تاريخ حياتي لبابكر بدري: الإمتاع والمؤانسة
علي يس الكنزي
17 July, 2010
17 July, 2010
من أبواب متفرقة
alkanzali@gmail.com
5-9
المرأة في حياته
للمرأة خاصية وتميز في دواخل شيخنا، لهذا ليس غريبا أن تستأثر بصفحات عديدة من كتبه الثلاث، التي ما فتئ شيخنا يذكر فيها الأم والأخت والزوجة والبنت، وزميلة العمل، ورفيقة الطريق والسفر، وتلك التي جمعته بها الحياة العامة. فالمرأة في حياة شيخنا تستحق كتاباً منفصلاً وليس مقالات ثلاث كما خططتُ لها، لأنها غير كافية بالقاء الضوء على هذه العلاقة المتشعبة، والتي أنحاز فيها شيخنا للمرأة حتى اصبحت رسالته في الحياة سعيه الدؤوب بأن يرفع عن الأجيال القادمة من النساء الظلم الذي وقع عليهن دون أن يصادم المجمتع أو التقاليد. فشيخنا لا ينتهج مبدأ الثورات العنيفة ولكنه يسعى الى التغيير من خلال دفع المرأة بأن تكون طالبة علم والعلم يحرر الفرد رجلاً كان أم امرأة.
لا أجد مفراً إلا اجترار قولي: "أنه من المؤسف حقاً أن لا تجد شخصية شيخنا ولا كتبه الثلاث ما تستحقه من الحفاوة والتحليل والدراسة من قبل أهل التخصص".
وبَراً بوالدته ولم يَكُن شقياً:
كان من حسن حظه ومن حسن حظ عائلته أن يكونوا من بين أول مجموعة من أسرى حملة ود النجومي لفتح مصر، سُمح لها بالعودة إلى السودان، كان ذلك في ابريل من سنة 1891. في طريق العودة إلى الوطن كان يقود حمار أمه ممسكاً بزمامه، وكانت أمه تردد على مسامعه " أنا أتعبتك الله يقتلني ويريحك مني"، ويرد عليها: أنا الذي أتعبتك يا أمي في الحمل والولادة والتربية، فادعي لي بالخير واسألي الله أن يريحني ويريحك. أما زوجته حفصة فقد قبلت السير على رجليها ولم تتذمر. ويقول شيخنا أنه كلما استاء منها يتذكر موقفها هذا الذي لن ينساه لها أبداً، فيصفح عنها.
بَِرُ شيخنا بأمه وانحيازه لها عرضه لكثير من الابتلاءات والخيارات التي ربما لو كانت من نصيب غيره لأصابه اللجج، أي التردد في الكلام والتعثر في اتخاذ القرار. أما شيخنا فلا موضع عنده للمساومة بأمه ولا أبيه، فهو منحاز لهما في كل الأحوال. وهذا ما سنتعرض له في مقالنا اللاحق لنرى ذلك الانحياز والانتماء للأم. كما سنعود لوعد شيخنا لحفصة حين قال: " أنه لن ينس لها موقفها وهي تمشي على رجليها وتترك الحمار لأمه"؟! هل أوفى شيخنا بوعده هذا ما سنراه؟
نساؤه:
أعظم علاقاته بالمراة وأقواها وأمتنها، تلك التي كانت تجمعه بأمه، ثم زوجاته. وبين زوجاته نجد البقيع بنت عثمان وحفصة استأثرتا بالحظ الأوفر من الذكر في الكتاب، وربما من القلب كذلك، هذا ما ستكشفه لنا المقالات اللاحقات.
أولى نسائه هي حواء بنت المبارك، التي تزوجها برفاعة سنة 1881، يومها لم يكمل شيخنا عقده الثاني من العمر. تزوجها استجابة لأمر أبيه الذي كان صديقاً لوالدها، فخاف عليها أن لا تجد زوجاً لأنها مطلقة، وتقدم بها العمر، فرأي أن يزوجها لابنه بابكر، ففعل. هذا موقف من مواقف شتى تكشف لنا طاعة شيخنا لوالديه وسعيه لرضاهما. فها هو في ريعان شبابه يقبل بالزواج بامرأة مطلقة وتكبره سناً؟ لم تقتصر طاعته لأبيه في الزواج فحسب، بل تعداها إلى الطلاق من نسائه، وهذا ما سنراه.
أما زوجته الثانية فهي البقيع بنت عثمان، تزوجها خلال حملة ود النجومي لفتح مصر سنة 1887. ثم أتت بعدها حفصة بنت مريم، والتي تزوجها وهو في الأسر في جنوب مصر، وكان زاوجه بها في سنة 1890 بعد طلاقه من البقيع. قال شيخنا: أنه صرف على زواجها مائتين وسبعين قرشاً. وذكر أنه شب خلاف بينهما ذات يوم، لأنها امتنعت من أكل قصب السكر الذي جلبه لها ولامه وأخته. فلما سألها عن سبب امتناعها عن أكله، صارحته قائلة: "بأنها لاحظت أنه يطعم أمه الأفضل ويعطيها الأدنى لذا لن تأكله" فحذرها من فعلتها تلك، وأمرها أن لا تعود لمثله أبداً، وانشد قائلاً :
فأي امرئ ساوى بأم حليلةً فما عاش إلا في شقاء وهوان
أما رابعة نسائه فهي نفيسة بنت صالحة من أمدرمان، وهي مصرية الأصل (بت ريف). يحكي شيخنا أنه كان برفقة حاج الأمين عبدالقادر في طريق تجارته إلى الدويم، فعدد له حاج الأمين محاسن الزواج (ببنت الريف) أي المصرية، واصفاً أياها بحسن التدبير والاهتمام بشئون الزوج، فتولدت لديه رغبة جامحة أن يتخذ له من بنات مصر زوجة. فطلب من زوجة حاج الأمين المصرية أن ترشح له واحدة من بنات بلدها، فزكت له نفيسة بنت صالحة، فهي امرأة مصونة، وصالحة وطاهية وتجيد الخياطة وتطريز الملابس، فخطبها ومهرها مالاً كثيراً. بعد زواجه بها أصبح يناديها بأم أحمد. وهي والدة ابنه يوسف الذي كان وراء تدوين مذكرات شيخنا كما ذكرنا في أول مقال.
أما خامستهن، فهي نفيسة بنت إبراهيم مدني، من نساء رفاعة والدها صَدِيقٌ لشيخنا. تزوجها عام 1927. ونفيسة هذه يبدو من سيرتها أنها تأتي في المرتبة العليا من الثقافة والعلم من بين نسائه ووصفها بأنها ماهرة في اللغة العربية لهذا عاتبها شعراً عندما نزل في بيتها برفاعة في الثالث والعشرين من يناير 1929 لقضاء إجازته معها، إلا أن شيخنا لمس تغيراً فيها على غير عادتها، وكانت حبلى في شهرها الثامن فعاتبها شعراً بهذه الأبيات:
أنا لا أدين لغير ربي ولا ألين مع الرهب وإذا الحبيب تغيرت أحواله تبع الريب
صَبَّرتُ نفسي هُنيةً كيما يُعرِفُني السبب فغفرتُ ذلته إذا قبلِ الحقيقة أو عتب
أنفيسةُ فتوصلي لملاك قلبي بالرغب فالقلب من عاداته لا يستقيم إذا أنقلب
أما سادستهن فلعلنا نعاتب أنفسنا قبل أن نعاتب شيخنا إن قلنا عنها أنها امرأة مجهولة، ولكن ليس لنا من بديلٍ لهذا الوصف، فقارئ الكتاب لا يفهم إلا هذا التفسير. فشيخنا لم يريد الإفصاح عنها بالكثير، وأتى تعريفها بأنها تدعى بخيتة من قبيلة الجموعية (الجعليين) كان زواجه بها في عام 1934، وهو في الثالث والسبعين من العمر، ولم يُعِنْا شيخنا بتفسير عن سبب زواجه بها في تلك السن المتقدمة من العمر؟. ثم لماذا جعلها مجهولة الهوية من بين كل نسائه؟ هذا ما لم يبح به الكتاب! وعند أهل اللغة عندما يرافق النكرة علم يصبح علماً. لهذا نعود ونقول أن حياة شيخنا تحتاج لقلم قادر على السباحة والسياحة في دواخله ليخرج لنا درره وكدره، أما قلمي فأظنه قد جاد بما يستطيع.
كما قلنا آنفاً، أن أول زيجاته كانت وهو في العشرين من العمر، وقبل أن يكمل عقده الرابع بلغ عدد نسائه أربع، وأتت الخامسة وهو في السادسة والخمسين من العمر. أما السادسة فلا موجب لتكرار ما قلناه. وتعدد نساء شيخنا يقودني لطرفه رواها الأستاذ شوقي بدري في رزمانته بسودانيزاونلاين. ويقول: "أن جدته شقيقة شيخنا (البتول بت ود بدري، وهذا يعني أن بابكر بدري جد لشوقي)، جاءت البتول لبابكر لتخبره بأن فلان الفلانى سيأتى إليه يطلب يدها. فأمتعض بابكر بدري وقال لها: "عرس شنو؟ ما بنتك بقت كبيرة!" فأجابته: " ما انت كل يوم معرس. أنا ما أعرس ليه! أنت قايلنى أنا مريم بنت عمران ؟" ( ترمي إلى أم المسيح عيسى بن مريم).
في وصف أحداث زواجه بأم أحمد، تأكد لي ما حكاه لي جدي لأمي (الناير عبيد أبوهدية من الشوال النيل الأبيض، رحمة الله عليه)، أن النساء في زمانهم كن يرقصن شبه عاريات وبصفة خاصة العروس (كانت ترقص بالرحط). أما شيخنا فقد رفض أن ترقص البنات أمامه لأنه لا يقبل أن يُمتع نظره ببنات خاطر (نسابته) وهن يرقصن عاريات أمامه. وتحت إلحاحهن توصل معهن لحل يرضي كل الأطراف وهو أن يرقصن داخل المخزن ويبقى هو في مكانه.
من تقاليد ذلك الزمان حكى شيخنا رواية تجعلك متعجباً من سماحة الناس وبساطتهم في ذلك الزمان. فقال أنه رأى كثيراً من البنات العانسات في الفتيحاب وفي قرى أخرى فلما وصل حلة ود رملي وجد ناظرها الهمام الشيخ محمد رملي، فأوضح له رأيه في تزويج البنات. في الساعة الثامنة مساء قام الناظر بمرافقته وأخذه حتى أوقفه على عدد من الشباب كانوا نائمين في تلك الساعة المبكرة من الليل وقال له: "لمن نزوج البنات؟ ألهؤلاء النيام في هذه الساعة المبكرة من الليل؟ أم لغيرهم؟" وواصل قوله: "عندما كنا في سنهم كنا نسعى للفضاء في مثل هذا الوقت ونضرب الصفقة، فتأتي كل من أنهت عملها حتى يجتمعن فنلعب أو يرقصن، فترتبط بين الولد والبنت المحبة الخالصة من الشوائب والريبة، فيخطب الولد من عَلُقتْ منهن بفؤاده فيتزوجها، أما أولاد هذا الجيل فلا هَمَّ لهم إلا الجلابية المكوية النظيفة واللمَّة والمسرحة والأكل والنوم، أسال الله أن يهديهم".
صاحب المبادرة الأولى لإدخال المرأة السودانية في الخدمة المعاشية:
في الثالث من ديسمبر 1947 أجتمع بالمستر وليامز وذكر له أن المعلمتين نفيسة عوض الكريم وسكينة توفيق تعينتا في التدريس وعمر كل منهما لا يصل للعشرين عاماً، والآن أصبح عمر كل منهما أكثر من خمس وثلاثين عاماً، وهو عمر يصعب على المرأة فيه الزواج، ولا يجوز أن يقضي الإنسان زهرة شبابه في الحكومة ثم يتكلف غير الحكومة بمعيشته. سأله المستر وليامز ما الذي يقصده بهذه المقدمة؟ أجابه: "أقصد إدخال المعلمتين في الخدمة المعاشية كما هو الحال في بلادكم (برطانيا). وكانت الدكتورة بزلي شاهدة على هذا الحوار فدعمت رأيه. بعد أيام صدق للمعلمتين بالدخول إلى الخدمة المعاشية. وفتحت هذه المبادرته الطريق لبقية المعلمات ثم النساء العاملات من بعدهن بدخول الخدمة المعاشية. إذن كل نساء السودان اللاتي استفدن من الخدمة المعاشية يدن بالفضل لشيخنا.
هل هو رائد تعليم المرأة في السودان؟ أم من رواده؟
نجد الأجابة على هذا السؤال في الصفحة (84) من الجزء الثاني من كتابه، حيث يكشف لنا شيخنا حقيقة كانت غائبة عنا في قوله: "أن مدرسة البنات التي أنشأها بمنزله برفاعة في سنة 1907، هي تجربة استقاها من السيد محمد عثمان الميرغني الأكبر الذي أمر بفتح مدرسة الكتاتيب لتعليم البنات بسواكن". وقد رأي شيخنا هذه المدرسة في عام 1310 هجرية (1892-1893)، هذا يعني أن وجود هذه المدرسة قد سبق ذلك التاريخ. هذه الحقيقة التي أوردها شيخنا ربما تجرده من أنه أول من قام بتعليم المرأة تعليماً نظامياً في السودان، ولكنها لن تجرده بوصفه رائداً لتعليم المرأة في السودان. فقد أقر شيخنا بارجاع الفضل للسيد محمد عثمان الميرغني الأكبر الذي سبقه في تجربة تعليم المرأة في المدارس المنتظمة.
شيء مؤسف أن تغيب مثل هذه الحقيقة عن الناس، حتى عن آل المرغني وأبناء الختمية، ولا يشير إليها أحد غير شيخنا بابكر الذي عرف بأمانته وحفظه لحقوق الأخرين. والأكثر أسفاً أن بروفسور محمد عمر بشير، الذي وثق لنهضة التعليم في السودان غابت عنه هذه المعلومة فلم يوردها في كتابه (تطور التعليم في السودان 1898- 1956)، ترجمته هنري رياض وآخرون. غير أنه أشار في كتابه أن تجربة تعليم البنات في السودان بدأها الأب الإيطالي دانيال كمبوني الذي عمل في حقل العمل التبشيري المسيحي في السودان، وعلى اسمه أسست مدارس الكمبوني السودانية. وذكر أن في عام 1877، كان عدد طلاب وطالبات مدرسة الخرطوم 200 بنتاً و300 ولداً.
هذا يدل على أن تجربة تعليم البنات النظامية لم يكن شيخنا هو أول من ابتدعها، فقد سبقه إليها السيد محمد عثمان الميرغني الأكبر، والأب كمبوني بثلاثين عاماً. إلا أن تجربة السيد الميرغني الأكبر لم تحدثنا عنها كتب التاريخ، لذا نجهل مصيرها! هل تطورت أم ماتت في مهدها؟ كما أننا لا نعلم أي التجربتين أسبق، هل هي تجربة السيد المرغني الأكبر، أم تجربة الأب كمبوني؟ أما الذي لا شك فيه، أن تجربة الأب كمبوني وشيخنا بابكر بدري بقتا إلى يومنا هذا، وستبقيان إلى أمد بعيد إن شاء الله.
واستدار الزمان في يوم رحيل شيخنا:
توافق غريب، قمتُ بارسال المقال للنشر في نهار الجمعة 2 يوليو 2010، وفي المساء عدتُ للكتاب (الجزء الثالث) لمواصلة مقالاتي، فتنبهت أن الصفحة الأخيرة من الكتاب تقول: ان في صباح يوم الأحد 4 يوليو 1954، دخل شيخنا في حالة احتضار مفاجيء وأنتقل إلى الرفيق الأعلى في تمام الساعة الخامسة إلا ربعاً، لتنطوي صحفة إنسان مارس كل أنواع الجهاد، باليد وباللسان، وبالقلب وبالمال. وإنه من غرائب الصدف أن يستدير الزمان بعد مضي 56 عاماً لوفاته، ويكون يوم امس هو يوم الأحد 4 يوليو الذي أنتقل فيه شيخنا لرب كريم رحيم نطمع منه ونرجو أن يرحم ويغفر لشيخنا ويقبله قبول حسن مع الصديقين والشهداء وحسن اؤلئك رفقياً، ويبارك فيما أورثه من علم وعمل ما بقت السماء والأرض.
وإلى لقاء متجدد في يوم الاثنين القادم، مع الإمتاع والمؤانسة، مع المرأة في حياة شيخنا بابكر بدري وزوجته البقيع.