ذات يوم ذات سنة وجدنا أنفسنا جزءً من “المرتزقة” 1-2 …. بقلم: طلحة جبريل
طلحة جبريل
20 July, 2010
20 July, 2010
talha@talhamusa.com
أود أن اتحدث عن الصحافة السودانية.
قرأت قبل ايام رقماً مخجلاً، يقول إن معدل قراءة الصحف السودانية الورقية لا يتجاوز 350 الف قاريء معظمهم في العاصمة. 350 الف قاريء في بلد يزحف، قبل أن ينشطر الى دولتين، نحو رقم اربعين مليون نسمة، أو ربما بلغها بالفعل. بمعنى آخر ان قراء الصحف الورقية في بلادنا تقل نسبتهم عن واحد بالمائة.
أقفز الى موضوع آخر.
لاحظت ان الانسان يتحول الى رقم في حالتين إما في السجن أو في الفندق. حين تدخل السجن، تنسى أو تتناسى إدارة السجن اسمك، وتتحول الى رقم 103 مثلاً. لذلك سيقال 103 يتوقع زيارة ، او 103 سلوكه غير منضبط ربما يستحق زنزانة انفرادية، أو وجدنا ممنوعات عند 103. أو 103 يظل يغني بصوت منفر طوال الليل. واذا كان محظوظا سيقال قريباً سيفرج عن 103. أما في الفندق فيقال 242 يطلب قنينة ماء. أو لدى 242 ملابس يطلب ارسالها الى الغسيل الجاف، أو 242 يريد أن يستيقظ في الصباح الباكر. أو ربما يقال إن 242 انتهت فترة حجزه وعليه المغادرة. وقد يقال انتبهوا 242 يطلب دائماً خدمات الغرف ويتعارك معهم لأتفه سبب. هكذا تكتشف ان بين السجون والفنادق أمر مشترك، وهو انك تتحول الى رقم. لكن ما علاقة ذلك بموضوع الصحافة.
لايذهب خيالكم بعيداً،الصحافي في كثير من الأحوال أما أن يحل ضيفاً على السجون والمعتقلات، أو ضيفاً على الفنادق. شخصياً، كنت محظوظاً إذ كان نصيبي من الفنادق بلا حصر، اما السجن فقد جربته مرة واحدة، وأيضاً كنت محظوظاً، لان ذلك كان في المغرب.
سأروي لكم واقعة ذلك "السجن" الذي كان" اعتقالاً" في الواقع وليس سجناً. ثم اعود الى موضوع الصحافة السودانية. أروي الواقعة تحية الى زملاء أعزاء باعدت بيننا الأمكنة والأزمنة، والى روح سفير سوداني لف الغموض ظروف وفاته في المغرب.
في تفاصيل الواقعة أن معظم الطلبة السودانيين في المغرب، واتحدث هنا عن السبعينات، كانوا يسافرون خلال العطلة الصيفية،إما إلى السودان لزيارة أهلهم، أو إلى بريطانيا للعمل في الضيعات الفلاحية في الريف الانجليزي، قبل أن يعودوا إلى الرباط عندما تبدأ السنة الدراسية. شخصيا لم أكن أذهب إلى السودان أو إلى بريطانيا، وسبب ذلك، إضافة إلى عدم توفري على مصاريف السفر، هو أنني كنت رئيسا لاتحاد لطلاب السودانيين، أي أن بقائي في المغرب كان التزاماً نقابياً، لمعالجة بعض المشاكل التي كان يواجهها زملائي الطلاب.
كانت العطلة الصيفية فترة عصيبة في حياة الطلبة الأجانب خاصة المعوزين أمثالنا، لأنه خلال العطلة تغلق المدن الجامعية في المغرب أبواب مطاعمها، ويتبخرما تبقى في جيوبنا من آخر منحة دراسية.
وهكذا وجدنا أنفسنا، في صيف عام 1976،ونحن قرابة 27 طالبا سودانيا، أننا نتضور جوعا. حاولنا أن نتغلب على الجوع من خلال التقشف في المعيشة وطهو بعض الوجبات البئيسة في "الحي الجامعي مولاي اسماعيل" في الرباط ، لكن عندما نفذ صبرنا قررنا أن نحتل السفارة السودانية بالرباط وألا نغادرها إلا إذا وعدنا السفير العميد معاش الرشيد نور الدين، رحمه الله، بحل مشكلتنا مع الجوع.
هنا أتوقف عند حادث وفاة السفير الرشيد نور الدين في المغرب في حادث مروري. حيث راج وقتها أن وفاته كانت مدبرة. توفي السفير الرشيد نورالدين، في منطقة" سيدي يحي" شمال الرباط حيث اصطدمت شاحنة بسيارته، وكان عائداً من لقاء عاصف مع نميري وكان جاء في زيارة رسمية للمغرب ونزل في فاس. المؤكد ان الرشيد نورالدين، الذي كان قائداً للكلية الحرية ثم مديراً لجهاز الأمن القومي، ظل ينتقد نظام نميري علناً ولم يكن راضياً عن سياساته ، وقيل إنه عين سفيراً في المغرب لابعاده من السودان.
كنت باعتباري رئيساً لاتحاد الطلاب، صاحب فكرة احتلال السفارة السودانية، وتحولت الفكرة إلى قرار تبناه أغلبية الطلاب الذين كانوا يعيشون آنذاك في الحي الجامعي مولاي اسماعيل في عطلة الصيف، كنا نعاني معاناة شديدة بعد ان تقطعت بنا السبل. لم أعد أتذكر اليوم الذي أحتللنا فيه السفارة، لكن ما أتذكره جيدا أنه كان يوم من ايام صيف عام 1976.
بعد اقتحام مباني السفارة، طلبنا من الديبلوماسيين السودانيين أن يغادروا المبنى مع وعد بانهم لن يتعرضوا إلى أي أذى. كنا خططنا لاحتجاز السفير الرشيد نور الدين رهينة، وكان مفترضا ألا نطلق سراحه، ما لم نتلق وعداً بحل مشكلتنا مع الجوع. لكن ما حدث أن السفير لم يأت إلى مكتبه ذلك اليوم الذي اقتحمنا فيه السفارة. ربما وصلته معلومات حول ما كنا بصدده.
حاصرت قوات الشرطة مبنى السفارة خشية وقوع انفلات أمني. وعندما علم السفير السوداني بخبر الاقتحام وكان في منزله، طلب من الشرطة المغربية اخراجنا بالقوة. أذكر أن الضابط رئيس فرقة الشرطة طلب منا، إنهاء احتلالنا للسفارة، وهدد باستعمال القوة إذا لم نغادر. ومع ذلك لم نستسلم لتلك التهديدات.
كان ردي عليه "ليس لك الحق في استعمال القوة ضدنا، لأننا نخوض احتجاجا سلميا فوق أرض سودانية وفق الاتفاقيات الدولية، التي تقول إن السفارات تعد جزءً من اراضي الدولة التي تمثلها". كان موقف بعض زملائي، واذكر من بينهم مامون عيدروس، أنه اذا كان علينا الخروج من السفارة يجب ألا يحدث ذلك الا بالقوة. بعد ذلك، أعطيت الأوامر للشرطة بتنفيذ قرار الإخلاء ليجد كل واحد منا نفسه مجروراً مثل خروف إلى سيارات الشرطة.
هنا أذكر واقعة طريفة وقعت لنا ونحن في سيارة الشرطة، التي نقلت اليها مع زملاء آخرين. كان معي في سيارة الشرطة زميلنا محمد عابدوني، وهو من أبناء وادي حلفا، وكان يلقب ايضاً باسم " حمو". ونحن داخل سيارة الأمن باتجاه وجهة غير معروفة، كان لاسلكي السيارة مفتوحا. كنا نسمع حواراً بالفرنسية حول اعتقالنا،هنا سيطلب حمو لا غيره، من الشرطي زيادة صوت اللاسلكي لنسمع ما يقال، فما كان من الشرطي إلا أن نهره قائلاً "هل نسيت أننا رجال أمن وأنك معتقل ونحن لسنا في نزهة".
لم يكن ممكنا أن نعرف الوجهة التي تم اقتيادنا إليها، لأننا كنا داخل سيارة بدون نوافذ ، كل ما أتذكره هو أننا دخلنا إلى بناية من باب خلفي، ليطلب منا الصعود في درج قادنا إلى شقة صغيرة. كانت عبارة عن غرفتين ضيقتين ومرحاض، وأكيد أنها لم تكن تتسع لحوالي 27 طالبا.
أتذكر أننا قضينا اليوم الأول في الشقة وسط إجراءات أمنية مشددة، حيث كان رجال شرطة مكافحة الشغب يحرسون مدخل الشقة. كان ذلك في نهار رمضان وكنا صائمين.
بعد فترة استدعيت باعتباري رئيساً للاتحاد للتحقيق معي حول تهمة خطيرة للغاية. كانت تلك التهمة مفادها أننا قمنا باحتلال السفارة السودانية بتحريض من المخابرات الليبية، وقالوا إن لديهم معلومات تثبت هذه التهمة. ما جعل الأجهزة الأمنية المغربية ترجح هذه الفرضية هو تزامن حركتنا الاحتجاجية مع محاولة المعارضة السودانية التي كانت تعمل تحت اسم "الجبهة الوطنية" لقلب نظام نميري في الخرطوم.
في تلك الفترة أرسلت"الجبهة الوطنية" مجموعات مسلحة للاستيلاء على العاصمة الخرطوم، وكادت ان تنجح في مهمتها. اطلقت وسائل الاعلام السودانية الرسمية على تلك العملية " الغزو الليبي" وكانت تقول إن مجموعة من المرتزقة نفذوا العملية. والواقع انهم لم يكونوا "مرتزقة" بل معارضين ، تدربوا وتسلحوا في ليبيا. راج أن احتلالنا للسفارة كان جزءً من هذه التحركات. كما أن السفير الرشيد نورالدين دخل على الخط في هذه القضية، وقال إن حركتنا الاحتجاجية كانت لها صلة بالمحاولة الانقلابية في السودان ولم تكن بدوافع اجتماعية، وأننا قمنا بهذا التحرك في شمال إفريقيا لدعم الانقلابيين وذلك باحتلال السفارة للتمويه حول ما يحدث في السودان.
أعترف أنني خشيت على نفسي وزملائي من تلك التهمة، ولم تكن تهمة هينة، خاصة أن المحققين المغاربة الذين حققوا معي كان اسئلتهم تركز على هذه القضية. ولم أعد أعرف ما الذي ينبغي أن أقوله حتى أبرهن أن قضيتنا مرتبطة بالخبز، ولا علاقة لها بأية جهة سياسية سواء في ليبيا أو غير ليبيا. المهم أن الأمور تعقدت ولم تكن وفق ما خططنا له، لكن بقيت متشبثا بأقوالي ورويت الوقائع كما هي دون زيادة أو نقصان. وكنت صادقاً في ما اقول. بعد الانتهاء من التحقيق، عاد بي رجال الأمن من جديد إلى الشقة حيث كنا محتجزين، و كانت مفاجأة سارة عندما أتوا لنا بوجبات أفطار قبل آذان المغرب ولم تكن الوجبات رديئة مثل تلك التي تعودنا عليها .
قضينا في الشقة (المعتقل) قرابة اسبوعين، كنا نقضي الليل في ظروف سيئة،لأن الشقة ضيقة ولم تكن مساحتها كافية لاستيعاب 27 طالبا، لكن الأهم من هذا كله هو أن الوجبات الرمضانية (فطور وسحور) ظلت تصلنا بانتظام في ذلك "المعتقل" .
لكن وضعيتنا ستعرف منعطفا خطيراً بعد أن تأكد رسميا فشل الانقلاب العسكري ضد نظام جعفر النميري. والمؤشر على هذه الخطورة اننا سمعنا أن جعفر نميري أرسل طائرة عسكرية إلى المغرب وأمر سفيره في الرباط بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية المغربية لترحيلنا إلى الخرطوم لنحاكم بتهمة التواطوء مع الانقلابيين في السودان، كان ذلك سيعني حتماً السجن، بل ربما حتى الاعدام، لان الاعدامات طالت معظم الذين اعتقلوا في عملية " الغزو الليبي".
كان ممكنا أن نرحل بسهولة ونواجه مصيراً قاتماً. إذ كان يمكن للراحل الحسن الثاني، نظرا للعلاقة القوية التي ربطته مع نميري، أن يوافق على ترحيلنا، لكن السلطات المغربية ارتأت أن تسليم طلبة سودانيين إلى نميري، قصد محاكمتهم في قضية انقلاب، مسألة في غاية الحساسية. ربما لهذا السبب تلكأت في الاستجابة لطلب ترحيلنا.
وكان أن ابلغنا ذات يوم قبل مغيب الشمس باننا سنغادر تلك الشقة إلى وجهة غير معروفة. وعند خروجنا من الشقة وجدنا سيارتين للشرطة،طلب منا الصعود اليهما. اخترقت السيارتان عدة شوارع، إلى أن توقفتا في مكان ما، ثم طلب منا أن نترجل بعد أن قالوا لنا "إن الأمر انتهى". كانت المفاجأة أن وجدنا أنفسنا داخل الحي الجامعي مولاي اسماعيل، وفهمنا أننا لم نعد معتقلين ولن يتم تسليمنا إلى نظام نميري.
بعد بضعة ايام، وفي يوم العيد، استدعانا السفير الرشيد نورالدين، لمقابلته في مقر السفارة.
يومها سألني السفير عن دواعي اقتحامنا لمبنى السفارة، وقبل أن أجيبه عن سؤاله طلبت أن أتحدث إليه ليس بصفته سفيرا، وإنما بصفته مواطنا سودانيا. واعتقد السفير أنني سأقول له شيئا ذا أهمية له صلة بوجود خلفية سياسية لحركتنا الاحتجاجية، لكنه فوجئ عندما قلت له "سعادة السفير أليس من العيب اننا في يوم عيد وما زلنا صائمين لان ليس لدينا ما نأكله". أتذكر أن الرشيد نورالدين تأثر كثيراً بما قلت وقال "هذه المسألة بسيطة وسأحلها في أقرب وقت لكنني اريد التأكد ألا أحد حرضكم للقيام بما قمتم به ".
طلبت من السفير ان يتحدث الينا جماعة وليس فرادي، وبالفعل دخلنا جميعاً الى مكتبه ودار نقاش سياسي طويل. ومن بين ماسمعناه من السفير الرشيد نورالدين، رحمه الله، قوله بالانجليزية" عندما تتصارع الأفيال الحشائش وحدها تعاني" جملة كانت تلخص الصراعات على السلطة في السودان.
كانت تلك تجربتي الوحيدة مع السجن. حتى الآن على الأقل.
عن " الأحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1