عصر المهارات ومنهجية التدريب
بعد ان تم انشاء وزارة قائمة بذاتها للموارد البشرية ظهر الحديث من جديد وبشكل مختلف عن ضرورة التدريب وتنمية القدرات البشرية. من اكبر الأخطاء التي تم ارتكابها في السودان في عهود سياسية عدة، لكن وبشكل اساسي ومنهجي منذ تسعينيات القرن الماضي وحتي اليوم تقريبا، هو تدمير الخدمة المدنية عبر التسيس، الإقصاء او تخطي معايير الكفاءة والأهلية في تولي الوظائف العامة من اصغر قواعدها وحتى قمة الهرم الإداري. من جانب اخر فقد تم تخطي معايير التدرج الوظيفي والترقي في العمل وإهمال جوانب بالغة الأهمية مثل الوصف والتصنيف الوظيفي واستبدالها بالولاء ونظام القفز (بالزانة)، او تخطي الرقاب في العمل الوظيفي. بالتأكيد لم يختصر الأمر علي القطاع العام وإنما تخطاه الي القطاع الخاص في الشركات والبنوك وطال الأمر حتي عدد كبير من المنظمات غير الحكومية العاملة في السودان. وما هي النتيجة المترتبة عن كل ذلك؟ هي انعدام الكفاءة ، تدني المردود وإهدار فادح للموارد البشرية والمادية. دفع السودان ثمن ذلك غاليا وسيظل يسدد ثمن تلك الفاتورة لفترة طويلة قادمة من الزمان. في هذا الإطار يكتسب الحديث عن إصلاح الخدمة المدنية وإعادة الكفاءة لها وترقيتها، أهمية خاصة كما يعتبر التدريب من أهم الأدوات التي تمكن من تحقيق هذه الأهداف.
في إطار البحث عن مخارج من هذا المأزق انتبهت الحكومة أخيرا لضرورة إصلاح الخدمة المدنية، وهذا هدف ظللنا مع كثيرين من السودانيين ننادي به منذ وقت طويل. في الظروف الحرجة التي يمر بها السودان تظهر ضرورة ملحة لإصلاح الخدمة المدنية وسبق ان نبهنا في مقال لنا بتاريخ 23 مارس 2008م بصحيفة الوسط الاقتصادي حمل عنوان( التدريب هو الحل) الي الفجوة المهارية والمعرفية بين الأجيال المختلفة، واشرنا الي ان تلك الهوة تتسع في المهارات الخاصة بالتعلم و ممارسة المهن و التطور وإمكانية الاستفادة من ثورة المعلومات و التقدم التكنولوجي في عالم اليوم. قلنا في ذلك الوقت ان الحل يكمن في تشجيع الدولة للمؤسسات العاملة في مجال التدريب و ان تتوسع المؤسسات الحكومية و الخاصة في هذا المجال و ان تقيم عشرات بل مئات البرامج التدريبية برسوم مقدور عليها حتى يستطيع ان يستفيد منها العاطلين عن العمل بما فيهم خريجي الجامعات و ان تسعي الحكومة لكسر حاجز الخجل و العار عن العمل الفني المهني، اذ من الأفضل للخريج الجامعي ان يعمل مزينا او طباخا ماهرا، وهي من المهن المحترمة ذات الدخل المناسب، بدلا من ان يكون عاطلا. كما نبهنا لضرورة فتح باب التدريب الخارجي و الاستعانة ببيوت خبرة أجنبية في أنواع معينة من التدريب . هذا هو الحل علي ألمدي القصير الذي يعالج النقص في الكفاءة و يساعد في بناء القدرات . أما علي ألمدي الطويل فرأينا هو إصلاح النظام التعليمي من أسفله الي أعلاه و التوسع في التعليم الفني و تشجيع البحث العلمي، مع ضرورة إدراك ان الأموال التي تصرف علي التدريب لا تذهب هدرا و إنما تنمي القدرات و تزيد الإنتاجية و تحسن من المردود الاقتصادي و تدعم التنمية البشرية و المادية.
كل ذلك يجب ان يتم بشروط ومعايير مهنية بحتة وان تتولي العمل فيه جهات مختصة بعيدا عن الاستقطاب او المحاباة. كما يفترض ان يراعي التدريب مختلف المهن، الدرجات الوظيفية، العوامل السنية ومزايا الخدمة وما بعدها وان يتم ربط كل ذلك بسلسلة زمنية في العمل، ذات علاقة بالأجور والمرتبات واستحقاقات العمل الجارية والمكتسبة، أي في حزمة متكاملة لاصلاح شروط الخدمة والعمل العام والخاص.
من المفترض ان يتم كل ذلك في اطار مواكبة التطور العالمي الحديث لتنمية المهارات و المعارف المختلفة المؤثرة علي عوامل الإنتاج و الإنتاجية و إتقان أساليب الإدارة الحديثة. يحتاج ذلك لإعادة النظر في المناهج التعليمية من المرحلة قبل المدرسية وصولا الي التعليم الجامعي مع ضرورة التركيز علي التعليم الفني و تحفيزه و دعمه حتي يصبح من المكن التخلص من عدم الكفاءة في الاقتصاد و الإدارة و في مجمل سلوكنا الاجتماعي العام و الخاص و لإيقاف تبديد الموارد و إهدار الوقت بلا عائد. من أهم معايير الكفاءة التي يجب ان تضمن في برامج التدريب، تلك المرتبطة بالتكنولوجيا و الإنتاجية و التي تدخل ضمن حزم تشجيع الاستثمار و جذب الاستثمار الأجنبي و من اهم جوانبها قدرة الدولة علي استضافة التكنولوجيا و استيعاب المعلومات الجديدة و السياسة الخاصة بنقل التكنولوجيا و ضخ البيانات و هضمها، وهذا بالطبع لا يمكن ان يتم دون كوادر بشرية وطنية مؤهلة. لا يمكن الاستمرار في النهج (الاستسهالي) التبسيطي المخل الذي يقول ان السودانيين كسالي ولا يعملون وبالتالي وجب استبدالهم بعمالة أجنبية، هذا هو بالضبط ما يجري اليوم في السودان وهو نهج إضافة لكونه غير رشيد فهو أيضا يحمل الكثير من المخاطر خاصة في ظل النسب العالية للبطالة المتفشية حتي وسط الخريجين الجامعيين. يعتمد التدريب في هذه الحالات علي الطاقة الاستيعابية للمشروعات المقامة و مستوي تأهيل و تدريب الكوادر و تنمية الرغبة علي العمل في المشروعات الحديثة خاصة تلك المعتمدة علي الموارد الطبيعية و التي تناسب السودان لحد كبير لغنائه بالثروات الطبيعية المتنوعة و التي تجعله مؤهلا - بعد توفر المناخ الملائم – لتطوير مثل تلك المشروعات المعتمدة علي صهر المعادن و استخدام التكنولوجيا الكيميائية و تطوير الصناعات المعتمدة علي الزراعة و الغابات و المياه الخ.. ويكتسب هذا الأمر أهمية إضافية في المناخ السائد اليوم والذي يهدد وحدة السودان ويستدعي إيجاد البدائل الاقتصادية لمصادر الإيرادات العامة وتنويعها، إضافة لتوسيع مجالات الأنشطة الاقتصادية الخاصة. في هذا الوضع لا يمكن حصر اهمية التدريب في ربطه بالترقي في العمل او كونه (دورة حتمية)، وإنما يجب إخضاعه لمنهجية مختصة ومنتجة.
يعتمد استيعاب التكنولوجيا علي وجود كوادر فنية ذات تأهيل عالي مثل المهندسين و المختصين في تكنولوجيا المعادن و الجيولوجيين و في علوم الأحياء و الاقتصاديين و الإداريين الأكفاء والكثير من المجالات التي من المفترض ان يشملها الإصلاح والتدريب. من الحقائق الجديرة بالاهتمام أيضا ان الشركات متعددة الجنسية و شركات الدول ألكبري لا تعطي المعلومات التكنولوجية المتقدمة الا في حالة حصولها علي عائدات معتبرة من ذلك العطاء و ينطبق ذلك حتي علي الصناعات البسيطة التي لا تستخدم عمالة عالية المهارات مما يحتم إيجاد البديل المناسب و تضمين ذلك في معايير منح مزايا الاستثمار الأجنبي وإلزامية تدريب كوادر وطنية، للكفاءة ولتخفيض التكاليف.
يتم تقويم العائد من التدريب بالنتائج والانجاز في العمل مثل إدخال و استخدام التكنولوجيا وفقا لمحددات معينة تعتمد علي قياس الكفاءة و تحديد أسس اختيار الكوادر العاملة و مستوي تأهيلها و هي الأسس تقريبا التي يتم اختيار العاملين بناءا عليها مع الأخذ في الاعتبار خصوصية المشروع و نوع نشاطه ، ومن ضمن محددات التقييم يتم التركيز علي الطاقة الإنتاجية المحققة بعد التدريب مقارنة علي ما كان عليه الوضع سابقا ،كفاءة استخدام المواد الخام و خطوط التجهيز و حجم إنتاج المشروع، نوعية المنتج وكفاءة العمل الإداري. يأتي ذلك حسب طبيعة التشغيل و ما اذا كان يهدف للاستبدال او التوسع او لتبني تقنية جديدة ومن ثم يقوم المختصون و العاملين بتحديد مؤشرات الأداء المختلفة والنتائج التي تم التوصل إليها للاستعانة بها في تصميم برامج تدريبية جديدة او تطوير البرامج السابقة. و بما ان الاستثمارات الحديثة تخضع لمستوي عالي من التنافس الداخلي و التنافسية الخارجية ولان الأغلبية العظمي من المشروعات في عصرنا الحالي تعمل وفقا لأسس السوق الساعية دائما نحو تحقيق ربحية عالية حتى بالنسبة لعدد كبير من المشروعات العامة العاملة علي أسس تجارية، كما حدث أخيرا في قطاع الكهرباء، فسيصبح من المهم لقيام تلك المشروعات و نجاحها و استمراريتها الاهتمام بتنمية المهارات و القدرات و المعارف عبر التدريب الذي يجب ان يستوفي المعايير المهنية الخالصة. هذا الأمر أصبح اليوم مسألة حياة او موت بالنسبة لجميع شعوب العالم خاصة عندما يرتبط بالتكنولوجيا و الإنتاجية والجودة ، مما يستدعي وضع السياسات اللازمة لذلك. اما بالنسبة للسودان فالوضع أكثر إلحاحا في المعطيات السياسية والاقتصادية الماثلة اليوم والتي تضع مستقبل السودان بأكمله في المحك.
Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]