السودان الوطن الممكن: من صناعة الدولة إلى صناعة الثورة … بقلم: د. عبدالله جلاب
د. عبدالله جلاب
جامعة ولاية أريزونا
Abdullahi.gallab@asu.edu
للدكتور فرانسس دينق مقولة مأثورة أصبحت في لسان البعض أشبه بالآمثال السائرة وهي" مالم يقال هو الذي يفرق بيننا". وقد ذهب البعض بتأويلها إلى: "المسكوت عنه هو ما يفرق بيننا" كسودانيين. ولقد إشتهرت تلك العبارة أكثر من الورقة التي كانت تلك العبارة عنوانها والمناسبة التي قدمت فيها تلك الورقة قبل ما يزيد على العشرين سنة في مؤتمر هام في بيرقن بالسويد. وللذين يعرفون الدكتور فرانسس والذين لا يعرفونه والذين يودون معرفته هو واحد من أكبر العقول السودانية الذين تجاوزت شهرتها المحلية إلى العالمية مما بؤاه ما هو أكبر وأكثر من المكانة العلمية والمهنية المرموقة. وقد نختلف في الفروع أو أصول ما ما ذهب إليه الدكتور فرانسس. وسواء إتفقنا أو إختلفنا معه يجب النظر لما قاله وما يقوله الدكتور فرانسس دينق بتمعن وإهتمام شديدين. فهو باحث ومفكر وكاتب قضى سحابة عمره في النظر في تضاريس المسألة السودانية. هذا فقد جاء في حديت الأخ فرانسس ذاك بأننا " نحن السودانيون لدينا سمعة عالية في ما نتميز به من كياسة وربما نكون أقل شهرة في الميل نحو التفاؤل كوسيلة للتخفيف من مشاكل الحياة الهائلة التي تواجهنا. وقد يؤدي هذا إلى الشعور بالرضا وعدم الواقعية التي بدورها قد تخنق الإبداع في البحث عن حلول بديلة." تلك ملاحظات هامة تحتاج إلى بحوث ونقاش يمكن أن تقوم عليها أفكار تعزز الحوار العام بين السودانيين والدارسين للشأن السوداني. هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد لحق ذلك من حيث التوقيت وذاع أكثر من حيث الإنتشار قول المرحوم الطيب صالح في بداية عهد دولة الإنقاذ في التسعينات عن من إين أتي رجال الإنقاذ. وعلى الرغم من أن الطيب يعرف جيداً تاريخ الحركة الإسلاموية في السودان فقد كان ذات يوم سادس ستة أوسابع سبعة من طلاب كلية غردون الذين إجتمعوا في الأربعينات من القرن الماضي تحت إمرة المرحوم بابكر كرار ليكونوا البداية الأولى للحركة الإسلاموية في السودان. إلا أن ما ذهب إليه الطيب لمختلف جداً. فقد أراد أن يخبرنا بأن أولئك القوم أو إسلاموييي الإنقاذ مما ظهر من مسلكهم في الحكم لا يمكن أن يكونوا قد خرجوا من صلب الصفات التي يعتقد بأن السودانيين يتميزون بها ومن تلك بالطبع "الكياسة" التي أشار إليها الدكتور فرانسس. ومن قبل هؤلاء وأولئك نشر الصديق العزيز سيداحمد الحاردلو مجموعته القصصية الأولى في منتصف الستينات بعنوان "ملعون أبوكي بلد". وقد أخذت تلك الجملة من الذيوع ما لم يخبو إواره بعد. حتى وبعد أن خرج سيداحمد بقصيدته المشهورة "تقول لي منو وتقول لي شنو" والتي أشاد فيها وبشعر جذل كلما هو سوداني ولم يبق ولم يذر إلا الدوكة واللداية كما ذكر عبدالله عبيد في تعليق ساخر له على تلك القصيدة ذات يوم. وقد الحق سيد أحمد الحاردلو قصيدته تلك بنشيده الأشهر "يابلدي يا حبوب" والذي جعل منه محمد وردي بلحنه الجميل وأدائه الأجمل سلاما جمهورياً ثانياً. ولعله من المدهش أن الحاردلو قد أعاد طباعة مجموعته القصصية "ملعون أبوكي بلد" قبل سنوات فكأن بوصلة سيداحمد لا تزال تتأرجح ما بين اللعنة للبلد والفخر بأهلها كما ذهبت حساسية الطيب صالح الثقاقية إلى إخراج أولئك القوم من "الملة" السودانية ذات يوم فقد دفعت به حساسية أخرى في آخر أيامه إلى إخراجهم من ذلك الجحيم إلى المطهر على الأقل. هذا فقد ظلت مرآة فرانسس تعكس صوراً للسودانيين تجمع في ذات الوقت ما بين ما يدلل على الشعور بالرضا ويشير إلى عدم الواقعية.
هذا ومن جهة أخرى نجد معظم إن لم نقل الكثير من الذين تعرفوا على السودان والسودانيين للمرة الأولى قد إتفقوا مع الذين ظلوا يراقبون المسلك السوداني لوقت طويل أو قصير زائرين كانوا أو دارسين حكاماً كانوا أو تجاراً بأن القاسم المشترك الأعظم بين السودانيين على طول البلاد وعرضها هو تلك الجبلة الصدوقة والودودة إضافة إلى تلك الروح المتسامحة. هذا ومن جهة أخرى فإن السودانيين في "تغريبتهم" الأخيرة في العقود الثلاثة الأخيرة وتبعثرهم في المهاجر العربية والأوربية والأمريكية والكندية والأسترالية وغيرها وجدوا ما وجدوا عن طريق المقارنة من صفات تميز الآخرين عنهم أو تميزهم عن الآخرين. كما تعرف أو وجد مضيفوهم في الغالب الأعم في العديد منهم وعلى مدى الفترات المتلاحقة تلك الصفات الودودة إضافة إلى الإخلاص في العمل وتقدير الواجب. هذا ولعلنا جميعاً قد ظللنا على درجات من الضيق من بعض الأشقاء الذين ظلوا يصفوننا عياناً بياناً ونهاراً جهاراً بالطيبة وهو وصف في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب. بالطبع كل ذلك في مجمل ما يحمل أو يمكن أن يحمل لن يجعلنا نتجاهل على سبيل المثال لا الحصر كتاب أنتوني مان الشهير "حيث ضحك الله" وبعض الكتابات المستشرقية الأخري التي كتبت إبان الحرب الباردة والحارة بين السودان وبريطانيا التي كالت الأوصاف شعراً ونثراً للسودانيين منددة بما صنعت من كلما هو قبيح عنهم أو عن بعضهم. هذا وقد لعب علم الأنثربلوجيا الإستعماري دوراً كبيرأ في نقل صورة أبسط ما يمكن أن توصف به أنها موغلة في العنصرية.
ومهما يكن من أمر فإن أى من تلك الأوصاف التي ظل يطلقها أهل السودان على أنفسهم أو الصورة التي ظلوا يرسمونها لأنفسهم وتلك التي ظل يرسمها لهم الغير لا تنفي عن السودانيين بعض عيوبهم المشتركة ولاتضخم من محاسنهم بصورة نهائية. فهم مثل غيرهم من البشر لهم ما لهم وعليهم ما عليهم من هذا وذاك. إلا أن لمثل ذلك السلوك العام الذي يتميز بالتسامح والود ومثل تلك "العقيدة عن الذات" ما يمكن أن يترتب أو والحياة العامة وفي الأطر التي تقوم عليها وتائرالتنشئة الإجتماعية والتي يمكن أن تتطور في المجال العام أو ما يمكن أن يلحق بها ويتنامى في داخلها المجتمع المدني في أشكال مختلفة من الجمعيات والتجمعات والمنابر والأحزاب والتي ينضوي تحت لوائها وينضم إليها الناس وفق إرادتهم الحرة والتي يمكن أن تعكس تلك الروح العامة التي تهدف في المنتهى لأن تكون قوة مادية لصناعة حياة مسالمة تتطور وفق أساليب متفق عليها في إدرة الشأن العام بشكل يمكن أن ترضى به وتشارك فيه بأشكال متنوعة ومتعددة الأكثرية من الناس. من ذلك يمكن أن يبتدع مناهجاً يتبعه الناس في صناعة ونماء تلك الحياة. ومن كل ذلك يتكون أيضاً بناء الدولة ككيان متسق في مهامه مع الروح العامة لذلك المجال العام و بالتالي تكون وظيفتها الأساسية هي إدرة حياة ومصالح الذين أشادوها بالمعروف لا أن تنهال عليهم قولا وعملاً بممارسة القوة والنبوت. وبتعديل لقول كارل ماركس فإن الإطار التنفيذي للدولة الحديثة ليس هو سوى لجنة لإدارة الشؤون المشتركة للأمة بكاملها لا لمصلحة طبقة بعينها أو جماعة عسكرية أو آيديلوجية. لذلك فهناك فصل بين المجال العام والمجال الرسمي. ويظل العدل هو أساس الحكم كما يظل المجال العام هو القيم على الدولة وأدائها وهو الذي يعطي مؤسساتها الثقة ويحجبها منها وليس العكس. ولذلك فإن كل الذين يقولون بعكس ذلك هم الذين ظلوا يسعون بالسيطرة على جهاز الدولة وتسخيره من أجل البطش بالمعارضين والمختلفين معهم في الرأي وبمثل ذلك أسلوب توجه وتوزع المظالم والمكاسب والمغانم بدون عدل. لذلك فإن جذور الدولة القائمة الآن تمتد إلي تلك الدولة الإستعمارية التي أشادها ونجت ذات يوم كترياق للمجال العام والتي تقوم بإستعمار حياة المواطنين الإقتصادية والإجتماعية والدينية وحتى الخيال العام عن أنفسهم. بالتالي أخذ إستعمار المعرفة ومحاولة "تموينها" بالشكل الذي تراه تلك الجماعة أوغيرها هو المنهج والمسلك. والدولة الحالية أو "الأم البديلة" للدولة الإستعمارية أكثر ظلماً في توزيع المظالم والمغانم من تلك الأم البيولوجية للدولة الإستعمارية لا لأن ونجت قد كان أقل ظلماً بل لأنه قد تيسرت للقائمين على أمر الدولة القائمة من وسائل وأساليب البطش ما لم يتيسر لونجت ومن تبعه بغير إحسان.
هناك العديد من الشعوب في أرض الله الواسعة متساوية في صفاتها أو أكثر أو أقل تسامحاً من السودانيين. لذلك لابد أن تكون هنالك من المعانى العميقة المترتبة على مثل ذلك السلوك. إذ من واقع تبادل أشكال التوادد والتراحم والتكافل تنمو وتتطور روح الجماعة لتكون عصب التكوينات التي تؤسس للمجتمع المدني وتتصاعد أكثر في الأشكال المتقدمة التي ينمو ويوطد بها المجتمع عقده الإجتماعي. فعن طريق الممارسات التي تتمخض عن الحركة العامة للمجتمعات تنمو وتتطور الأحزاب والمنابرالسياسية والإجتماعية والثقافية المتعددة والمتنوعة ويقوى عودها لتكون الموئل لإدارة الحوار وتحويل الصراع إلي قوة بنائية لا مداخل للعنف ومن كل ذلك يتجدد الفكر ومعاني التواصل والتداخل الإجتماعي وتكتسب المواطنة معانيها السامية إحتراماً لإنسانية الإنسان وأساساً لبناء الدولة.
ومن المشكوك فيه وإن كان من الممكن أن تذهب الأمور ذلك الإتجاه دون أن تقابل بتعقيدات وتحديات أو عوامل أخرى يمكن أن تتوجه بمسارات صناعة الحياة وجهات أخرى قد تكون أكثر أو أقل تعقيداً. غير أنه وبذات المستوى فإن للشعوب أيضاُ إبتكاراتها في صناعة وسائل وآليات يمكن أن تحد من خطر مثل تلك الإتجاهات السالبة. ومجال الإجتهاد الإنساني في السالب والموجب كتاب مرقوم ومفتوح وتتنوع قراءته. فالإنسان صناع للحقائق وصناعته تلك قد تتدرج درجات بين الجودة والسوء. ولذلك فإن التنقيب في المعارف والتعرف في تجارب الآخرين الناجحة والفاشلة يمكن أن يعتبر تنقيباً في سجل المعرفة الإنسانية ومعاتيها.
لحين من الدهر ظلت وتائر الشكوى من الحال العام والخاص في بعض قطاعات السودان ألإجتماعية تتصاعد. وفي مرات أخذت تلك الشكوى تأخذ أشكالاً متنوعة تتدثر بما يمكن أن يقع في مجال المشاعر السلبية والمتمثلة في جلد الذات. هو أمر قد ينبع من رغبة دفينة بالتغلب على الفشل و لكن ليس عن طريق مواجهته وإنما بالهروب منه. وفي كثير من هذه الحالات يتعالى التمثل والإستدلال بالحديث الشريف الذي يقول "كيفما تكونوا يولى عليكم". وهنا يهدف هؤلاء وأولئك إلى أن لابد أن يكون هنالك سر إلاهي عميق وراء كل ما حاق بنا كسودانيين من جراء بؤس الأنظمة السياسية التي ظلت تتوالى على البلاد. ولذلك يذهب أولئك بأن الله قد سلط علينا من الحكام من لا يخافه ولا يرحمنا. و إن ظللنا ندعوه تعالى ليل نهار في قيامنا وصيامنا ألا يسلط علينا بذنوبنا من لا يخافه ولا يرحمنا فلعل في مثل ذلك غاية العذاب. وعلى ذلك المنوال سار الندم المتأخر للبعض الذي ظل يندب حظه الذي فوت الفرصة التي كان من الممكن أن تكون مواتية لو أخذنا بحكمة وسداد الرأي قال به ذات يوم الشيخ أزرق الطاهر وحزبه الداعي إلى تأجيل إستقلال السودان من وقتها لفترة عشرين عاماً على الأقل. ودعوته للسودانيين من أجل الدخول في منظمة الكمونولث بعد ذلك. بمعنى أنه لو سارت الأمور وفق ما دعى إليه الشيخ أزرق لتأخر إستقلال السودان حتى نهاية السبعينات من القرن الماضي ولإنضم السودان لمنظمة الكمونولث لا جامعة الدول العربية. هذا ومن جهة أخرى نسمع من أقوال بعض السودانيين السائرة في مجال جلد الذات تكرارهم للقول "كل عام ترزلون". هذا وفي إتجاه آخر وفي بعض أوساط من أخرج عنوة وإقتداراً من البلاد وبصفة خاصة في وسط من خرج من باب الإحباط من ظل يردد في مجال جلد الذات "مش سودانكم دا دا طرفي منه". كأن هذا البعض أو ذاك يتمثل بقول الشيخ ود دوليب في زمانه عندما قال :"لا خير في السودان بعد الآن." ويتواصل الأمر فيما نراه والآن والأمر كذلك من كأنه ينتظر تحقيق نبؤة ما بتمزيق السودان إراباً إرباً. ولعلنا الآن والحال كذلك أمام حالة وجودية تتقزم بسالبها التجربة السودانية لتعبر عن نفسها بأسلوب سلبي وتتسامق بموجبها تلك التجربة لتعبر عن نفسها بأسلوب مغاير. وربما يستلزم الأمر أن نقوص عميقاً في أعماق تلك الحالة وأن نتمعنها بالدرس. هذا وقد تكون في ذلك بداية الإنعتاق والدخول في مجال وعي يمكن أن يلهم محاولة التعرف على خبايا الحالة السودانية في ظواهرها وتضاريس فحواها. علنا نتمكن من تحويل مفهوم المسألة من كونها غضب رباني ولله في خلقه شئون إلى ظاهرة إجتماعية يمكن الإستعانة على فهمها من واقع الجهد الإنساني. ولعلنا نستطيع أن نتحدث ولو قليلا عن "ما لم يقال" كما أشار إلى ذلك الدكتور فرانسس دينق أو المسكوت عنه في الحوار العام. وبعض المسكوت عنه بلا شك هو مالم يتطرق له بالدرس العميق وما لم تثار الأسئلة الصعبة حوله وتأمل إحتمالات ومآلات الأجوبة بهدف الدخول في وعي جماعي وفكر حي وإجتهاد وإصلاح للمفاهيم لا بالإنقطاع عن تلك الأسئلة الصعبة وإدخالها دائرة المسكوت عنه. إذ أن المسكوت عنه هنا هو الذي يفتح الباب لطفح السطحي وكل ما يقزم من شأن التجربة السودانية وذلك هو الطريق إلى ما يفرق بيننا حقيقة كسودانيين.
ولما كانت تلك الملاحظات التي إتفق عليها أهل السودان مع غيرهم تظل متواترة فقد يكون من الأوفق أن نحاول أن نتتبع النسق الإجتماعي الذي ظل يفرزه نتاج ذلك التراكم المطرد للتجارب والتحديات والصراعات وكيفية إدارة كل ذلك في توافق أو تناقض وآفاق الخيال السياسي والإجتماعي مع ما يمكن أن يوصف بعقيدة السودانين عن الذات. فعلى مدى خمسة قرون مضت تمكن السودانيون من بناء كيانات كبيرة إستوعبت الروح الجماعية والفردية للسودانيين. تمثل تلك الكيانات في تميزها الإطار العام للتجربة السودانية. هذا ومن جهة أخرى فقد ظل القرن الماضي شاهداً على محاولات النجاح والفشل في تحويل ذلك إلي كيان جامع يمكن أن يكون ذا سعة أكبر ورحابة من أكثر من تلك الكيانات. لقد تكونت وإعيد تكوين القبيلة ككيان جامع لوحدات إجتماعية تداخلت من منطلق التصاهر والمصلحة المشتركة. ومن دينميكية دخول وخروج الأفراد والجماعات في إطار ذلك الكيان الجامع أصبح أمر العرق المشترك أقرب إلى أسطورة العنصر المؤسس للجماعة منه إلى العنصر ذاته. وبذلك فقد توافرت أعداد أفراد بعض القبائل وتضاءلت نسب أخرى من واقع عمليات متعددة فيها عنصر التناسل والإستجارة والضرورات ومقتضيات الأحوال وتحولات البيئة وسبل كسب العيش وغير ذلك. وقد لعبت روح الترحال القسري والطوعي دورأ هاماً في بسط روح المواددة والتسامح كأمر تبادلي: فالفولة سوف تمتلئ والبقارة ستجئ واردة. ويظل الأمر كذلك ما لم يحدث ما يعكر صفاء دورة الأشياء فينقلب الحال إلي صراع والصراع إلى عنف. حينها يكون لكل حال دينمكيته في إطار فرز وتداخل الأشياء. هذا ومن جهة أخرى فقد دخلت القبيلة في حالتين متناقضتين منذ أمد طويل من واقع ما يمكن أن يسمى بنوع ونمط الإنتاج الذي دخلت أو أدخلت فيه وحدات سكانية بعينها. فقد تكلست لحد كبير القبائل الرعوية في حالتها تلك من واقع التهميش الذي أدخلت فيه منذ العهد التركي. في ذات الوقت فقد أدخلت جماعات الإنتاج الزراعي غير المروي خاصة بعد قيام المشروعات المروية في الجزيرة والنيل الأبيض ومشروعات الزراعة الآلية بعد ذلك في الهامش غير المرئي. لذلك فقد ظل نمط الإنتاج الزراعي أو الرعوي المدخل لعلاقة القبيلة بالهامش. وظل الهامش يتمدد ليصبح هوامش. وفي إطار تلك الهوامش فقد كان لللمفتش العام للدولة الإستعمارية "سلاطين" ومهندسي الهوية أمثال ماكمايكل تأطير جماعات من المواطنين كوحدات تخضع كمناطق مقفولة في هوامشها من أجل السيطرة عليها وفق أسلوب لإدارة مستبدة ومن ثم يتم التحكم والسيطرة على حياة المواطنين من الخارج وكأسلوب رخيص التكاليف في ذات الوقت. وكما كانت صناعة الهامش فقد تواصل أيضاً إنتاج كل وصمة الحقت بأي من تلك الهوامش أو بأهلها وأصبحت تشكل كل من أجزاء تتكامل وتنفصل في إطار الأوصاف و النمطيات العامة والخاصة والمحاولات الرامية لتوطيد الفرعيات التي يتداولها البعض كوصف لآخر لايتميز عنه إلا بمدى ما حاق بأي من عنف أو من إختلاف في التجربة التي تعرضت لها مناطق البلاد المختلفة. وبتقادم وتواصل تجربة التهميش وضعف أدوات الدرس للحالة السودانية في تطورها وتعقيدها ومحاولات "تموين" المعرفة وتكميم منابر الحوار في ظل النظم القمعية أخذت الحواجز الوهمية تأخذ أشكال متجددة أكثر أثراً وخطراً.
لقد إنتبهت الحركة التحررية السودانية في بداية عهدها بالأهداف وراء السياسات الإستعمارية في علاقتها بصناعة القبليات. فقد وضعت الثورة التي قادها على عبداللطيف وعبيد حاج الأمين من ضمن أجندتها في مجال التحرر الوطني بإعلاء المواطنة والوطن على القبيلة والوقوف ضد إستغلال القبيلة بواسطة الدولة الإستعمارية. وقد حمل الشاعر الفذ يوسف مصطفى التني الأمرخطوة متقدمة بتأكيد "القومية النبيلة" على "عصبية القبيلة". غير أنه لا تلك القومية النبيلة ولا عصبية القبيلة قد أخضعت للدرس ليصبح الحوار والإجتهاد جزءأ من برنامج التنمية الإنسانية السودانية حتى لا يصبح ناتج المسكوت عنه هو الذي يفرق بين السودانين. في غياب ذلك لا نزال نرى كيف يتم إستغلال القبيلة إدارياً لحصرها في دائرة الهامش وسياسياً من أجل أهداف أملتها محاولات النطم القمعية تحجيم البناءات الحديثة و التي هي الأكثر إتساعاً مثل الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني.
هذا من جهة ومن جهة أخرى نجد هناك كياناً آخر ظل يلعب دوراً أساسيأً في تقليص السلطة النهائية للقبيلة. ففي إطار الحركة القطاع المسلم في البلاد بصورة أوضح حيث نمت الطريقة الصوفية ككيان أوسع من القبيلة فقد تآخى الافراد والجماعات من مختلف المناطق والقبائل واللهجات واللغات في إطار كيان جامع له إمتداداته في التاريخ والجغرافيا. ولعل من ما وسع من إطار وآفاق الطائفة أو الطريقة هو أنها قد إعتمدت على قدر من المعرفة القائمة على القراءة والكتابة. والحال كذلك فقد اتسع في ظلها نطاق الخلاوي والمساجد ومجالات وممارسات الطقوس واللقاءآت والتجمعات المتعددة. وتطور الشعر مكتوباً ومنشداً ومغنى. ولقد ساهم المناخ العام لتعدد وتنوع الطرق الصوفية في ترسيخ روح التعايش السلمي في معظم الأوقات. الأمر الذي جعل كل محاولات فرض دين الدولة أمراً صعب التنفيذ سواء كان ذلك إبان دولة المهدية أو دولة الإسلاميين القائمة. هذا وقد لعبت الطائفة المسيحية دوراً مماثلاً في الجنوب في أن يكون بعضأ من قاعدة وطنية جنوبية. فالطائفة المسيحية هي الاخرى أوسع من القبيلة في إمتداداتها التاريخية وثقلها السياسي الذي له أمره التبادلي مع القبيلة. وإن كان للطريقة الصوفية مؤسساتها التعليمية ومكتبتها الذاخرة فللطوائف المسيحية أيضاً مؤسساتها التعليمية وإمتداداتها في مجالات العلوم اللاهوتية. بالطبع إن ضيق إتساع رقعة المسيحية قد جعل من المسيحيين أقلية في الجنوب بينما تظل الطوائف الصوفية تمثل الأكثرية في الشمال الأكبر. ومن روح الطائفة أو الطريقة قد ظهر تطور هام جمع ما بين الإخوة في الطريقة وأساليب الكسب المادي والحياة الجتماعية مما ساهم في تطور رأسمالي زراعي إقليمي حول السيد عبدالرحمن المهدي والثاني مدني تجاري حول السيد علي المرغني كما ذكرت في مجال سابق. هذا التطور في شكليه الرئسيين تلكم كان منافساً لرسمالية الدولة الإستعمارية التي كانت تسعى بإنشاء نظام رأسمالي عن طريق السيطرة على مقاليد وإستغلال الحياة الإقتصادية والدينية والزراعية. لذلك فقد جمعت روح ما سماه بعض الدارسين "العداوة الحميمة" في حركة وطنية جمعت بين قطاعات الطبقة الوسطى النامية في السودان في اشكالها الثلاثة: التجارية والزراعية والموظفية. أساس تلك العداوة الحميمة هي أن أي من تلك القطاعات كانت ترى في الدولة الإستعمارية أحد مقومات وجودها ولكنها ظلت تسعى لزوال تلك الدولة. ولعل ما صاحب ذلك التطور من ضعف معرفي وعدم دراسة الحركة الوطنية من أجل الإرتقاء بالحركة الوطنية في تطورها كأساس في بناء مجال عام متطور يقوم عليه بناء الوطن والدولة الوطنية من فيض تلك الحركة. غير أن الصراع المتصل بين الدولة في شكلها الإستعماري وما بعد الإستعماري وبين المجال العام في أحزابه ومجتمعه المدني والذي ظل الحديث عنه أحد المسائل المسكوت عنها في إطار الحوار الوطني قد ظل أحد نتائجه ذلك البطش المترتب على المسلك العام للنظم المتتالية. ومن هنا جاءت أيضاً أشكال العنف الخاص والموجه نحو الدولة والذي تصاعد ليشمل مناطق بعينها حتى أصبح العنف صنواً لتعبير الهامش عن ماحاق به من غبن تاريخي. غير أن التعبير عن تعقيدات ذلك الأمرفي بعض أشكالها وضعف اللغة المشتركة التي يمكن أن تسبر غور هذا الأمر تظل واحدة من الأمور التي ظلت تفرق بيننا.
أما الفصيل الثالث فيتمثل في الكيان التجاري الذي قام على طبقة إقتصادية وإجتماعية هي أوسع من القبيلة وأضيق من الطائفة. فالدخول إليها لا يرتبط بقبيلة أو جماعة واحدة وإن ظل وثيق الربط بوضع إقتصادي ناجح ومتواصل. ومن جانب آخر فإن العمل التجاري يقوم على وينمي الروح الفردية والتنافسية. رغماً عن ذلك فإن السوق يفترض ويفرض تعاضضاَ وتواصلاً مهنياً وطبقياً في ذات الوقت. وللسوق أيضاً أساليبه المتميزة التي تعطي المظهر والعرض والعلاقات العامة مكانة خاصة. من كل ولكل قواعد سلوكية وأشكال إجتماعية تحدث عن الوضع والمكانة الإجتماعية. ومن كل ذلك أصبح للجلابة أسلوب حياة و أحياء تميزهم ومدن تنمو أو تضمر أو تموت من واقع حركتهم الإقتصادية. وللسوق أخلاقياته الخاصة في التعامل لخصتها القاعدة الذهبية للسوق بقولها المأثور: اكلوا إخوان و تحاسبوا تجار. هذا بالإضافة إلى قواعد أخرى يحفظها الجلابة عن ظهر قلب ويتوارثونها أباً عن جد. وذلك هو كتاب الجلابة المحفوظ في الصدور. ويتلخص في كيفية المحافظة وتنمية المال. وفي هذا المجال يمكن أن يتجاوز الأمر ما يقع في مجال توسيع مجالات الربح إلى شئون التدريب وأساليب المنافسة وتطوير العلائق الداخلية والخارجية. وللجلابة تداخلاتهم ومداخلهم الإجتماعية القائمة على تبادل المنافع وبناء تحالفات في إطار الكيانات الأخرى. وعلى مدى عمر حركة الجلابة الإجتماعية فقد قامت على أيديهم مؤسسات خيرية ومدارس أهلية وأوقاف خصصت للجوامع والمؤسسات التعليمية وغيرها. هذا وقد ظل مسلك الجلابة تجاه المرأة يستبطن عقداً طبقياً أكثر من كونه يستلهم تعاضضاً قبلياً أوعقيدة دينية . فخروج المرأة من دائرة المال إلى ما هو أدنى في سلم الثروة والوضع الإجتماعي عن طريق الزواج في معناه النهائي هو تفتيت للثروة. أما دخولها في مجال الثروة مهما كان وضعها السابق ففيه زيادة خيرويمكن أن يصبح ذلك الخير خيرين إن كانت الزوجة ذات حسب أو نسب في إعتقادهم أو الأثنين معاً. ولعل المعبر الأكبر عن الروح المحافظة للجلابة والذي همشت المرأة وقيدتها بقيد من حرير قد تجلت في المعاني التي ظلت ترسخها حقيبة الفن.
لقد إنتشر الجلابة في بقاع السودان الواسع وتصاهروا مع كل القبائل والجماعات مما مدد من وشيجة القربى بين الجماعات السودانية ولكنهم في ذات الوقت ضنوا بنسائهم على من إعتقدوا بأنهم أقل كفاءة من الطرف الآخر الأمر الذي أورثهم ضغائن ومرارات عميقة. لقد ظهرت طبقة الجلابة الى الوجود بعد أن ضعفت ومن ثم زالت نهائياً سيطرة سلاطين الفونج على الصادرات والواردات في البلاد. وقد تعضد نجاحها على ما توافر من فيض الطائفة في توفير قدر من القراءة والكتابة والحساب والفقه. فعن طريق ذلك يصبح الإتصال المكتوب الموثق ممكناً ويمكن أن تضبط الحسابات وتسجل الديون والإستحقاقات ويتم التقاضي وفض النزاعات. ومن ثم تصاعد وقوي عود تلك الطبقة بتطور وسائل الموصلات والإتصال ونمو الرأسمالية التجارية كما ذكرت من قبل. هذا وقد تهمش أمرهم في الهامش من واقع عوامل تهميش الهامش. والأمر الذي جعل تواتر نزوححهم من الهامش إلى حيث العشب أكثر إخضرارا أمراً ملاحظاً وخاضعاً لتفسيرات ليست كلها إيجابية. غير أن الأهم هنا هو أن وتائر النمو الرأسمالي قد ظلت غير متوازنة ما بين الهامش والمركز الأمر الذي زاد من تهميش الهامش.
ظهر الفصيل الرابع والذي أسميه المجتمع المحلي للدولة بدخول السودان مرحلة جديدة بداية القرن الماضي . فقد ظهر ونمى قطاع المتعلمين الذي إكتسب قوة ومنعة من واقع إرتباطة بجهاز الدولة. فقد أعطت الدولة هؤلاء القادمين الجدد مجداً وسلطة لا يحدهما وضع إجتماعي سابق مهما تواضع. لقد إنبنى النجاح في الوضع الجديد على ترسيخ الروح الفردية وتنامي السلطة من تصاعد الترقي في السلك الوظيفي. فهم من هذا الجانب أشبه بالجلابة إلا إنهم بلا سوق. لذلك فقد وجد المدنيون منهم روح التضامن في النقابة والإتحاد المهني. هذا وقد إعتبرت أجيال المتعلمين أنهم على موعد مع القدر كما يقول أحمد خير. والأمر كذلك فقد تعاملوا مع كل ما عداهم في المبتدى بتعال وعنجهية إعتبرت من هم سواهم رجعية أو كما قال محمد أحمد محجوب. وإستبطن بعضهم هذه الروح وهم يؤسسون للأحزاب الطليعية كما تحالف جزء منهم مع ما وصفوه بالرجعية ذات يوم. أما الجماعة العسكرية فقد وجدت في زمالة السلاح قوة إضافية تقوي بها قدرتها التنافسية من أجل المزيد من القوة والسلطة والمجد. لذلك فقد دخل هؤلاء واولئك النظام السوداني بإيمان فاسد. لقد كانت الحركة الوطنية السودانية منفذاً على موعد مع قوة التاريخ الفاعلة. فحاولت أن تسعى بها إلى تأسيس كيان جامع أوسع من القبيلة والطائفة والطبقة والقطاع.
من ذلك يمكن أن يرى البعض في فيض تلك التجربة أن السودان الوطن الممكن لا يزال جنيناً يتكون. ولما كانت الأوطان لا تتكون بالصدفة فإن السودانيين امام لحظة تاريخية من أجل صناعة هذا الوطن الممكن. وإننا على موعد مع تا ريخ يحتمل ويرقى لأن يضم في سعته الجغرافية ما تعارفنا عليه الآن أو أكبر. وأن من واقع الحالة الوجودية التي نعيش ما يقع في إطار تعظيم التجربة السودانية بوضع كل المسكوت عنه في محال الحديث المباح حتى يوجه الأمل الذي يمكن أن ينتظم وجداننا والإرادة الجماعية التي صنعت بها أجيال السودانيين بناءات كبرى في مجال التجربة الإنسانية ليتطابقا مع العمل صوب مشروع التغيير الشامل الذي يمكن أن يقوده أهل السودان وفق إرادتهم الحرة. وذلك أمر يقع في إطار حق المواطن وإستحقاقات المواطنة من جهة وإكمال صناعة الوطن على أساس واضح. هذا الأساس الواضح لا يقوم على ترميم دولة ونجت وإنما يقوم على التحرر الكامل منها او من السودان القديم من أجل صناعة البناء الكامل للسودان الجديد. نعم لقد لملم الإنجليز عددهم كما طلب حسن خليفة العطبراوي ولكنهم لم يسوقوا معهم ولدهم. فقد بقي جهاز الدولة الإستعماري لأطول مما طلب شيخ أزرق. لذا فإن مشروع السودان الجديد هو في الأساس هو إكمال حركة التحرر من ربقة الدولة الإستعمارية ومخلفاتها وبناء الدولة السودانية التي تفتح الباب الواسع الذي يمكن أن يدخل الناس أفواجاً عبره في رحاب الوطن كمواطنين كاملي الأهلية والمشاركة في الحقوق والواجباتَ وذلك من تجليات ومنطلق ولاية السلطة المدنية التي قادت من قبل التغيير الإجتماعي الذي تم عن طريق الفعل المدني والذي في إستطاعته وسلطته فتح وإغلاق أبوباً في مجال بناء مواطنة فاعلة تؤسس لذلك الوطن الجديد. ولا يضير مشروع السودان الجديد إن كان جون قرنق أحد دعاته. فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها. ولا أعتقد بأن المشروع قد مات بموت جون قرنق. إذ أن المشروع ليس ملكاً خاص به يحيا بحياته ويموت بموته. فالمشروع في تكامله جماع لرؤى جماعية وفردية تذهب إلى أن يعاد بناء الدولة والوطن وأن يتم رتق المجال العام حتى يكون الموئل للحركة العامة من عند الشعب ممثلة في أحزاب وتنظيمات يختارها الموطن وفق إردته الحرة وينتظم بها التنافس الحر وتحويل الإختلاف والصراع إلى قوة فاعلة في تطور شئون الحكم لا من حيث أن الأقربين أولى بالمعروف وإنما من حيث أن المواطنين دون إستثناء أولى بالمعروف. ولا أن يكون ديدن دولتهم هو توزيع العنف غير المتساوي عليهم وإنما توزع العدل عليهم وتشملهم بالكرامة والسعادة والخير دون أي تمييز. ومن جهة أخرى فإن مشروع قرنق قد طرح بأكثر من شكل وأن الإستقبال غير المسبوق الذي أستقبل به يوم الجمعة الثامن من يوليو 2005 و الأعداد الأكبر التي تستمع أو تشاهد من البعيد داخل البلاد وخارجها بعاطفة جياشة كل هؤلاء وأولئك كانوا على لقاء متضامن ومناصر لرؤية السودان الجديد التي شملت روافدها كل ما ناضلوا من أجله وحلموا به في قضية المواطنة والحريات والكرامة الإنسانية ورتق النسيج الإجتماعي. ولعل أمر تراجع البعض عن المشروع لا يلغيه وإنما يضعه في إطار الأجندة الوطنية التي يتضمنها مشروع إعادة بناء الوطن المتكامل. كللك ذلك يمكن أن يبدأ بتغيير مناخ الحوار الوطني ليشتمل على قضية الوطن بكامله في إطار المجال العام لا المجال الرسمي أو الخاص.
ولكل شعب من الشعوب إبتكاراته في مجال صناعة دولته. وكما ذكرت من قبل فقد كانت أكتوبر أحد إبتكارات الشعب السوداني التي يمكن أن تلهم أسلوباً جديداً من أجل الوصول إلى ميثاق داخلي جديد يقوم على تصورمدروس ومتكامل لإعادة صناعة الدولة الوطنية ومن ثم السودان الجديد. على أن يوضع تحت المجهر والبحث والدرس كل والوثائق المتعلقة بالتجربة السودانية بما في ذلك مقررات المؤتمرات السودانية المتعددة والإتفاقيات وأي وثائق أخرى من إتفاقية الحكم الثنائي حتى وثيقة هايدلبيرج لتبنى عليها صياغة الميثاق الداخلى كجهد متكامل ذلك بتوسيع دائرة الإجتهاد من أجل تصور والإتفاق على رؤية جديدة تجعلنا ننظر لواقعنا كما هو حتى نتمكن من التعرف على سبل ووسائل تجاوزه. وأن تمكننا في ذات الوقت من السيطرة على اللحظة من أجل تغييرها والمستقبل من أجل بنائه. ومن ثم يقدم ذلك لأهل التمثيل والمعارف السياسية وقادة الرأي للإتفاق حول كل ذلك في مؤتمر للمائدة المستديرة أو مؤتمر جامع حتي يكون ذلك الإتفاق هو الميثاق الداخلي للسودان الجديد. ومن ثم يقدم لكافة جماهير الشعب السوداني من أجل أن يكون الميثاق الخارجي لبناء الأمة الجديدة. في ذلك يمكن للتجربة السودانية أن تتخذ شكلاً جديداُ ومنهجاً متميزأ يمكن أن يضئ لنا ولغيرنا الطريق. ويجعل من بناء الدولة عملية ثورية تتحول ويتتحرر بها من ربقة مشروع السودان القديم الذي تقوم دولته على تأكيد وتوطيد هياكل السيطرة والعنف إلى رحابة الدولة القائمة على تأكيد قيم العدل والمساوة والكرامة وإحترام إنساتية وحقوق الإنسان. وفي و من ذلك أيضاً يمكن أن يعيد العافية للمجال العام السوداني ليكون هو مجال المباداءة والمبادرة والجهد الخلاق في صناعة الوطن والشعب والدولة. ومن ذلك نستطيع بناء الدولة زمن ثم الثورة. لقد صنع السودان وتخلق في رحم التحديات والذي أمامنا الآن هو تحدي العصر. إذ من هنا يمكن أن يكون السودان أكبر أو أصغر أو في ذات حجمه العام القادم أو في المستقبل. مرة ثانية يا صناع السودان الجديد إتحدوا.