ضعف المعارضة في المركز يقطع اطراف البلاد

 


 

د. حسن بشير
25 January, 2011

 


     ليس صحيحا ان ضعف المعارضة هو بالضرورة من مصلحة الحزب الحاكم. نؤيد صحة تلك الفرضية في حالات الانظمة الديمقراطية او الانظمة الديكتاتورية الشمولية المطلقة او حالات ما يسمي (بهامش الديمقراطية) كما هو الحال في السودان حسب قناعة الكثير من احزاب المعارضة. الحديث عن هامش الحريات في السودان، وانها حريات مكتسبة نتيجة لنضال وتضحيات وليست منحة وايضا نتيجة لاتفاقيات السلام الشامل لا يعتبر نظرية شخصية وانما هو مستمد من ادبيات الاحزاب السياسية في السودان ومنها الحركة الشعبية وبشكل خاص قطاع الشمال التابع لها وعدد من الاحزاب الاخري. اجد نفسي واحدا من مؤيدي هذا التوصيف، اي ان ما يوجد الان بالسودان ليس ديكتاتورية مطلقة ولا ديمقراطيية صريحة، اضافة الي ان نظام الحكم في السودان ليس راسخا او نهائيا وبالتالي لا يمكن الجزم باستمرارية النظام الجمهوري ولا بتحول النظام الحالي الي ديمقراطية برلمانية تلغي النظام الجمهوري.
     إنطلاقا من التأسيس اعلاه فان ضعف احزاب المعارضة في المركز السوداني لا يصب في مصلحة المؤتمر الوطني كما يتصور البعض ومنهم قياديين بالحزب الحاكم، كما انه في نفس الوقت ليس من مصلحة تطور الحياة السياسية في السودان. نذهب ابعد من ذلك لنقول ان ضعف احزاب المعارضة الشمالية ( المعارضة الحقيقية للمؤتمر الوطني او الحركة الاسلامية في شقها الحاكم) قد افرز الكثير من السلبيات في الحياة العامة في السودان ، منها السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي- الثقافي والاستراتيجي.من الجواتب السلبية الخطيرة لضعف المعارضة امعان الحزب الحاكم في اقصاء الاخر والتقوقع في داخله اضافة للخلط بين العام والخاص وعدم الفصل في السلطات بين الحزب والدولة وغياب المؤسسية دون الخوف من  محاسبة نسبة لضعف المؤسسات التشريعية وتبعيتها للحكومة والاعتماد في المكاسب علي القرب من مركز السلطة ورضائها. ادي ذلك الي تفشي الفساد المالي والاداري وضعف الخدمة المدنية وانعدام كفاءتها، زاد من خطورة تلك الظواهر اختلال الفصل بين السلطات وقانون النقابات الذي كرس لنقابة المنشأة التي اصبحت جزءا من النظام الحاكم علي غرار الانظمة الاشتراكية السابقة باوربا الشرقية التي عانت من الجمود والتكلس مما ادي الي فشل الدولة وتفكك عدد من الدول منها القوة العظمي الثانية في العالم، الاتحاد السوفيتي بكل جبروته ويوغسلافيا وتشكوسلوفاكيا. ولا زالت تبعات ذلك تلغي بظلال كثيفة علي الدول المعنية والنظام العالمي بكامله.
     انتقلت الاثار الي السوق الذي اصبح محتكرا من قبل الحكومة او المرتبطين بها واكبر دليل علي ذلك انتشار الشركات الحكومية ومع عدم قبول السياسات المالية والنقدية التي تري فيها غالبية المتعاملين في السوق انها منحازة لمؤيدي النظام وانها لا تطبق بحيادية وعدالة علي الجميع، فان المكاسب السوقية بما فيها الحصول علي التمويل ونجاح الاستثمار بل وحتي انسياب التصدير والاستيراد، اصبح وثيق الارتباط بالسلطات الحكومية. لن يعالج من هذه المشكلة اعلان حل الشركات الحكومية او اعادة هيكلتها لان هذا القول لا يستند الي منطق اقتصادي في ظل ضعف القطاع الخاص الوطني وضمور رؤوس الاموال الوطنية خارج اجهزة الدولة حتي ان التمويل المصرفي يظل محاطا بسياجا سياسيا لا يمكن كسره، بهذا الشكل فان السؤال حول اين ستذهب تلك الشركات ومن الذي يرثها اصولا ونشاطا ومكاسبا؟ سيظل سؤال بلا اجابة، اذ ان المنطق يقول ان تصفية تلك الشركات يجب ان يكون وفقا للقانون وحاكمية الاسواق وبشكل من اشكال نقل الملكية المعروفة في النظم الاقتصادية وفقا لاقتصاديات السوق والتحرير الاقتصادي الي اخر القواعد المنظمة لهذا الشأن، وهذا ما لم يحدث.
      لم يتوقف الامر علي هذه الجوانب التي عمقت من الفقر والتبعية للسلطة وسيادة سيكلوجية الخوف من الظل وتكونت حالة سودانية غير صحية وفريدة من نوعها هي التشكيك في كل شيء وعدم الثقة في اي رأي حتي اذا كان صادقا ومخلصا ويهدف لايجاد مخرج من المأزق التاريخي الذي تعيشه البلاد وصيانة مصالحها داخليا وخارجيا. نتيجة لتلك السياسات والاجراءات وتداعياتها احتلت الجهوية والقبلية مكان المؤسسية والانتماء الي الوطن الي ان صار هذا الانتماء(الجهوي – القبلي) هو القاعدة وغيره الاستثناء. في هذه الحالة تفشي اليأس واللامبالاة بكل شيء بما فيها القضايا الاساسية التي تمثل مصلحة عامة ستنهار دونها المصالح الحزبية والجهوية والشخصية.
    لكن الازمة لا تقف عند هذا الحد بل تتخطاه الي ما هو اعمق، فحتي الاحزاب المعارضة الشمالية التقليدية والعقائدية تسيطر عليها قيادات في جميع مستوياتها من الوسط النيلي ما عدا استثناءات لا تغير من الواقع شيئا. فحزب الامة القومي الذي كان يحظي بسند قوي من ابناء دارفور وكردفان اصبح الان في قيادته شماليا الي حد عالي الترجيح مع اتهامات له بسيطرة اصحاب النفوذ الطائفي وتوارثهم علي قيادته. اما الحزب الاتحادي الديمقراطي، فهو اصلا في جوهره شماليا الي حد كبير بجميع مكوناته بما فيها المكون الطائفي. الامر وصل الي ما تعرف في السودان بالاحزاب العقائدية واهمها الحزب الشيوعي السوداني وحزب المؤتمر الشعبي الذي يمثل الشق الفاعل الموجود خارج الحكم من الحركة الاسلامية. هذان الحزبان بكوادرهما الصفوية في اساسها فمن الطبيعي ان يعتمدا علي قيادات مدنية (او حضرية) عالية التأهيل وبالتالي فان نصيب الهامش فيهما يضمحل بناءا علي هذا الشرط. لا يغير من ذلك ظهور بعض القيادات المنتمية للهامش في الحزبين المذكورين لنبوغ شخصي ومميزات ذاتية لا علاقة لها بالبناء المؤسسي الذي يعمل علي استيعاب الهامش بالرغم من اشتمال خطهما المعلن علي هذا الهدف. يمكن التدليل علي ذلك بان ابرز قيادات الحزب الشيوعي المعروفة لنا ذات الانتماء المباشر الي الاطراف كانت مثل الشخصية الفذة لجوزيف قرنق وحاليا وجود جوزيف موديستو كحالة جنوبية فريدة اضافة للمحامي البارز والناشط في حقوق الانسان صالح محمود الذي ينتمي الي دارفور. اما في حزب المؤتمر الشعبي فان الارتفاع النسبي لعدد الكوادر من دارفور بشكل اساسي يعود الي البعد الديني المتأصل هناك مما دفع بعدد معقول من المتعلمين المستنيرين من الغرب للانتماء الي الحزب ومنهم علي سبيل المثال د. علي الحاج المقيم الان بالمانيا وبعض الكوادر الاخري المتحركة والمتداخلة بين جناحي الحركة الاسلامية. غير ذلك النموذج فان كوادر الحزبين المذكورين من مناطق الهامش انضمت الي عضويتهما وهي تتمتع بحياة حضرية وقليلة الارتباط بمناطقها الاصلية مما دفع الي تكليف كوادر حضرية لتولي بعض الشئون التنظيمية لمناطق الهامش والعمل المهني مثل نقابات العمال واتحادات المزارعين خارج الخرطوم والمدن الشمالية الكبري. هذا الواقع يعمق من انزواء الاطراف نحو الجهوية وربما شكل قطاع الشمال في الحركة الشعبية استثناءا كبيرا عن تلك القاعدة بتوجهه المعلن والمنظم نحو الهامش. جاءت اتفاقيات نيفاشا لتمكن من سطوة الحركة الشعبية في اطراف السودان الشمالي خاصة جنوب كردفان والنيل الازرق. هذا الامر يعتبر سلاح ذو حدين، فهو من جانب يوفر منبرا نظاميا حديثا للهامش ليعبر عن برامجه وطموحاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومن جانب اخر يكرس الي تنامي النزاعات (النضالية) العنيفة المعتمدة علي القوة العسكرية لأكتساب الحقوق، ذلك بحكم الخلفية الثورية للتنظيم ولضعف استقطاب المركز لتلبية متطلبات الاطراف، وتكمن الخطورة في ان مثل هذا التوجه غالبا ما ينتهي بمطالب انفصالية كما بدأ يأخذ شكلا اكثر وضوحا بعد حالة جنوب السودان.
في ظل هذا الوضع اصبحت الكثير من الاطراف تؤمن بأن تفتيت الوطن والانفصال عنه هو الحل. ادي ذلك بالفعل الي اقناع غالبية الجنوبين بخيار الانفصال مع قناعتي الشخصية بان النسب المعلنة عن التصويت للانفصال لا تعبر عن النسبة الحقيقية المفضلة له في الجنوب وانما هي اكبر من الحقيقة بكثير، ذلك دون الوصول الي قناعة بان غالبية الجنوبين لا يفضلون خيار الانفصال، اذ ان هذا الخيار(الانفصال) قد اصبح حقيقة لا يمكن التدليس حولها نتيجة للاسباب التي اشرنا اليها وغيرها من اسباب مصاحبة لتاريخ الدولة السودانية منذ قيامها والي ان حانت ساعة إنشطارها الي دولتين او ربما اكثر. في هذا السياق تنامت دعاوي الابتعاد او الانفصال عن المركز كما يجري في دارفور، جبال النوبة وجنوب النيل الازرق اضافة لنزعات مماثلة في الشرق و(الحراك) النوبي الجديد في الشمال الاقصي.
في حالة الفشل المتوقع لاحزاب المعارضة الشمالية لرؤيتها حول الحكومة القومية ذات القاعدة العريضة التي من المفترض ان تتصدي لكتابة الدستور الجديد، اعادة هيكلة نظام الحكم ومؤسسات الدولة،انجاز مهمة التحول الديمقراطي واجراء انتخابات علي اسس جديدة والتصدي للمشكلات الاقتصادية التي اشعلت نار الغلاء وجعلتها تطرق الابواب بشدة مهددة بعواقب اجتماعية وخيمة، في هذه الحالة فان الخوف كل الخوف من تحول الحراك العنيف ضد المركز الي الاطراف مقطع السودان اربا اربا. الخوف من ذلك المصير سيظل قائما حتي في حالة اعادة الهيكلة وتشكيل حكومة تضم رموزا من احزاب المعارضة، دون ان تنجز تلك الحكومة برنامجا قوميا حقيقيا للتغيير السياسي والاصلاح الاقتصادي والسيطرة علي الضائقة المعيشية وحل المشاكل العالقة في اطراف البلاد. في هذا الوضع وفي حالة تخبط المعارضة وعجزها عن تنفيذ برامجها المعلنة وهوانها علي المؤتمر الوطني، فان شدة الاستقطاب ستزداد بمتوالية هندسية بعد اعلان انفصال الجنوب وبعد فض الارتباط بين الدولتين السودانيتين في يوليو 2011م. يبقي بعد ذلك علي الشعب ان يغني (الحياة اشتعلت نيرا تحرق البيوت)، بدلا عن (الثورة انطلقت شعارات ترددها القلوب)، ذلك في انتظار صوت الاستاذ محمد الامين ان يشدو مجلجلا ب(اليوم الرهيب). اما قبل ان يحدث تغيرا حقيقيا فيبقي علي السودانيين ان يتعاملوا مع الواقع السياسي الماثل مثل ما يتعامل الناس مع الكوارث الطبيعية.

hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]

 

آراء