من خليل فرح إلى جون قرنق وما بعد “بالطريق الشاقي السودان”

 


 

 

السودان الوطن الممكن :


 د. عبدالله جلاب
جامعة ولاية أريزونا


Abdullahi.gallab@asu.edu


وصف خليل فرح لبلاده نفراً من أبنائها بقوله "يا بلادي كم فيك حاذق غير الهك ما أما رازق" وزاد في وصف أو ما يميز ذلك الحاذق عن من سواه بأن من " شعاره دخول المآزق"  وأنه  "يتفاني وشرفك تمام."  ما كان للرجل أن يتحول من خليل أفندي فرح إلى خليل فرح لو لم يكن شعاره هو الآخر دخول المآزق.  وذلك عن طريق إنغماسه في حركة تغيير مناخ الحوار الوطني ليشتمل على قضية الوطن بكامله في إطار المجال العام لا المجال الرسمي الذي كان هو أحد موظفي دولته.  بمعنى آخر إن خليل فرح عندما إنتقل من مجال المجتمع المحلي للدولة إلى المجال العام للوطن أصبح غيثارة الحركة الوطنية التي رأت في الإستعمار هواناً للأمة وهو بذلك أمر لا يطاق. غير أن تغيير مناخ الحوار الوطني وقتذاك قد أعطي ما هو أكثر من ذلك.  لقد حول ما بين يوم وليلة من لفظة "سوداني" التي أراد بها المستعمر تخصيص قطاع من الأمم السودانية بالدونية إلى شارة فخار جامع تتوشح به الأمة السودانية. وبذلك فقد تحرر الخيال السياسي والإجتماعي السودانيين بشأن مخيلة صناعة وماهية الأمة من ربقة الإستعمار. لذلك كانت تلك اللحظة التاريخية شارة العبور الكبرى من ضيق القبلية التي أراد بها المستعمر تقزيم التجربة السودانية إلى رحابة الوطن التي تجلى في لحظتها التاريخية تعظيم التجربة السودانية.  ومن تجليات تلك اللحظة التاريخية أن إجتمع شمل الجماعة الناهضة والتي كان شعارها دخول المأزق ليضم ضباط الجيش وعلى رأسهم علي عبداللطيف وموظفي الدولة وعلى رأسهم عبيد حاج الامين وخليل فرح والجلابة أو الطبقة التجارية وعلى رأسهم سليمان كشة والنقابيين وعلى رأسهم علي أحمد صالح والتهامي محمد عثمان مع آخرين في أنحاء الوطن من أجل تعظيم التجربة السودانية.  وعندما إختاروا علي عبداللطيف رئيساً لجماعتهم لم يكن ذلك لانه جاء من أب دينكاوي وأم نوباوية. ولو كانوا فعلوها من أجل ذلك لكانوا قد إنحطوا بالتجربة السودانية إلي مجال القبيلة التي قد تجاوزوها تجاوزاً كاملا بتعظيم التجربة السودانية.  لذلك لم يكن علي عبداللطيف دينكاوياً أو نوباوياً وإنما كان السوداني الأول.  هو والذين معه كانوا رواد مشروع السودان الجديد بلا مجادل وقد تجلى ذلك في مسلكهم العام والخاص كما تجلى في برنامجهم الذي ساهم بقوة في تغيير مناخ الحوار العام وعمل على تحويل المجال العام بفيض ذلك المناخ المتجدد بالمعاني المتعالية على المشروع الإستعماري الشمولي الرجعي إلى مساحة حبلى بالجديد من أجل قيادة حركة التغيير الإجتماعي.  ولعل الذين يتحدثون عن على عبد اللطيف الآن في غير ذلك الإطار يحطون من قدره ومن قدر التجربة السودانية بتقزيمهما في إطار القبيلة لا بتعظيمهما في إطار الأمة.  
نعم لقد تمكنت الدولة الإستعمارية من قمع الحركة ولكنها لم تستطع قهر المشروع. غير أنه بين  هذا وذاك برزت قضايا جديدة وأخذت تطل برأسها من أجل إجابات ناجزة.  أول تلك القضايا هي قضية ما يسمى بوحدة وداي النيل وما هو المعني المقصود بذلك بالنسبة لمصر المجال الرسمي أو مصر الدولة الذي ما زال خاضعاً للنظرة الخديوية للأمور ومصر المجال العام أو مصر الشعبية التي بدأت تجلياتها الثورية تظهر في المفاهيم الجديدة في إطار النضال المشترك.  هذا وفي ذات الوقت أخذ يتضح شيئاً فشيئاً المفهوم  السوداني لذلك الشعار والذي لم يتمعن بجلاء الفرق بين مطامح مصر الرسمية و عواطف مصر الشعبية وما بين مرارة الشعور بالخذلان الذي شعر به  الثوار السودانيون وكل السودانيين الآخرين التواقين للتحرر من الإستعمار تجاه ما وصفوه بخذلان المصريين لهم وذلك  بعدم مساندة الجيش المصري في السودان للثورة. الأمر الذي أعطي المزيد من الشعور بالضيق الذي عبر عنه ذات يوم حسين شريف وئيس تحرير جريدة الحضارة بأن المصريين على حد قوله "ولا نقول عقلاءهم  طالما تحدونا بهذه المدافعة وأجبرونا على النزول إلى ميدان المقارعة بما كانوا يتبحثون من سخطنا وينتقصون من حقنا طوال هذه المدة التي تجرعنا في خلالها من الإساءة كؤوساً مرة تحملنا من الإهانة ما ينوء بالعصبة أولى القوة مراعاة لعهود الجوار وذمم الإخاء."  ويفصل حسين شريف ذلك بقوله أن الصحافة المصرية قد صورت السودانيين "بأ قبح صور وأشنع حالة. وأنزلونا إلى مقام الهمج والعبيد ومتوحشي الزنوج وقالوا إن بلادنا منبع الجهل وقرارة التوحش ومنبت البربرية وألبسوا كل شئ يختص بنا ثوب الإحتقار والإمتهان."  وبين هذا وذلك الإتجاه أخذ المجال العام السوداني يشهد متواتر ومنقطع الحديث المكتوب وغير المكتوب حول ما سمي بالمسألة السودانية. أو ما يمكن أن يوصف بتطور وتنوع  الحوار العام السوداني حول تطورات النزاع بشأن السودان بين الشريكين مصر وبريطانيا والمعاني المختلفة  لشعار السودان للسودانيين التي تضمنها ذلك الحوار الذي وصف بأنه بين تيارين اطلا في الحياة السودانية أحدهما مؤيد لمصر والثاني لبريطانيا. ولعل النظرة المتأملة لذلك الحوار يمكن أن تقود إلى غير ذلك الإختزال.  لذلك ومن تجليات تعظيم التجربة السودانية فقد ظهرت الأحزاب السياسية والصحافة المطبوعة في شكلها الجديد والنقابات.  ظهرت الأحزاب كمنابر جماهيرية جامعة  تسع كل السودانيين في صفوف أي منها. وكما ظهرت الصحافة المكتوبة كمنبر مفتوح للرأى لقطاع من المتعلمين السودانيين الذين أخذوا يشكلون نواة المثقفين الجدد أو قادة الرأي في الحياة السودانية فقد ظهرت النقابة في ما بعد كقطاع جمع بين أفراده الذين ضمتهم أساليب ووسائل وعلاقات عمل جديدة وأخذ يرتقي بذاته عن طريق الوعي المكون لذاته تجاوزاً  لمحدودية المطلبية  إلى سعة ومشروعية التجاوب مع الهم الوطني العام ليصبح جزءاً من قوى المجال العام الساعية للتغيير الإجتماعي.  لقد نمى كل ذلك في إطار المجال العام وتحول به العديد من أعضاء مجتمع الدولة والعاملين عليها ليكونوا أعضاء قياديين و صناع لمجتمع مدني جديد بتنظيمات جديدة ومتنوعة. وذلك ما تعارفنا عليه بتيارات الحركة الوطنية بداية بالجمعيات الأدبية ومؤتمر الخريجين ويوم التعليم وما صحب ذلك من حراك سياسي وثقافي وأدبي الأمر الذي قاد إلى تغيير المناخ العام. ومن بعد توالى ظهور الأحزاب  والتي تسمت بأسماء ذات دلالات كبرى مثل حزب الأمة والوطني الإتحادي وحزب الشعب والحزب الجمهوري والحركة السودانية للتحرر الوطني والجبهة المعادية للإستعمار وحركة التحرير الإسلامي وحركة الإخوان المسلمين.  وعكست الصحف بقدر المستطاع شيئاً مما وهب تغيير المناخ العام للحوار من ما حملته أسماءها وإنعكس على صفحاتها  فأخذت لنفسها أسماء ذات معنى كالفجر والنهضة والسودان والسودان الجديد والرأي العام.
غير أن تلك الحركة الوطنية السودانية في تقزيمها للتجربة السودانية قد إكتفت بتلقيح تجربتها التحررية   السودانية بتبادل المعارف النضالية من تجارب الشعوب المجاورة والتي كان لها دورها في منازلة الإستعمار البريطاني والأخرى العالمية المناهضة للإستعمار بأشكاله المختلفة بسطحيات الأمور.  فعلى سبيل المثال لا الحصر فقد إكتفت الحركة الوطنية بأن تنقل من التجربة الهندية إسم المؤتمر لا أكثر ولا أقل. كما لم يتحرر رواد الحركة الوطنية كثيراً  من الآثار الثقافية والفكرية للهيمنة البريطانية فلم يعطوا كبير إهتمام لما أتى به العالم الجديد في صناعة الأوطان والدولة القومية والوطنيات والقوميات في ما كان كتاباً مفتوحاً وقتها حوى ولا يزال يحوى على تجارب الشعوب الناهضة والأمم الجديدة وقتها مثل الولايات المتحدة الإمريكية وإتحاد الجمهوريات السوفيتية و من تجارب العالم الجديد في صناعة الدول والامم. لذلك فقد إنتقلوا بما ورثوا من الدولة الإستعمارية وما ابقت دون تعديل أو دراسة للدور الذي قامت عليه دولة ونجت في تكريس صناعة التهميش بأشكاله المختلفة وتوزيع المظالم والقمع للمواطنين. هذا ومن جهة أخرى فقد ظلت الأحزاب محكومة بمحدودية أفقها السياسي والفكري الذي لم يستوعب عمق مشكلات المآذق الموروثة من تعقيدات البنيان الذي أشادته الدولة الإستعمارية للسودان المنقسم إلى مراكز وهوامش مركبة. وأن شعار تحرير لا تعميير قد ظل شعاراً فارغاً من المعنى في مجالي التحرير والتعمير أيضاً.  لذلك وقعت البلاد في دوامات العنف الذي ظل ينتجها النهج القائم على محاولات القبض على جهاز الدولة وتسخير قوته غير المتكافئة مع القوى الأخرى من أجل مكاسب بعينها أو تصفية خصوم أو إحباط تطلعات مشروعة أو غير مشروعة. فمن منطق القوة المطلقة نتجت الإنقلابات العسكرية التي هي في الأساس أسلوب دولة ونجت المفضل فى كبح جماح المجال العام. لقد كانت دائما ضحية تلك الإنقلابات الأولى هم الأحزاب السياسية والصحافة المكتوبة وقادة الرأي.  ويظل هؤلاء وأولئك عرضة لنوع معين  من انواع عنف الدولة يتجسد في الحبس والتعذيب والتطهير والحرمان من العمل ومصادرة أملاك ودور الأحزاب ومحاولة تجفيف مواردها وإجبارها على العمل إما من تحت الأرض أو من المهاجر. وتقدم الإنقلابات العسكرية والنظم  النابعة منها الحلول القائمة على العنف والمزيد من التهميش في الرد على القضايا المعقدة والبسيطة الناتجة عن الصدح أو التعبير عن شكوى الهامش. أما النوع الثاني من العنف فهو ذلك النوع من العنف الخاص الموجه صوب الدولة المركزية لإجبارها بإستحقاقات للمواطنة بعينها.  وعلى الرغم من أن رد المجال العام المتكرر ظل دائما هو إزاله تلك النظم القمعية عن طريق العصيان المدني إلا أن الحركات المتمردة ظلت هي الأميل إلى الحل الثنائي الذي يطيل من عمر تلك النظم ويزيد من تعقيد القضية الأساسية أي قضية الوطن.  الأمر الذي زاد من تعقيد المأزق التاريخي الذي نعيش الآن.   
ولعل مربط فرس مشروع قرنق للسودان الجديد هو أن صاحبه قد أدخله في إطار الدولة التي يقوم على أمرها فصيل له مشروعه للسودان الآخر كان قد أسماه التوجه الحضاري. وهو مشروع مناقض جملة وتفصيلا لكل مشاريع السودان الجديد الأخرى. لك لكونه في الأساس مشروعاً شمولياً إقصائياً يقوم على البطش الذي وصل إلى إعلان الجهاد ضد مواطنين لم تشفع لهم شيئاُ مواطنتهم من تسخير جهاز الدولة الباطش وأدواته المختلفة ضد قطاعاتهم المختلفة.  وعلى الرغم من أن النظام لم يعد يتحدث عن ذلك المشروع منذ أمد طويل إلا أنه لم يتراجع أو يتقدم بما يمكن أن يعتبر مراجعة فكرية أصيلة أو سلوكية ناقدة لذلك النهج.  كما أنه وحتى الآن لم يقدم الإسلامويون في السودان في جماعاتهم المختلفة دون إستثناء في داخل الحكم أو خارجه ما يشير بأن هنالك أي مراجعة أو تغيير في نظرتهم للدولة.  لذا أصبحت كل محاولات الحوار مع النظام أقرب إلى حوار الطرشان كما ظلت شراكة الشريكين أشبه بالجمع بين الماء والزيت.  لقد كان من الممكن تجاوز ذلك المأزق التاريخي بمشاركة كل القوى السياسية السودانية وأهل المعارف العلمية في مناقشات السلام الأمر الذي كان من الممكن أن تحول نيفاشا إلى مؤتمر مائدة مستديرة من أجل معالجة ناجزة لصناعة سودان جديد لا كحل جزئي لقضية كلية.  رغماً عن ذلك فقد مات المشروع في مهده أربع مرات. أولاً لقد ساهم الرحيل المبكر لجون قرنق في إحباط الحراك الفياض في مجال المجال العام والذي أعطاه حضور جون قرنق إلى الخرطوم والإستقبال غير المسبوق الذي استقبل به كتفويض للشخص والمشروع معا حيوية واضحة أمل البعض بأنها يمكن أن تعطى المجال العام قوة إضافية تتواصل مع القوى الأخرى من أجل إحداث حركة تغيير يمكن أن يركن إليها.  ثانياُ فقد مات ما إتفق عليه من المشروع نتيجة  إنقلاب دولة الإسلامويين الشمولي والتي إقتصت لنفسها أول ما إقتصت من الفريق الداخلي الذي شارك في الوصول إلى إتفاق نيفاشا. وذلك هو الإنقلاب الثاني في إطار حروبات الإسلامويين الداخلية بعد إنقلاب فصيل منهم في نهاية القرن على الدكتور حسن الترابي الذي تباروا بتسميته بالشيخ حسن تمهيدأ لمشروع ولاية فقيه سنية ذات يوم.  هذا فقد قضى الإنقلاب الثاني ضد علي عثمان وفريقه بإخراجهم من دائرة الفعل السياسي والإدارى في الدولة ليبق والحال كذلك الشيخ علي في حالة موت سريري في غرفة إنعاش القصر.   ومن هنا فقد لحقت بذلك الإنقلاب الصامت هزيمة بالشيخ الثاني للجماعة علي عثمان القائد الطموح لقطاع من الجماعة والمتطلع دوما للسيطرة المطلقة على المركز الأعلى في الدولة والحزب. لقد أودى الإنقلاب الثاني والأسلوب الذي أخرج به إلى هزيمة ظلت بلا دوي لتذهب بعلي ومن معه من فريق مناقشات نيفاشا إلي مجالات التهميش. وبهذا وذاك الإنقلاب إنتقل المشروع الأسلاموي بقضه وقضيضه من التآكل إلى دائرة النسيان. ولم يبق من خطابه الفكري والجماهيري شيئا ذا بال إلا لغة لحس الكوع وخطرفات بيريا الإنقاذ نافع. ثالثاً لقد إنكفأت الحركة الشعبية في تكوينها العسكري لتقفل كل الطرق المؤدية إلى برنامج التغيير الشامل الذي دعى إليه قائدها ذات يوم. فلم تعد المتحدث بإسم الهامش أو أحد الهوامش حتى.  وإكتفت بما أعطى الوضع الجديد من وظائف وأزمات إنتظاراً لمائدة في السماء قد يأتي بها الإستفتاء. رابعاً لقد أضاف إستمرار تفجر الموقف في دارفور وتداعياته المحلية والإقليمية والدولية ما يشير تفاقم أزمات الإسلامويين والإسلامية السودانية والنظام ككل ولذا إصبح  أن كل ما ياتي الآن من جانب المجال الرسمي أو النظام ما هو أشبه  بغناء البجع.   
        هذا ويظل المجال الرسمي مأزوما في ظل غناء البجع ذلك. فإذا عطس الترابي أصاب الزكام والرشح النظام  وتداعى له  بالسهر والحمى سائر أهل النظام.  وما دام تلاميذ الأمس يحاولون بكل السبل إقصاء شيخهم فإن الشيخ سيظل يعطس حتى يقضي الله أمراٌ كان مقضياٌ. والحال كذلك فنحن أمام حالة وجودية لا إنفكاك لها على الأقل في المستقبل القريب. أو أن يقضي أحد الطرفين على اللآخر بالضربة القاضية.  ولكل من الفريقين تاريخه الذي لا يبارى في هذا المجال.  وإن خرج سيلفا كير عن صمته الدائم إرتعدت فرائص جهاز الحكم . ومادام كير يشعر بأن شريك اليوم قد سدد ضربة موجعة لزعامتة منذ اليوم الأول فسيظل النائب الأول يواصل هباتّه تلك مادام هناك من يهمز قناته من بني حزبه مذكراً له بجرحه الأليم ذلك.  إذاً فنحن هنا أمام حالة سياسية غاية في الخطر يتصاعد غبارها طالما كان هنالك طامح أو منافس.  وان غابت صور واخبار علي عثمان عن الصفحات الأولى للصحف طفحت الأقاويل عن من سيدحرج رأس من في الأيام القادمة. وقبل أن تنتقل الصحف والمجالس إلى موضوع جديد يطل أحد أعمدة النظام وبعد شجب وشتم للمرجفين وغيرهم ليؤكد بأن كل ما هنالك هو مجرد تباين في وجهات النظر وأن الأمر سوف يحسم قريباً. بالطبع لا أحد يدري والليالي حبالى كيف ومتى سيعلن نهاية ذلك الموت السريري للشيخ علي. غير أن الذي يهم أكثر هو أنه  مادامت مدرسة الحكم لاتزال هي تلك المدرسة وأساليب إدارة الصراع هي تلك التي ظلت تمارسهما الإنقاذ بمللها ونحلها منذ يومها الأول فستظل المؤامرات تتناسل وتفرخ في أقبية الحكم المعتمة. وما دام هناك من يهوب بمجرد إسم محكمة العدل أو أوكامبو سنظل نرى من الرقص الرئاسي أشكالا ومن لغة لحس الكوع أنواعاً.  وفي تطورات هذا الظرف وما دام غناء البجع مستمراً فلن يفيد الشجب و الشتم أو الرقابة القبلية على الصحف لا القبض والبسط. إذ ان كل ذلك يمكن أن يندرج تحت قائمة أمراض النظام المتوطنة والمودية بأهلها إلى الهلاك.
لاشك أن هنلك مآزق تمسك برقاب بعضها البعض.  وأن تلك المآزق في عمقها لا تحتمل الحلول الجزئية.  إذ أن التحديات الماثلة هي أكثر شراسة من إي تحد سابق. فالأمور قد تتجه صوب كارثة او كوارث كبرى.  غير أنه وفي ذات الوقت هنالك لحظة تاريخية مواتية. وأن تلك اللحظة التاريخية  تشير إلى أن الخروج من هذا الوضع الذي نحن فيه يتطلب إبتكاراً سودانياً جديدأً يبدأ بتغيير المناخ العام للحوار الوطني ليتضمن التحرير الكامل من ربقة إستعباد دولة السودان القديم التي وضع أسسها ونجت.  ويتطلب أيضاً تطوير أدوات تجاربنا الكبرى التي بنى وخاض بها الشعب السوداني خارج إطار الدوالة المركزية في إطار المجال العام المزالق الكبرى وترك إرثاً يعتد به يمكن يدرس ويمكن أن يلهم.  وتظل  أكتوبر أحد إبتكارات  ومبادأت هذا الشعب في إطار المجال العام ذات الأثر.  هذا والأمر كذلك  فإن التقويم الجاد لأكتوبر يمكن أن يعطي ذلك الإنموذج وزناُ وقيمة أخلاقية وأسلوب عمل له من القوة والفاعلية التي يمكن أن تلهم أسلوباً جديداً من أجل الوصول إلى ميثاق داخلي جديد يقوم على تصورمدروس ومتكامل لإعادة صناعة الدولة الوطنية ومن ثم السودان الجديد.  لقد إستطاع علي عبد اللطيف ورفاقة تحرير الخيال القومي من ربقة الإستعمار وأكدوا على حق مخيلة الجماعية لأهل السودان في تصوير ماهية وإختيار رؤاءها لقيام  أمة تقوم على أساس أن تكون المواطنة هي حجر الزاوية في بنائها.  هذا ومن جهة أخرى فقد أعطت أكتوبر المجال العام السلطة في قيادة حركة التغيير.  ووضعت الإطار العام الذي يمكن أن يرسم خريطة طريق مبتكرة يتبناها ويحافظ عليها المجال العام ويدخل عن طريقها الناس أفواجاً وينتقلون عبرها إلى رحاب تلك الأمة التي إختاروها بالتراضي لا عى طريق القوة أو القمع.  هذا وفي الوقت الذي تتنادى فيه القوى السياسية الآن بالدعوة إلي مؤتمر جامع فقد يكون من الأجدى أن يقوم هذا المؤتمر الجامع على أساس أن هنلك لحظة تاريخية تدعونا جميعاً وتفتح لنا الباب واسعاً لبناء سودان جديد وبناء دولة وطنية جديدة.  بداية ومن باب التطوير للإطار الإكتوبري قد تستدعي الضرورة إلى وضع أساس فكري مجمع عليه تقوم عليه قواعد بنيان صناعة الوطن وصناعة الدولة وفق ميثاق جديد. يضع مثل ذلك الجهد الفكري تحت المجهر والبحث والدرس كل تجاربنا السابقة والوثائق المتعلقة بالتجربة السودانية بما في ذلك مقررات المؤتمرات السودانية المتعددة والإتفاقيات وأي وثائق أخرى من إتفاقية الحكم الثنائي حتى وثيقة هايدلبيرج ويضيف إلى ذلك كل جهد فكرى وإجتهاد  يمكن أن تبنى عليها صياغة مسودة ذلك الميثاق كجهد متكامل من أجل تصور وإتفاق على رؤية جديدة تجعلنا ننظر لواقعنا كما هو حتى نتمكن من التعرف على سبل ووسائل تجاوزه.  من هنا يمكن أن نتمكن في ذات الوقت من السيطرة على اللحظة من أجل تغييرها والمستقبل من أجل بنائه.  وفي إطار خارطة الطريق تلك يمكن أن تقدم مسودة ذلك الميثاق لأهل التمثيل والمعارف السياسية وقادة الرأي  للإتفاق حولها وإعتمادها في مؤتمر للمائدة المستديرة أو مؤتمر جامع حتي يكون ذلك الإتفاق هو الميثاق الداخلي للسودان الجديد. ومن ثم يقدم لكافة جماهير الشعب السوداني من أجل أن يكون الميثاق الخارجي لبناء الأمة الجديدة.  مرة أخرى هنا تكمن اللحظة التاريخية التي  يمكن عن طريقها تعظيم التجربة السودانية وتخطيط منهج متميز يمكن أن يضئ لنا ولغيرنا الطريق إلى الوطن الممكن.  وفق ذلك المنهج  يمكن أن تصبح صناعة الوطن والدولة عملية ثورية نتتحرر بها جميعاً من ربقة  عبودية السودان القديم الذي تقوم دولته على تأكيد وتوطيد هياكل السيطرة والعنف والتهميش. وننتقل بفيض ذلك التحرر إلى رحابة  الدولة القائمة على قيم المواطنة وتأكيد قيم العدل والمساوة والكرامة وإحترام إنسانية وحقوق الإنسان.  وفي ومن ذلك أيضاً يمكن أن نعيد العافية للمجال العام السوداني وللمجتمع المدني ليكون هو مجال المباداءة والمبادرة ونماء الجهد الخلاق في صناعة الوطن والشعب والدولة. ومن ذلك نستطيع بناء الدولة ومن ثم الثورة المستدامة.  مرة أخرى لقد صنع السودان وتخلق في رحم التحديات والذي أمامنا الآن هو تحدي العصر. إذ من هنا يمكن أن يكون السودان أكبر أو أصغر أو في ذات حجمه العام القادم أو في المستقبل. مرة ثالثة يا صناع السودان الجديد إتحدوا..
 

 

آراء