زيارة للتاريخ .. حتى لا نفاجأ باستقلال ثالث … بقلم: خالد التيجاني النور
tigani60@hotmail.com
لا شئ أظهر على فشل الطبقة السياسية الشمالية السودانية من أن ذكرى استقلال البلاد الخامسة والخمسين تطل لا للاحتفال بمدى التقدم والرقي والمكانة التي بلغها هذا البلد الغني بموارده البشرية والطبيعية لتبز بلاد أقل حظاً منها من ذلك بكثير ارتقت سلم المجد، بل تأتي بحدث زلزالي، الانفصال والتقسيم، واستقلال الجنوب بدولة لم تكن أبداً قدراً مقدوراً ولا أمراً حتمياً، بل لأنه (لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها .. ولكن أخلاق الرجال تضيق) وكذا انعدام الرؤية الإستراتيجية والبصيرة النافذة والقيادة الواعية المتوارثة عبر الأنظمة والحكومات المتعاقبة على مدى عهود الحكم الوطني هي التي أسلمت السودان إلى هذا المصير المشؤوم.
ولا شئ أسوأ من هذا الخسران المبين، من رؤية الطبقة السياسية الشمالية في الحكم والمعارضة وهي تتبادل الاتهامات والتلاوم بشأن من يتحمل مسؤولية الانفصال، بدلاً من أن تتعظ وتعتبر من إرث الفشل السياسي المتعاقب الذي أسهم كل منها بقسط وافر فيه، وكان الظن أنه بعد كل الذي جرى ستثوب إلى رشدها وتكفر عن ذنوبها وخطيئاتها في حق الوطن، وتتعلم شيئاً من هذا الدرس القاسي وتتعالى على الاستمرار في نهج تصفية الحسابات والمعارك الصغيرة، لتلتقي على هدف واحد إنقاذ ما تبقى من السودان وليس التشبث بكراسي السلطة دون اكتراث أو محاولة الوصول إليها بأي ثمن، حتى لا نفاجأ مرة أخرى باستقلال جزء ثالث من الوطن، وأزمة دارفور تقف شاخصة، وربما رابع أو أكثر.
فاستقلال الجنوب لم يأت فجأة ولا هو وليد طموحات الحركة الشعبية اليوم، ولا هو مفروض بمؤامرات خارجية مزعومة، بل هو نتيجة حتمية لتلك السلسلة الطويلة من قصر النظر السياسي والاستهانة بالمطالب المشروعة للجنوبيين الذين ظلوا ينادون منذ أكثر من ستين عاماً بتجسير الفوارق المعلومة بين الشمال والجنوب ومساواتهم بعهد المواطنة، والقراءة الفاحصة المنصفة لتاريخ السودان القريب تثبت أن النخبة السياسية الجنوبية ظلت أكثر وعياً وحكمة وأبعد نظراً واستعداداً لتقديم التنازلات حرصاً على وحدة السودان من نظيرتها الشمالية، وليس في هذا شئ من التجديف، فوقائع التاريخ الموثوق تؤكد ذلك عبر مواقف عملية مسؤولة ظلت تتخذها القيادات الجنوبية، فتقرير المصير والانفصال لم يدخل القاموس السياسي الجنوبي بضربة لازب، بل بسبب إصرار النخبة الشمالية عبر أنظمتها المتعاقبة على إدمان الفشل في التجاوب مع المطالب الجنوبية المشروعة بروح وطنية إيجابية حقيقية وسياسات بناءة فعلية. وحتى عندما تدركها باتفاقيات مكتوبة تقف عاجزة عن الوصول بها إلى غاياتها المنطقية متنكبة بتنفيذ يفتقر لوضوح الهدف، مستغرق في تكتيكات انصرافية على حساب الابعاد الإستراتيجية.
ولك أن تعجب حين تعلم أن مؤتمر إدارة السودان الذي دعا له الحاكم العام هيوبرت هدلستون في 17 أبريل 1946 بمشاركة ممثلين للمجلس الاستشاري لشمال السودان والأحزاب الاستقلالية وقاطعه دعاة الاتحاد مع مصر، لبحث إشراك السودانيين في بشكل أوسع في إدارة بلادهم، قد أوصى ذلك المؤتمر باتخاذ قرار لإدارة السودان كقطر واحد لأن مستقبل السودان يتوقف على دمج أهاليه ليكونوا شعباً واحداً، وطالب المؤتمرون بإنهاء سياسة المناطق المقفولة الاستعمارية التي كانت تعزل الشمال عن الجنوب، واتباع سياسة تعليمية واحدة في السودان كله، وتعليم اللغة العربية في مدارس الجنوب، وتحسين طرق المواصلات بين جزئي السودان (لاحظ ان هذا لم يتم حتى بعد أكثر من ستين عاماً)، وتشجيع تنقلات الموظفين بين الشمال والجنوب، وتوحيد نظام درجات الموظفين، لأن ذلك في رأيهم سيساعد كثيراً في توحيد السودانيين.
لم يكن الجنوبيون طرفاً في ذلك المؤتمر، ولذلك عقد مؤتمر آخر بجوبا في 12 يونيو 1947 لاستطلاع وجهة نظر الجنوبيين حيث عرضت عليهم توصيات مؤتمر إدارة السودان المتعلقة بجنوب السودان، وانتهى مؤتمر جوبا الذي شارك فيه سبعة عشر من قادة بعض القبائل والطبقة المتعلمة الجنوبية بإعلان رغبتهم في سودان موحد، والمشاركة في الجمعية التشريعية، ولم يسجلوا اعتراضاً على مبدأ توحيد السياسة التعليمية في الشمال والجنوب أو تدريس اللغة العربية في مدارسهم، وكان مطلبهم مساواتهم في الحقوق والواجبات مع الشماليين، وتجسير الفوارق التنموية بين الشمال والجنوب. وكما ترى فلم تكن هناك حينها أية مطالب جنوبية خصماً على الوحدة الوطنية.
ومضت ثمانية أعوام لم يتحقق فيها شئ من المطالب الجنوبية الموضوعية صحيح أن الاستعمار كان لا يزال موجوداً، ولكن حتى حكومة الأزهري إبان فترة الحكم الذاتي لم تتحرك لاتخاذ إصلاحات تستجيب لمطالب الجنوب إلا قبل يومين من انعقاد مؤتمر جوبا الثاني الذي دعا له حزب الأحرار الجنوبي في 15 اكتوبر 1954 لبحث موقف الحكومة من الجنوب، وتشكيل كتلة جنوبية متحدة في البرلمان، ومستقبل السودان، وقال الأزهري في بيان للجنوبيين من خلال إذاعة أم درمان إن حكومته قد وضعت منذ مجيئها للسلطة من بين أهدافها الرئيسية إجراء إصلاحات أساسية لرفع مستوى المناطق المتخلفة نسبياً، خاصة المديريات الجنوبية الثلاث وجبال النوبة، وأضاف أن هذه المناطق لم تحصل على ما تستحق من رعاية وعناية مما أدى للفروقات الحالية في مستوى المعيشة وفي الرواتب وفئات الأجور بين الشمال والجنوب، وقال إن من واجب أية حكومة تدرك مسؤولياتها إزالة عدم التساوي هذا لأجل تحقيق الوحدة والتماسك في البناء الاجتماعي والثقافي والفكري للأمة. وتعرض بيان رئيس الوزراء لنقد شديد لأنه لم يعرض لمسألة التنمية في الجنوب، ورد وزير المالية آنذاك بان التخطيط للتنمية يحتاج لتفكير متأن، وينبغي ان تدرس في إطار اقتصاد السودان ككل.
واختار مؤتمر جوبا الثاني استقلال السودان، والنظام الجمهوري، وبشأن مستقبل الجنوب السياسي قرر المؤتمرون المطالبة بالفدرالية في إطار السودان الموحد، ونقل الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه في كتابه (السودان على مشارف الاستقلال الثاني 54- 1956)، مداخلة فحل يوكاندا أحد ممثلي مديرية بحر الغزال التي قال فيها (إنه في مؤتمر جوبا الأول في عام 1947 اتفق الشمال والجنوب على وحدة السودان وعلى المساواة بين الشماليين والجنوبيين في التعليم والتدريب والرواتب، ولكن منذ ذلك التاريخ لم يدرب جنوبيون لشغل وظائف في الإدارة والصحة والتعليم والجيش والزراعة والوظائف الفنية)، واضاف ان سبب عقد مؤتمر جوبا الثاني هو فشل الشماليين في تحقيق ما طالب به الجنوبيون في مؤتمر جوبا الأول، فقد أهمل الجنوبيون ولم يقلدوا أية مسؤوليات في إدارة بلادهم. ولانقاذ السودان يجب ان يحصل الجنوب على حكم فدرالي)، اما المداخلة الثانية التي أوردها فقد كانت لممثل توريت - كاتري الرئيس عبد الله التي قال فيها (إن السود في كل السودان يمرون بمرحلة حاسمة في ظل النظام القائم، وبما أن الجنوبيين صححوا أوضاعهم، فإنه ينبغي عليهم انقاذ الاصدقاء المساكين من النوبة، والفور والفونج) فانظر أليس هذا ما نعايشه اليوم؟.
وبعض انفضاض مؤتمر جوبا الثاني بعث رئيسه بنجامين لوكي برسالة إلى وزيري خارجية بريطانيا ومصر، والحاكم العام، ورئيس وزراء السودان يبلغهم فيه بمطلب الفدرالية، ،ودعا لوكي في رسالته للاعتراف بالفوارق الإثنية والثقافية والدينية بين الشمال والجنوب، وقال إن على الشماليين أن يدركوا أن هذه الفوارق الطبيعية والجوهرية لا تفضي إلا إلى واحد من أمرين: قيام اتحاد فدرالي بين الشمال والجنوب، وإذا لم يكن ذلك مقبولاً للشماليين يقسم السودان على دولتين مستقلتين مثلما انشطرت باكستان عن الهند.
ولئن جاز القول إن الاستعمار يتحمل مسؤولية وضع الجنوب إبان فترة حكمه، دون ان يعفي ذلك حكومة الأزهري إبان الفترة الانتقالية للحكم الذاتي، فقد تم الاستقلال بوعد قاطع للنظر في المطالب الجنوبية، ولم يكن ذلك مجرد وعد شفاهي، بل اتخذ البرلمان في سبيل ضمان حصول قرار الاستقلال من داخل البرلمان على الإجماع إلى إصدار قرار بالإجماع استبق به إعلان الاستقلال ينص على (أنه من رأي هذا المجلس أن مطالب الأعضاء الجنوبيين لحكومة فدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث ستعطى الاعتبار الكافي بواسطة الجمعية التأسيسية) بعد انتخابها، وبناءً على هذا الإلتزام صوت الجنوبيون لصالح الاستقلال في 19 ديسمبر 1955، وبدأت مأساة الجنوب الدخول في متاهة طويلة استمرت أكثر من خمسة عقود تقود الآن لانفصاله، الذي بذر في 22 مايو 1958 حين اجتمعت الجمعية التأسيسية لمناقشة مسودة دستور أبريل 1958، فقد جاءت المسودة خالية من الوعد الذي قطعه برلمان الاستقلال للجنوبيين بإعطاء الفدرالية الاعتبار الكافي عند كتابة الدستور الدائم، وجاءت ردة فعل نواب الجنوب (سريعة وقوية وصاخبة) كما وصفها المؤرخ فيصل عبد الرحمن على طه، فقد قال النائب فرانكو وول قرنق إن استقلال السودان لن يستقر إذا لم يستقم الوضع في الجنوب، وإنه إذا لم يستجب لمطلبهم بالفدرالية فلربما يطلب الجنوبيون أشياء أخرى لم تكن هناك حاجة لها، وقال النائب الأب ساترنينو لاهوري إنه إذا رفض مطلب الفدرالية فإن الجنوبيين سيبحثون عن طريق آخر لتحقيق مطالبهم. وكان رد محمد أحمد محجوب زعيم الأغلبية على النواب الجنوبيين المحتجين بان هناك سوء فهم وأن المسودة يمكن تعديلها أو رفضها أو استبدالها، وللجمعية مطلق الحرية في هذا الأمر فإذا وضعت لجنة الدستور تقريراً عن الفدرالية فإنه سيقدم للجمعية لتقبله او ترفضه إذا كانت مصلحة البلاد العليا تقتضي أحد الأمرين، والرأي للأغلبية.
ورفض النائب فرانكو وول قرنق إجازة الدستور بالأغلبية قائلاً (ما دامت الشمس تشرق من الشرق فإن الجنوبيين لن يكونوا أغلبية)، واضاف (إننا لا نضمر شراً لاستقلال السودان ونحبه ونحرص عليه كاي شخص منكم، ولكننا نريد ان يكون هذا الاستقلال حقيقياً لا ملوناً، وإننا نريد أن ننال حقوقنا كأمة في السودان المستقل). وقال الأب ساترنينو (إذا كنا سنعتمد على مسألة الأغلبية، والجنوبيون اقلية، فلن نحل مشكلة الجنوبيين أبدأ). واضاف (إن للجنوب قضية عادلة لأنه يريد إدارة شؤونه المحلية بنفسه بعد أن فشلت الإدارة الشمالية التي حلت محل الحكم البريطاني، ولم تستطع القيام بالعمل)، معتبراً ان تمرد توريت في أغسطس 1955 حدث في ساعة غضب وإصرار من الجنوبيين الذين لم يكونوا راضين فحاولوا الحصول على حقوقهم بهذه الطريقة، وقال إنه يؤمن بأن هناك طرقاً مشروعة وقانونية لتحقيق أي هدف، وأنه لا يقر التمرد.
ويقول الدكتور منصور خالد إن حملة عنيفة غير مبررة ضد الفدرالية اندفع فيها سياسيون وصحافيون، وانخرط فيها حتى الحزب الشيوعي السوداني الذي وصفه بانه كان الأكثر تقدما من بين الأحزاب في نظرته للمشكل الجنوبي، رأوا فيها استراتيجية استعمارية تهدف إلى تقطيع أوصال السودان، ويقول إن الطبقة السياسية، ومن والاها من المعلقين الصحافيين، فشلت في أن تعي ان الفدرالية لم تكن عائقاً لوحدة الدول الاتحادية، بل كانت اللحمة التي حافظت على تماسكها، ضارباً المثل بتجارب الفدرالية عبر العالم ،انها أدامت وحدة الولايات المتحدة، وكندا، البرازيل، الهند، واستراليا وغيرها.
وهذه الخلفية التاريخية مهمة للتذكير بمنصة انطلاق نكبة السودان الوطنية، وهكذا كرت مسبحة فشل النخبة السياسية الشمالية نظاماً إثر نظام في التعاطي مع قضية الجنوب بسعة أفق ورؤية استراتيجية تحصن البلاد ضد التمزق، وحتى النظامين العسكريين اللذين تقدما خطوات كبيرة لحل الأزمة، سرعان ما ارتدا على عقبيهما ولم يصلا بالتسويات التي أبرموها إلى نهاياتها المنطقية.
ولئن كان من عبرة لما وصل إليه الحال فإن آخر ما يحتاجه ما تبقى من السودان أن تواصل الطبقة السياسية الشمالية نهجها ذاته الذي أفضى إلى هذا المصير- لم تنس شيئاً ولم تتعلم شيئاً، فالتلاوم وتبادل الاتهامات لن يجدي فتيلاً، فلكل نصيبه من التفريط في وحدة السودان على تعاقب الأنظمة والحكومات، وكل القوى السياسية الشمالية في الهم شرق تفتقر لما يفاخر به أحدهم الآخر من ممارسة سياسية رشيدة أو حكم سديد، وليكفوا لمرة واحدة أن يكون الصراع هو على كراسي الحكم تشبثاً بالبقاء فيها بأي ثمن حتى بعد كل الذي حصل، أو سعياً من المعارضين للوصول إلى دست الحكم أو مجرد الانتقام من الحكم القائم والإطاحة به.
المطلوب من القادة السياسيين في الحكم والمعارضة أن يكفوا عن وضع رعاية مصالحهم الضيقة فوق مصالح وطنهم الكبيرة، وأن يكونوا كباراً تجاه أنفسهم ليصبحوا كباراً في تاريخ بلدهم بأن يجنبوه المزيد من الشرذمة. ولا أحد منهم لا يعرف ما المطلوب عمله، فقط حتى لا ننتظر أعواماً أخرى وتأتينا استقلالات أخرى فلا يجدون ما يشتجرون حوله.
عن صحيفة (إيلاف) السودانية
29 ديسمبر 2010