تاريخ حياتي لبابكر بدري: الإمتاع والمؤانسة …. بقلم: علي يس الكنزي

 


 

 

6-9

إن أمر البقيع لعجبا؟!

البقيع امرأة خاصة:

قلنا في مقالنا السابق أن شيخنا بابكر تزوج من النساء ست، ولكن أكثرهن حظوة في قلبه البقيع (بت عثمان) التي تزوجها في يونيو 1887 أثناء حملة ود النجومي لفتح مصر. وللبقيع قصة تستحق الذكر من دون سائر نسائه، فشيخنا تعلق بها تعلقاً لم يكن لنسائه الأخريات حظ مثله. مما يجعل من البقيع هذه امرأة خاصة، ذات سحر ودلال وجمال جعل شيخنا مفتوناً بها. إلا أن للبقيع أم كثيرة الشكوى (نسيبة نقاقة)، تطورت هذه (النقة) إلى أن خيرت شيخنا يوماً بين أمرين، أحلاهما مر. إما أن يترك عائلته ومن فيها (أمه) ويتفرغ (لبنتها)، أو أن يفارغ البقيع!

جاءه أخوة البقيع يهرعون، ودخلوا عليه ووجدوه واضعاً رأسه على حجر أختهم، وابلغوه بخيار أمهم، والحوا عليه بأن يطلق البقيع إرضاءً لها، ووعدوه بأنهم لن يزوجها لأحد غيره، وستعود إليه ريثما ترضى أمهم. فما كان من شيخنا إلا أن ينحاز لأمة بسجيته، ورفع رأسه من حجر أختهم ونطق بالطلاق، فبكت البقيع بدموع عينيها كما يصف شيخنا، وبكى هو بدموع قلبه المفتون بها. وتفارق الزوجان بعد أن عاشا لعامين في حب ووئام سنرى كيف تطورت أحداثه. وطفق شيخنا يعزي نفسه ببيت شعر مشهور كثيراً ما جرى على لسانه:

فأي امرئ ساوى أم حليلة فما عاش إلا في شقاً وهوان،

الانحياز للأم، والتعصب إليها من دون الناس ديدن شيخنا، وحبه وإعزازه وطاعته لوالديه لا يجاريه في مثلها أحد، وقد كفأه الله عن ذلك. فيوم توفيت أمه وهو بعيد عنها في سفر، كانت تقول وهي تنطق بالشهادة: "راضية عنك يا بابكر"، مما أحرج سعيداً ابنها وبنتها السهوة، اللذان كانا عند رأسها وقت احتضارها، حتى أن سعيداً تضايق من ذلك فخرج منها ثم عاد إليها ثانية.

في أخر يوليو 1889، بعد هزيمة جيش ود النجومي واستشهاده في معركة توشكي، وقع شيخنا أسيراً مع أمه وأخته وكذلك كان حظ البقيع واسرتها. فتم ترحيلهم في مارس 1890 إلى مصر. وبمصر تشتت الجمع، فاشتدت وجد شيخنا ورق قلبه ومنى نفسه بالجمع بالبقيع مرة أخرى، وراح ينشد بقيعاه شعراً، وكأنه مجنون ليلى قائلاً:

وجــودي يــا بقيـــع بزيــارة لتشـفى مسـقوماً لـه فقـدكم أعيـا

وأن الذي أرجوه يا سيدة النساء أن توصلي حبلي وإن كان واهياً

ولا تعتـبي (ستي) بما قد جنـيته فقـد قـل مـا دام الـوداد تصـافيا

إلى أن قال مرتجلاً:

ويا ربي يبقى العمر ما قد كتبته وعند (بقيع عثمان) تبقى وفاتيا

عند وصولهم إلى اسيوط في الطريق إلى القاهرة، جاءه الخبر الذي بدل ذلك الشجي إلى ضنى، وتلك السلوى المرتقبة إلى حزن، مما جعل الجرح يغور ليصل احشاء قلبه. فشيخنا جندي أسير ملك أمره غريب، فكان يمنى نفسه ببقيع عثمان، علها تروح عنه رهق الحياة وعنتها وتخفف عنه وطأة الأسر وهوانه على الناس. فإذا الناعي يقول: "أن البقيع تزوجت!" وبمن؟ بباشا، وأي باشا؟ الزبير باشا رحمة، المنتمي لقبيلة الجعليين (الجميعاب) الذي عمل في التجارة أولاً، ثم تجارة الرقيق والعاج في منطقة اقليم بحر الغزال، حيث أقام دولته هناك وعاصمتها ديم الزبير، وقد كان حليفاً لخديوي مصر، مما دفع الخديوي الاستعانه به لفتح اقليم دارفور ليكون جزءً من الدولة المصرية التركية وقد نجح الزبير في ذلك. ذهب الزبير لمصر لعرض موضوع خلاف وقع بدارفور بينه وبين اسماعيل باشا، إلا أن خديوي مصر أبقاه بالقاهرة خوفاً من أن ينضم للثورة المهدية، فخصص له قصر قديم للسكن. أصبح قبلة يلجأ إليها كثير من السودانيين بمصر.

مواجهة بين مُحب وزوج:

عَظُم الحزن والأسى في قلب شيخنا لغدر إخوة البقيع به ونكثهم لوعدهم، فقد أرسلوا إليه رسالة يحثونه ويلحون عليه اللحاق بهم في القاهرة لإعادة تزوجيه بالبقيع، إلا أنهم غلبوا له ظهر المِجَنّ وزوجوا أختهم للباشا. عند دخوله للقاهرة صار يردد الآية 23 من سورة الحديد، التي كثيراً ما استمع لمعانيها ومراميها من الأمام المهدي، ( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) وأنشد قول الشاعر:

وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع

وإذا بالأقدار تجمعه بالزبير باشا في قصره. وبساحة الاستقبال (الصالون)، وجد الزبير جالساً على كرسيه المفضل ذو العجلات إذا أتكأ عليه جري على البلاط . فأشار عليه أن اجلس، فجلس شيخنا حيث أُمِر، وبدأ بينهما حوار كشف عن مهارة شيخنا وحكمته وحنكته وقدرته على إدارة الحوار:

الزبير – لأي سبب جئت لمصر؟

بابكر – يا سعادة الباشا في السودان الناس يخاطرون ليروك، فلما كتب علينا أن نسكن القطر المصري لمدة لا نعلمها جئتُ لأراك وأتعرف بك.

الزبير – ثم ما السبب؟

بابكر – أولاد عثمان أولاد خالي (يشير لأخوة البقيع) ووالدتهم توفيت جئت لعزائهم.

الزبير – ثم ماذا؟

كلما يعطي شيخنا إجابة، يعود الزبير لسؤاله: ثم ماذا؟ لم يفصح شيخنا عن ما يجيش بدواخله، لأن لا فائدة من الحديث فيه، فقد سبق السيف العزل. انتصب الزبير قائماً وقال لشيخنا: "يقولون أن المرأة التي تزوجتها هي امرأتك؟" فأجابه: بل طليقتي، فرد عليه الزبير: لا بل امرأتك، فاجابه شيخنا: سبحان الله يا سعادة الباشا أنا الزوج الأول أعترف بالطلاق، وأنت الزوج الثاني تدَّعي ضده؟ فأجابه الزبير بلهجة حاسمة: "اسمع يا بابكر أنت جئت للرجوع لمطلقتك؟" ودار حوار طويل ختمه الزبير بقوله: "أن كنت تجبر بخاطري وتعتبرني كوالدك - كان يومها شيخنا في الثلاثين من العمر- تقبل طلاقها مني ورجوعها إليك حتى أتدارك غلطتي!"

فأجابه: "يا سعادة الباشا هذه البنت الآن صارت في أكبر بيت سوداني وهو بيت الباشا (سرايا الزبير) لذلك لن ترض بي". وينتهي المشهد الدرامي بقول الزبير: "علي الطلاق (راضينا بيك)، فحينما أخبرتها بوجودك جرت مدامعها وبدأ عليها الحزن". وتمر الأيام ويُوفي الزبير بما وعد، وتُطلقْ البقيع.

بصواردة وهي قرية مصرية، كان لقاء شيخنا بزينب الأخت الكبرى (لأولاد عثمان) وللبقيع، واصفاً أيها بأنها امرأة ماهرة ماكرة، تعرف كيف تصل لأغراضها" . خاطبته مبشرة أنهم عازمون على تزويجه بالبقيع عملاً بوصية الباشا (يعني الزبير) فأبدى شيخنا رغبة عظيمة في العودة إليها، ولكن دون شروط، إلا أنه على استعداد للسكن معهم بدنقلا، وإرسال أمه التي يحبها ويعزها إلى امدرمان، لأن لها في امدرمان زوج وأولاد. خرجت زينب من شيخنا ثم عادت إليه تبشره بأنها والبقيع موافقتان على عرضه. فأجزل لهما العطاء بجملين مُحَملين بالتمر، وجملين أخرين لنقل أغراضهما إلى دنقلا . وتطوع هو بقيادة الجمل الذي ستركبه البقيع، مشبهاً نفسه بالحجاج بن يوسف - على حد قوله - الذي قاد جمل هند بنت النعمان، قاصداً بها عبدالملك بن مروان، خامس الخلفاء الأمويين، وعبدالملك يُعدُ من أعظم خلفاء بني أمية حتى أنه لقب بـأبِ الملوك (حكم65 هـ-86 هـ/685-705م).

شيخنا والحجاج بن يوسف الثقفي:

لعلها سانحة أن نروي فيها قصة الحجاج مع هند التي لم ترد في كتاب شيخنا، لأنها قصة غريبة الأطوار تستحق الذكر. والقصة تقول أن هند بنت النعمان كانت أجمل وأحسن نساء زمانها. وصل وصفها إلى الحجاج بن يوسف الثقفي، فخطبها وبذل لها مالا كثيرا وكتب علي نفسه مؤخر صداق مائتي ألف درهم. دخل عليها ذات يوم دون أن تحس به، وهي تنظر في المرآة وتقول:

وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تحـللها بغـل

أن ولدت فحلا فلله درها وان ولدت بغلا فجاء به البغل

بعد سماع قولها غفل الحجاج راجعا، ولم يدخل عليها بعد ذلك. ولم تعلم هند لماذا أعتزلها زوجها؟ فهي تجهل أنه قد سمع قولها فيه. قرر الحجاج طلاقها فبعث إليها عبدالله بن طاهر فدخل عليها عبدالله وقال لها :"يا امة الله، يقول لك الحجاج أبو محمد أن لك عليه باقي صداق مائتي ألف درهم وقد أحضرتها معي، وقد وكلني بطلاقك منه". فقالت: "اعلم يا ابن طاهر أننا كنا معه والله ما فرحنا به يوما قط، وان تفرقنا والله لا نندم على فراقه أبداً. هذه المائتين ألف درهم هدية لبشارتك لي بخلاصي من كلب بني ثقيف".

علم عبدالملك بن مروان بقصتها مع الحجاج، ووصفوا له حسنها وجمالها وقدها واعتدالها وعذوبة حديثها، فأرسل إليها من يخطبها له. فجابته في كتاب تقول فيه :"بعد الثناء على الله والصلاة علي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وآله وسلم أما بعد، فأعلم يا أمير المؤمنين أن الكلب ولغ في الوعاء". إشارة ذكية بأن الحجاج قد قضى منها وطراً.

لما قرأ عبد الملك بن مروان كتابها ضحك وتعجب من قولها وفهم ما ترمي إليه، وكتب إليها مجاوباً، بقوله: "أما بعد: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا ولغ الكلبُ في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب" . فلما قرأت كتابه لم يكن لها إلا أن توافق. وكتبت إليه تقول:" بعد الثناء على الله والصلاة علي سيدنا محمد صلي الله عليه وآله وسلم، إني لا أجيز العقد إلا بشرط، فان قلت ما الشرط ؟ أقول: أن يقود الحجاج محملي إلي بلدك الذي أنت فيه ويكون حافياً وبهيئته التي كان فيها قبل أن تجرى له الأمارة". فلما قرأ عبد الملك كتابها وافق علي شرطها، وأرسل إلى الحجاج يأمره بهذا. فلم يكن للحجاج بدٌ إلا الانصياع. وذهب إلي هند وطلب منها أن تتجهز ففعلت. فلما ركبت المحمل وركب جواريها وخدمها ترجل الحجاج وهو حافي القدمين واخذ بزمام البعير يقوده وسار بها!! فصارت تتندر وتضحك عليه مع جواريها ثم خاطبها قائلاً :"اكشفي لي ستارة المحمل؟" فكشفته حتى بأن له وجهها، فضحكت عليه فانشد هذا البيت:

فأن تضحكي مني فيا طول ليلة تركتـك فيها كالقبـاء المفرج

أي تركها ولم يغشاها ليلاً حتى اصبحت كالثوب المهمل الذي لا صاحب له.

فأجابته ببيتين:

وما نبالي إذا أرواحنا سلمت بما فقدناه من مال ومن نسب!

فالمال مكتسب والعز مرتجع إذا النفوس وقاها الله من عطب

ولم تزل تضحك وتتندر عليه إلى أن وصلت بلد مروان، فرمت من يدها ديناراً علي الأرض وقالت له: "يا جمال، سقط منا درهم". فنظر الحجاج إلي الأرض فلم ير إلا ديناراً فأجابها:"هذا دينار". فقالت: "بل هو درهم". فقال لها: "بل هو دينار". فقالت: "الحمد الله الذي أبدلنا بالدرهم ديناراً". ففهم الحجاج اشارتها بأي الرجال أبدهلها الله، وخجل من ذلك، وأدخلها إلى قصر عبد الملك.

مَوَاعِيدَ عُرْقُوبٍ أَخَاهُ بِيَثْرِبِ:

أما شيخنا فقد شبه نفسه بالحجاج لالتقاء قصتهما في كثير من الحوادث، إلا أن شيخنا كان أوفق حظاً عند البقيع من الحجاج عند هند. والبقيع لم تتمن فراق شيخنا ولكنها أجبرت عليه، أما هند فقد سعت له حتى نالته وكافأت من بشرها بطلاقها. كما أن شيخنا كان يكفيه من البقيع رفقتها في السفر إلى مدينة العرضي والتمتع بأنسها. لكن البقيع تمنعت عليه طوال الرحلة، لحيائها الشديد واحتشامها كعادة الخطيبة في ذلك الزمان. كما أن شيخنا كان يقود ناقة البقيع ليزفها لنفسه، أما الحجاج فكان يقود ناقة هند ليزفها لعبدالملك، وكانت الأخيرة تتندر وتتفكه هي وجواريها على الحجاج، أما البقيع فكانت صامته وليس لها من الجواري حظ، ولكنها صاحبة محمل كمحمل هند.

رغم الحشمة والجفاء المفتعل من البقيع لشيخنا، إلا أنه سعد بصحبتها ورفقتها، وكان يكفيه أنها بالهودج، وأن الهواء يأتيه من ناحيتها حاملاً رائحة عطرها وعرقها الممزوج بعبق ذكريات أيام خلت كان يضع رأسه على حجرها ونحرها ليقرأ كتاباً. ما زال شيخنا يسبح مع خياله وأشواقه إلى أن حط الركب بمدينة دنقلا العرضي حيث مقر أهل البقيع.

عندما أنيخت الأحمال واستقر الناس إلى مساكنهم، طلب شيخنا تزويجه، فماطلته زينب بدعوى غياب إخوتها، ولكنهما ساومتاه بطلاق حفصة قبل الزواج بالبقيع. فكاشف حفصة بما هو مقدم عليه، فنصحته أن لا يستجيب لطلبهن لأنهن نساء ماكرات، لن يوفين بوعدهن. وأردفت قائلة: "بأنها ألفته وأحبته ولا تريد فراقه، وليس لديها مانع أن تكون زوجته الرابعة، فليبقيها في حباله". ولكن شيخنا رضخ لهوى النفس، وخفقات القلب، واستجاب لضغوط زينب، وكان طلاقه لحفصة بعد أن دفع لأمها مؤخر الصداق. لكنه في النهاية لم ينل من البقيع حظاً. وفي طريق عودتهم إلى امدرمان تدارك خطأه وأعاد حفصة إلى عصمته.

وإلى لقاء جديد في يوم الاثنين القادم، مع الإمتاع والمؤانسة، مع شيخنا بابكر بدري.

Ali Yassin Al-kanzi

Asshawal village White Nile State Sudan

email. alkanzali.gmail.com

 

 

آراء