى البؤس عارياً  بلا مُعين .

عبد الله الشقليني

30/01/2005

 

آراء