تاريخ حياتي لبابكر بدري: الإمتاع والمؤانسة … بقلم: علي يس الكنزي
بسم الله الرحمن الرحيم
من أبواب متفرقة
alkanzali@gmail.com
7-9
المرأة في حياته
حفصة وطلاق الثلاث
جرى في مورثنا وعرفنا السوداني المتجذر بقيم الإسلام، أنه ليس من المقبول ولا المعقول التطفل والتطرق للحياة الخاصة للآخرين، فما بالك إن تعلق الأمر بالنساء؟ ومن بين النساء الزوجة؟! إذن تكون الحرمة أعظم، فتلك منطقة يحترق فيها من يقترب منها، دع عنك من يحشر أنفه ويجعل من نفسه رقيباً وحسيباً في شأن ليس له فيه ناقة ولا جمل. إن حدث ذلك فعين المرء مهدرة امتثالاً لما جاء في السنة المطهرة، فقد ثبت أن ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لو أَنّ رجلاً اطَّلعَ في بَيتِ قوم بغير إذْنهم ففَقَؤُوا عينَه - أَي شَقوها- لم يكن عليهم شيء). فما أنا مقدم عليه يعد من هذا القبيل، غير أن شيخنا من خلال كتابه (تاريخ حياتي) أذن لنا بالدخول لداره الرحبة، والتعرف إلى أهله، ومن بين الأهل الزوجة والأم والأب، والابن والابنة، والأخ والأخت. لذا فليسمح لي القارئ أن أحدثه عن أمر يتعلق (بحفصة) زوجة شيخنا.
نجد أن موقف شيخنا تجاه المرأة لا يحتاج لكثير مزايدة، فهو عمل ستبقى أثاره ونتائجه ظاهرة تحدث عن نفسها في كل يوم ما بقيت مؤسسات الأحفاد قائمة. ولكن في مقالنا هذا نريد أن نطرح سؤالاً مشروعاً ونسعى للأجابة عليه من واقع روايات شيخنا والسؤال يقول: هل كان لشيخنا ضحايا من النساء؟ بالكتاب وقائع تسمح للناقد أن يلحق مثل هذا الوصف بشيخنا دون يرتجف قلمه. يظهر ذلك جلياً في علاقته مع زوجته حفصة، فهي ضحية لتناقض عاش في دواخل شيخنا، فمن ناحية وبعد هزيمة دولة المهدية وعودة الاستعمار (الإنجليزي المصري) للسودان في أقل من عقدين من الزمان، نجد أن شيخنا أصبح رجلاً مجدداً، اهتدى لطريق واحد كأداة لمقاومة الاستعمار واخراجه، علاوة على أنه أداة لتنمية الأفراد والبلاد. ألا وهو التعليم، الذي نذر شيخنا ما بقى له من عمر وجعله رسالته في الحياة، وكانت مدارس الأحفاد الخاصة للبنين والبنات.
ولكن من الناحية الأخرى، نجد شيخنا يسير على دين آبائه، ويمارس الكثير من طبائع وعادات زمانه، منسجماً مع بعضها وكاره لأخرى، فهو يشعرك أن دواخله تنازعه تجاه الكثير من الممارسات الخاطئة، فلا يليق بمثله تبنيها. والوجه الأخر لشيخنا يظهر جلياً في قصته مع حفصة، مما يستدعي الوقوف عليها والتأمل فيها علنا نجد ما يعيننا على فهم داوفع شيخنا واسباب ربما تدفعنا لأن نجد له عذراً في طلاق خير نسائه (حفصة) بطلقات بلغن ثلاث ندم عليها، حتى بلغ به تأنيب الضمير أن يبحث له عن مخرج يعيد حفصة لبيتها فلم يتيسر.
سبق وأن ذهبنا في القول واصفين البقيع بأنها امرأة خاصة، ولكن من تستحق تلكم الخصوصية عندي هي حفصة. فرغم مجيئها الثالثة من حيث ترتيب الزواج كما بينا، إلا أن القارئ لكتاب (تاريخ حياتي) يحس أنها الأولى على جميع نسائه لدواعي شتى سنوردها تفصيلاً.
أولها: قبلته واختارته زوجاً لها من بين خطاب كثرُ - وكلاهما اسيرا حرب بمصر- فقد رأت أمها فيه الفضل والسماحة في الخلق زوجاً ومطلقاً، هكذا وصفته.
أما الثانية: تزوجته بعيداً عن الأهل، بعيداً عن الديار، فكانت له نعم الأنيس والرفيق.
ثالثهما: كانت اقل نسائه مهراً، فأنطبق عليها قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم (أقلهن مهراً أكثرهن بركة). قال إنه صرف على زواجها مائتين وسبعين قرشاً.
رابعها: امرأة لا تعص له أمراً وتؤثر أمه على نفسها. عندما أُطْلِقَ سراحهم من الأسر وسمح لهم بالعودة إلى السودان، وافقت أن تواصل رحلتها الطويلة التي امتدت لمئات الكيلومترات من صرص بالقرب من حلفا حتى دنقلا العرضي، راجلة على قدميها تاركة الحمار لأمه. وأنظر إليه وهو يقول عنها: "أما زوجتي حفصة فكانت سائرة على رجليها ولم تبدي لي أو لغيري تذمرا. بل أحياناً تحمل عني عبدالباسط على ظهرها. وكنت أذكر لها هذه الحسنة كلما استأءت منها".
خامستها: إنها امرأة ولود: وهذا توافق آخر مع قول رسول الله، منها رزق بأول ذرية له بعد زواج دام معها لأكثر من عشر سنوات، كما تزوج من قبلها بسنوات كل من حواء والبقيع ولم يزرق منهن بذرية.
سادستها: هي له زوجة وخادمة: هكذا وصفها عندما أراد طلاقها والعودة للبقيع : "هي زوجتي وخادمتي" حسب تعبيره، وذلك عندما اصرت زينب أخت البقيع بأنهم لن يزوجوه بالبقيع مرة ثانية إلا إذا طلق حفصة، استعطفته حفصة قائلة : "سمعتُ أنهم يريدون أن يطلقوني منك ويماطلونك حتى أستعد - أي أكمل العدة - ويزوجوني للحسن ولد الفضل ويمنعونك البقيع. فقل لهم أنا طلقت حفصة، وأنا ارحل مع أمي إلى بيت خالتي عائشة، إن زوجوك البقيع أنا مع ثلاث زوجات اقبلك رابعة، لأني ألفتك". فنهض شيخنا قائماً وهو يحدث نفسه قائلاً " هذه خادمتي وزوجتي، وتلك سيدتي وزوجتي" وعزم أن يبقى مع حفصة مسترشداً برايها. ولكن رغم هذا التوسل والتعلق والتَعَقْلُ رضخ شيخنا أخيراً لرأي زينب وطلق حفصة ولكن أهل البقيع حبسوها عنه ولم يزوجوها له. وفي الطريق إلى أم درمان رجع إلى حفصة.
سابعها: تعمل بنصائحه وتهتدي بهديه. حكى أنه اشترى لها حجولاً من فضة ففرحت بها أيما فرح، حتى تكبرت على النساء، وفي يوم أتت نسوة من اسر معروفة لزيارتها، فعند وداعهن لم تقم من مقعدها بدعوى انها مثقلة بزينة النساء، فودعتهن وهي جالسة، مما اضطر شيخنا استخدام دبلوماسيته المعهودة والخروج مع النساء ووداعهن بحرارة. وعاد ناصحاً وموبخاً لحفصة قائلاً: "علام تتكبرين! أنسيت جوع بلادنا؟ وسعيك من صرص راجلة حتى (العرضي) يرمي إلى دنقلا؟ أم نسيت دردوم الودك –(الودك هي دهون الحيوان التي تجمع لترطيب البشرة، فهي كريمات ذلك العصر، وما زال استخدامها جارياً)- حينما دخلت أم درمان؟" وقال: أنها من ذلك اليوم أتعظت واخذت تجامل الناس وتعاملهم بالحسنى والأدب والذوق.
ثامنها: أمضت في نفسها حكم أبيه، جاء في احد الأيام من السوق ووجد بعض (عفش البيت) أثاث المنزل مجمع للرحيل وزوجته حفصة وأمها مريم على ساحة الديوان الخارجي، فسأل والدتها عن سبب ذلك؟ فأجابت: " أبوك طلقنا!". وأنظر لشيخنا وطاعته لوالده في الزواج والطلاق، فرغم رغبته وارتباطه بزوجته حفصة التي أنجبت له أول ذريته، رغم ذلك كله أجاب أم حفصة قائلاً: " إذا كان والدي لا يرضى ببقاء ابنتك معي فأن أمضي ما أمر به أبي" ولم يمر الأمر إلا بعد أن استرضت حفصة (نسيبها) أي والد زوجها.
تحضرني قصة مماثلة طريفة تشابه في بعض جوانبها قصة طلاق شيخنا بابكر بدري لزوجته حفصة الذي أجاز فيها حكم أبيه. وتقول الطرفة: أن الأصمعي وهو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي،(121 هـ- 216 هـ/ 740 - 831 م) أحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان، كان كثير الطواف في البوادي يقتبس علومها ويتلقى أخبارها ليتحف بها الأمراء، فيكافأ عليها بالعطايا الوافرة. وكان الرشيد يسميه (شيطان الشعر)، لأنه أعلم الناس بالشعر في زمانه وأكثرهم حفظاً.
حكى يوماً للرشيد هذه الطرفة قائلاً: "بلغني يوماً يا أمير المؤمنين أن رجلاً من العرب طلَّق خمس نساء في مجلس واحد!". فقال له الرشيد ":إنما ملك الرجل أربع نسوة فكيف طلق خمســاً؟" فأجاب: "كان لرجلٍ أربع نسوة فدخل عليهن يوماً فوجدهن متلاحيات متنازعات وكان الزوج سيء الخلق قليل الصبر، فقــــال: إلى متى التنازع يا أيتها النسوة؟ والله إني ما أخال هذا الأمر إلا من قِبَلك، وأشار لاحداهن، اذهبي فأنت طالق! فقالت له صاحبتها: عجلتَ عليها بالطلاق ولو أدبتها بغير ذلك لكن حري بها، فقال لها: وأنت أيضاً طالق! فقالت له الثالثة: قبحك الله يا هذا!! فوالله لقد كانتا إليك محسنتين وعليك متفضلتين. فقال لها: وأنت أيتها المعددة أياديهن ومحاسنهن طالق أيضاً! فقالت له الرابعة وكانت هلالية وفيها أناة وشدة: ضاق صدرك عن أن تأديب نسائك إلا بالطلاق!! والله إن لأمرك عجباً. قـــــال لها: وأنت طالق أيضاً! فطلقهن الأربعة. وكان ذلك بمسمع من جارته فأشرفت عليه من وراء الجدار، وقــد سمعت كلامه فقالت: والله ما شهدت العرب بمثلك، أبيتَ إلا طلاق نسائك في ساعة واحدة؟! فعاجلها قائلاً: وأنت أيتها المؤنبة المتكفلة طالق إن اجاز زوجك!" فأجابه من داخل بيته:" قد أجزتُ طلاقكم.!!" وكان يا امير المؤمنين طلاق خمس نساء من رجل واحد وفي مجلس واحد.
أما الطلقة القاتلة التي خرجت من فم شيخنا كما تخرج رصاصة من محبسها دون رجعة وتلقى من تلقاه قتيلاً، كان طلاق حفصة بعد عشرة دامت لخمس وعشرين عاماً، فقد تزوجها في عام 1890 وطلقها عام 1915. فعند زواج ابنتها سارة من ابن عمها إبراهيم يوسف بدري، طلب شيخنا من أم العروس (حفصة) أن لا تطالب أهل العريس بشيء قط خاصة (عوائد النساء)، ذلك لأن أخاه يوسف (والد العريس) بذل ووفر كل ما يحتاجه الزواج من صرف.
في حديث ربما كان عابراً بين يوسف وشيخنا، علم منه أنه دفع خمسة عشر جنيهاً نظير عوائد النساء، فلما تحقق من الأمر أقرت حفصة بعد طول حوار، فطلقها دون أن يخطرها وكانت هي الثالثة. ولكنه ندم فطفق يبحث عن فتوة شرعية تخرجه من مأزقه فلم يجد، فما كان إلا أن بلغها وافترقا دون لقاء.
من أكثر مظالم المرأة في السودان الطلاق، الذي يقع في أكثر حالاته دون سبب يرتقي لذلك الحلال المُبْغَضُ عند الله. فالمرأة في السودان يمكن أن يطلقها زوجها لعدة أسباب، ليس من بينها سبب واحد يعتري الزوجة من نقصان في مراعاة حق زوجها ورعايته ورعاية أطفاله. ولو قدر لشيخينا أن يكون بين ظهرانينا برفقة حفصة التي طلاقها ثلاث مرات لدللته على من يعيدها إليه.
في إحدى إجازاتي علمتُ أن أحد أقاربي طلق زوجته الطلقة الثالثة، بعد عشرة تجاوزت العشرين عاماً كان زينتها سبعة من الولد والبنت. فما كان من أهل الزوجة إلا أن أوكلوا محام لحفظ حقوق ابنتهم وأطفالها في البيت. عندما التقيت بقريبي سألته عن الأسباب التي دفعته لطلاق زوجته حتى بلغن ثلاث؟ فأجاب: "في المرة الأولى وبعد خمس سنوات من الزواج وقفت ضد ذهابي إلى النادي للعب الورق (الكتشينة)، فكان الطلاق. أما الثانية فوقعت بعد سنوات من تلك، هممت يوماً بالخروج في مشوار ونبهتها أن توقظ ابننا النائم قبل درس العصر بوقت كاف ليجهز نفسه. خرجتُ لمشواري، وعند عودتي وجدتُ ابني نائماً وفاته الدرس، وسألتُ أمه: لماذا لم توقظه؟ فأجابت أنها نسيت، فطلقتها. أما الثالثة فقد عزمت على الزواج بثانية وتم عقد القران، لكنها وقفت أمامي لتفشل زواجي، وعندما علم أهل الزوجة الثانية بما سيقع من مشاكل الحوا علي أن أطلق ابنتهم قبل أن أبنى بها فكان طلاقي من الثانية والأولى معاً".
قل لي قارئ العزيز، أيدك الله بفهم وبصيرة، هل من بين كل هذه الأسباب سبب واحد يرتقى للطلاق؟ ومن المتضرر من هذا الطلاق؟ اليس همُ الأطفال ثم الزوجة فالزوج؟ قلتُ لقريبي هذا: "لو كان الإفتاء بيدي لأبطلت طلقاتك الثلاث، ولكن اذهب لدار الإفتاء في الخرطوم علهم يفيدونك". وقد كان فزودوه بفتوى مهمورة تبطل الطلقة الثانية. وعاد لزوجته وأولاده.
ذكرت هذه القصة لأنه أصابني ألم وحسرة لفراق شيخنا لحفصة بعد الطلقة الثالثة. وقد مس شيخنا ألم وقرح وشرخ عظيم أعقبه الندم، وطفق شيخنا يبحث عن مخرج يعيد له حفصة كما ذكرنا إلا أنه لم يوفق، فما كان منه إلا ان يفارقها فراق نادم.
استناداً لما رواه شيخنا عن حفصة، فإننا نقول كما يقول شيخنا: أن مثل حفصة لا تستحق أن تكافأ بالطلاق مرة فما بال شيخنا جعلهن ثلاث؟!
لعلي أختم مقالاتي عن المرأة في حياة شيخنا بهذا المقال لنواصل ما سينقطع من إمتاع ومؤانسة برفقة شيخنا بابكر بدري بعد رمضان إن شاء الله حتى نكمل المقالات التسع ونزيدها بعاشرة يكتبها شيخنا من داخل قبره الذي اسأل الله أن يجعله روضة من رياض الجنة، فمثله لا يكافأ إلا بصالح الدعاء.
ولعلي أشكر كل من حفزني على مواصلة الكتابة عن شيخنا لأنه حري بها حسب رأي من راسلونني.
\\\\\\\\\\\\\