ملكية الأرض وإنفجار النزاع فى جبال النوبة !! … بقلم: آدم جمال أحمد – سدنى

 


 

 



تبدو ملكية الأرض ذات أهمية قصوى ، وسبب مباشر فى إنفجار النزاع والصراع فى جبال النوبة ، والتى تتمثل فى إنتهاك الزراعة الآلية لحرمة الملكيات الصغيرة من الأراضى فى المنطقة ، مما أدى ذلك الى إحداث تأثير بليغ على الحياة الاقتصادية والاجتماعية للتركيبة السكانية للنوبة ، والتى قادت فى نهاية المطاف الى تحطيم وتدمير أواصر التعايش السلمى ما بين النوبة وقبائل عرب البقارة.
لقد أنشئت الزراعة الآلية عام ١۹٦٨ م بتمويل من البنك الدولى ، للإشراف على نشر الزراعة بمناطق عديدة من السودان ، ولم تشذ عن ذلك إمتداداتها الواسعة النطاق لمشاريعها فى منطقة هبيلا شمال الدلنج منذ أواخر العقد السادس من القرن العشرين ، وإمتداداتها فى أم لوبيا – البيضاء – كركندى – القردود – الفوس – كركراية – كرتالا ...إلخ ، وقد قارب عددها ( 650 ) مشروعاً ، يبلغ متوسط مساحة الواحد منها حوالى ( 422 ) هكتار أى ( ألف فدان ) .. تم التصديق بها على أثر نزع هذه الأراضى من أصحابها ، فلم تراع فى توزيعها أدنى أى معايير للعدالة ، كما أنها لم تساهم بأى قدر يذكر فى تنمية المنطقة ، بل أن كل عائداتها يتم تحويله الى خارج نطاق المنطقة ، حتى أن مؤسسة تنمية جبال النوبة التى أنشئت فى عام ١۹۷۰ م ، للمساهمة بشكل مباشر فى تطوير القدرة الآجتماعية لطرق زراعة النوبة التقليدية ، لم تخصص إلا ( 37%  ) من مساحة الأرض وخدماتها الى قبائل النوبة ، وخصصت ما يقارب اﻠ ( 45 % ) منها للقبائل العربية ، و ( 18 % ) الباقية تقاسمتها قبائل الفلاتة والهوسا والبرقو الوافدة الى منطقة جبال النوبة من غرب السودان.
توجد حوالى ( 200 ) مشروعاً للزراعة الآلية تمت مراجعتها بمنطقة هبيلا ، والتى أنشئت بتمويل من البنك الدولى ويدعمها البنك الزراعى التابع للدولة ، ولقد منحت الحكومة عقود إيجار أربع مشاريع تعاونية محلية ، وأربع مشاريع لتجار محليين .. ومنح مشروع إيجار واحد لمجموعة من تجار هبيلا ، أما البقية والتى تبلغ ( 191 ) مشروعاً لقد منحت لأفراد من غير أهل منطقة جبال النوبة ، معظمهم من تجار وموظفون حكوميون وجنرالات متقاعدون من القوات النظامية من شمال السودان والجزيرة.

ولا بد من توضيح الحقائق للقارئ ومواطنى جبال النوبة والمهتمين بالشأن النوبى ، حتى نستطيع أن نقف على الحقيقة الغائبة ، بأن للزراعة الآلية فى سلب أراضى النوبة سببان هما:

١- هناك مشاريع التى تخططها الحكومة وتمنحها من الخرطوم عن طريق وزارة الزراعة ، ودون وضع أى إعتبار لحقيقة الوضع فى المنطقة ، تمنح الأرض لبعض الأشخاص الذين هم بصورة عامة جنرالات متقاعدون أو موظفون فى الخدمة المدنية أو تجار أثرياء من شمال السودان ، كما تمنح لجلابة محليين ظلوا يقيمون فى المنطقة لفترة طويلة تمكنوا فيها من جمع ثروات كبيرة ، ولهؤلاء علاقة وثيقة بالخرطوم وبدوائر الحكومة المركزية ، بحكم أنهم أصلاً من الشمال ، ولقد حاز هؤلاء أراضى لأنفسهم ، ثم أوعوزوا الى ذويهم بأنهم أيضاً يستطيعون الحصول على حيازة أراضى من خلال وزارة الزراعة ، وهكذا تحالفوا من أجل الحصول على مزيد من الأراضى ، ولأن النوبة لا يملكون شيئاً ولا حتى نفوذاً سياسياً لهم فى مجالات إتخاذ القرارات ، وكذلك ليس بينهم سوى نفر قليل من ذوى الصلة بمجال توزيع الأراضى ، أما الحكومة فإنها تقوم برسم الحدود بين المشاريع دون إعتبار لواقع المنطقة ، وحتى السلطات الحكومية لا تضع أى إعتبار إذا كانت هناك قرى على هذه الأراضى أم لا ... مما جعلت الزراعة الآلية فى منطقة هبيلا أحاطت بالعديد من القرى ، ولم تبقى هناك أرض للنوبة .. لا أرض للزراعة ولا للرعى ، ولقد أطبق الخناق على النوبة ، وصار عليهم أن يختاروا إحدى الخيارين أما أن يتركوا المنطقة ويذهبوا للعمل فى الحكومة كجنود ، أو يصيروا عمالاً زراعيين فى مشاريع الزراعة الآلية.  
٢- هناك الحيازة غير المخططة ( العشوائية ) للأرض ، إذ تجد شخصاً متنفذاً وثرياً أتى لتوه وأزال الأعشاب عن قطعة أرض يملكها أهل المنطقة بصورة جماعية ، وبحكم أن الوافد الجديد مسنود فإنه يزيل الأعشاب ويحضر جراراته وعماله ويبدأ فى الزراعة ، وإذا إعترضته أى مقاومة فإنه يذهب  للسلطات محتجاً ومطالباً بتوفير الحماية له ، ولأنه يستطيع رشوة السلطات فيمكنه أن يدفع ثم يفعل ما يشاء ، ومن لم يفعل ذلك يكون له صديق من السياسيين أو آخر من ضباط الجيش يملك من السطوة ما يجعله يرسل أوامره لكى يحصل صديقه على الأرض ، وهناك طرق أخرى للحصول على الأرض مثلاً أن تحرق قرية ما ويجبر سكانها على الذهاب الى مكان آخر.
فليس هناك أى خطة أو نية من الحكومة للإحتفاظ ببعض الأراضى للنوبة ، فالأرض إما أن تمنح للعرب الرحل بغرض الرعى ، أو يستولى عليها الإقطاعيون الأثرياء من الشمال ، ولا يبقى للنوبة سوى الكفاح ضد هذه التصرفات أو البحث عن وسيلة لحماية أنفسهم ، وبالفعل لقد بدأوا فى بناء منظماتهم السياسية وإحياء منظماتهم القديمة  .

وسوف نقوم بذكر بعض من النماذج الإستفزازية الصارخة الجديرة بالتسجيل منها:

♦ فى عام ١۹۷٨ م تم سجن المك حسين الأحيمر من منطقة ريفى دلامى ، وذلك لرفضه مصادرة أراضى المواطنين لصالح مشاريع الزراعة الالية المملوكة لتجار الجلابة.
♦ ما حدث لقرية ( فايو ) فى منطقة ريفى دلامى فى عام ١۹٨١ م حينما تم محاصرتها بمشاريع الزراعة الآلية من جميع الجهات عائدة لأحد تجار الجلابة ، الذى لم يكلف نفسه بزيارة المنطقة حتى ولو مرة واحدة ، وبنهاية عام ١۹٨٤ م كانت كل أراضى القرية تحت سيطرته ، وعند إحتجاج الأهالى تم إستخدام قوة القانون والشرطة لإبعادهم عن نطاق المشاريع الزراعية.
♦ لقد تضافرت عوامل أخرى ساعدت على زيادة حدة التوتر والإستقطاب فى المنطقة ، من أهمها  هو تقلص منسوب الأمطار فى غرب السودان منذ العام ١۹٦۷ م الى أقل من نصف معدله السنوى ، ونتيجة لذلك نزح الى المنطقة رعاة من القبائل العربية من غير سكانها ، بحثاً عن مكان إقامة لفترة طويلة الأمد أو دائمة فى منطقة جبال النوبة المطيرة ذات الأراضى الخصبة ، ولكن بإستمرار الجفاف فى أوائل الثمانيات صاحبتها زيادة كبيرة فى أعداد السكان والحيوانات فى المنطقة ، وكانت  أيضاً أحد الأسباب الرئيسية للنزاع.
ولكن لقد تسارعت الأحداث بتأسيس الجلابة أصحاب مشاريع الزراعة اآلية والبقارة الرعاة حلفاً مؤقتاً يستند الى قوة السلاح ، والتى كانت ممثلة فى ( مليشيات المراحيل والفرسان ) التى إندمجت فيما بعد لتكون ( كتائب الدفاع الشعبى ) لتشريد سكان المنطقة والإستيلاء على أرضهم ، فلذلك أن من أخطر إفرازات الحرب الأهلية فى منطقة جبال النوبة هو هيمنة قيادات المليشيات الميدانية على المجالس الإدارية وسيطرتها على إنتخابات المؤسسات السياسية والتشريعية ( المحلية والإقليمية والقومية ) ، لقد كانت هذه التغيرات نقطة تحول أخرى فى سلسلة إختلال ميزان القوى بين قبائل النوبة وعرب البقارة ، والتى حدثت تحت تأثير قانون الحكم الشعبى المحلى الصادر عام ١۹۷١ م ، وإعادة بناء الهياكل الإدارية فى المنطقة وتأسيس وحدات الإتحاد الإشتراكى خلال حقبة حكم الرئيس الأسبق جعفر نميرى ( ١۹٦- ١۹٨٥ م ) ، وهى نقطة التحول الأخرى التى تمكنت فيها القبائل العربية فى المنطقة لأول مرة من ترجمة وجودها الى وحدات إدارية معترف بها من قبل السلطات المركزية ، وتنظيم نفسها سياسياً فى المنطقة بشكل رسمى.
طفت بوادر هذا الصراع  والذى جاهدت الحكومة بأن لا يسفر عن وجهه كاملاً الى السطح ، وذلك عندما أعلنت حكومة ولاية كردفان فى الربع الأول من العام ١۹۹۲ م عن كشف تلاعبات وتجاوزات خطيرة فى تصديقات أراضى الزراعة الآلية بجنوب كردفان ، وقد قامت بنزع ( ۷١٢ ) مشروعاً زراعياً فى مناطق كرتالا وهبيلا الجديدة والقديمة والبيضاء ورشاد وأبوجبيهة ، بحجة أن بعضها كان ممنوحاً لأطفال ، وأن بعضه تم بيعه أو تأجيره من الباطن مخالفة للقوانين ، غير أن مصادر الجلابة تؤكد أن ما تم كان بغرض إعادة توزيعها لقيادات المليشيات ومشائخ قبائل البقارة ، مكافأة لهم لمشاركتهم فى عمليات دحر ( التمرد ) عن المنطقة ، وهى محاولة مكشوفة من الحكومة لخلق قواعد موالية لها فى المنطقة ، وبعض الدلائل تشير بوضوح الى أن مجموعات الجلابة الأقوياء ذوى النفوذ السياسى والاقتصادى الكبير فى مركز السلطة ، سيتخدمون قبائل البقارة لضمان تحقيق أهدافهم ثم يحرمونهم لاحقاً من السيطرة على أجود الأراضى.
فالسلام بالنسبة للنوبة يتعلق بالأرض والمحافظة عليها ، وهذا يوضح أن أفضل حارس للأرض هم السكان الأصليون أنفسهم ، وليست المجموعة الصفوية التى إكتسبت وسيطرت عبى مساحات واسعة من الأراضى عبر المحاباة السياسية ، مما أدى الى إجبار مزارعو النوبة على التحول الى عمال زراعيين بلا أرض فى المشاريع الزراعية الكبيرة ، والتى تنتهك الحقوق الإنسانية والإقتصادية والأرض الخصبة التى تعتمد عليها البلاد.
إن إستغلال الزراعة الآلية لقد أدى الى تدمير التربة الهشة العالية الخصوبة فى جنوب كردفان ، ولقد إستمر ذلك لوقت طويل بواسطة ملاك غائبين ، وبعض الهيئات الدولية التى تلعب دور الشريك فى الجرم ، وذلك من خلال مضاعفة الأرباح ، بينما تتصاعد الكارثة البيئية ، والتى تحتاج لوقفة من الحكومة الولائية بجنوب كردفان وبممارسة ضغوط على المركز بتوقف هذا العبث الذى يضيف من عملية وقود النزاع ، ويجب أن يكون هناك إحترام لخبرة المزارعيين المحليين حيث إن من الغالب الأعم أن تؤدى تقنياتهم الى تنمية زراعية مستدامة ، والتى تتطلب الى إتخاذ قرار شجاع بإنتزاع كل هذه المشاريع وإعادة النظر فيها بإرجاعها لملاكها وأصحابها الحقيقيين من أبناء المنطقة الذين ورثوها كابر عن جد ، ولكن لجهلهم وعدم درايتهم بالإجراءات والمسوحات والتخطيط وإستخراج الأوراق الثبوتية منذ فترة الحكم الإنجليزى ، أدت الى إستغلالهم من قبل الدولة وأصحاب النفوذ والسلطة والمال ، ولا بد من تجميد فورى لكل التسجيلات التى تمت ، وإقرار قانون بأعراف الأراضى وبالطبيعة العادلة للحقوق العرفية الخاصة بالأرض من خلال الآتى:

١- إنشاء لجنة أراضى للتحقيق وإصدار توصيات تضمين أعراف الأرض فى تشريعات الأراضى.
٢- مراجعة تسجيلات ما بعد ١۹٨۹م فى المناطق الريفية بغرض تحديد التسجيلات المشروعة وغير المشروعة ، وفى حالة النزاع حول الملكية فإن الإفتراض ينبغى ان يكون التسجيل غير شرعى ويقع عبء إثبات العكس على المالك الجديد.
۳- إعادة توزيع الأراضى التى تم الإستيلاء عليها بشكل غير مشروع بعد حقبة ١۹٨۹ م.
٤- وضع سياسة تتعلق بحقوق أراضى المرعى.
٥- المساواة بين النساء والرجال فى حقوق الأراضى. 

سدنى – استراليا         ٢٥ يوليو ٢۰١۰ م
Adam Gamal Ahmed [elkusan67@yahoo.com]

 

آراء