إشاعة الحرب الكروية في “الدبة” : بقلم: إيان مارشال … ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 


تقديم: هذه ترجمة لحكاية أخرى من حكايات إيان مارشال، ذلك الرجل الاسكتلندي الذي جاء  إلي السودان في بداية التسعينات للعمل مدرسا في مدارس الإقليم الشمالي. كنت قد ترجمت أحد مقالاته الصغيرة قبل أسابيع، عن فترة عمله في أرقو ورحلته المعذبة لعبري. هذه المرة يحكي عن إشاعة "حرب أهلية" صغيرة في قرية "الدبة" أعقبت مباراة لكرة القدم بين جنوبيين وشماليين. نشرت هذه القطعة في مجلة "دراسات السودان" العدد 13 الصادر في يناير 1993م.

كان المشهد للممثل أنتوني كوين، ذلك المخضرم الحكيم، وهو يجلس على الأرض المغبرة  واضعا رجلا على رجل، في تلك القرية الليبية، يحدث صبية صغارا عن كنه تعاليم الإسلام. أبدع أنتوني كوين في أداء دور الشيخ السنوسي وقائد المجاهدين  عمر المختار، والذي قبضت عليه أخيرا وأعدمته قوات الجنرال الإيطالي رودولف قرازيني في عام 1931م. لعب الممثل البريطاني أوليفر ريد دور الجنرال الإيطالي بمهارة، خاصة وهو يسلق مرؤوسيه بلسان حاد لاذع، ويحثهم لمضاعفة الجهد من أجل القضاء على "رجال المقاومة".
رصد ذلك الشريط السينمائي المطعم بالكثير من المشاهد الميلودرامية ثورة مجموعة من سكان الصحراء ضد المستعمرين الإيطاليين  الأقوياء، وكان مشهد المعركة في إحدى الواحات بين عدد قليل من رجال عمر المختار وجيش العدو المدجج بالسلاح الحديث، أحد تلك المشاهد بالغة التأثير و"الميلودرامية". ربط كل رجل من الثوار قدمه بحبل غليظ (كما يعقل البعير) ليضمن أنه لن يتزحزح أو يفر من مواجهة العدو، وبقي في موقعه بين كثبان رمال الصحراء مستعدا لمعركة لا يتوقع أن يخرج منها حيا.
كتب على أن أشاهد تلك المشاهد الميلودرامية في ذلك الشريط السينمائي الرائع عديد المرات عندما كنت أعمل معلماً لللغة الإنجليزية في قرية سودانية صغيرة، هي قرية "الغابة". كان فيديو ذلك الشريط السينمائي موجوداً عند كثير من الناس في تلك القرية من الذين يمتلكون أجهزة تلفزيون وفيديو، تحصلوا عليها دون ريب من أقربائهم الذين يحصلون على "العملات الصعبة" من عملهم في دول الخليج العربي، مثل الكويت والسعودية. في ذلك اليوم كنا ننعم بجو لطيف تحت ظل ظليل في بيت يقع وسط الشريط الضيق المزروع الذي يفصل بين نهر النيل وتلك الصحراء اليباب. بعد تناول طعام العشاء مع زملاء "الميز" من المدرسين وطبيب القرية في بيت مضيفنا، طافت علينا أكواب الشاي، وبدأنا (مرة أخرى) في متابعة تلك المشاهد الدرامية المتتابعة لعمر المختار وقرازيني.
حانت ساعة انصرافنا إلى منزلنا المشترك (الميز)، فتوجهنا صوب سيارتين من نوع تويوتا "نصف نقل" تخصان المدرسة والمستشفى، وتكومنا جميعا في مؤخرة السيارتين وبدأت رحلة العودة. مضت السيارتان تتهاديان بين الحقول الساكنة المزروعة بالبقوليات وأشجار النخيل. عند وصولنا قرب مبنى المدرسة سمعنا صياحا مفزعا لخفير المدرسة وهو يقفز من سيارة "لاند روفر"، ومضى يخبرنا وهو يلهث، أن مستشفي "الدبة" (والتي تبعد نحو 5 – 6 أميال) تفيض بأعداد كبيرة من القتلى والجرحى تم حصدهم ببنادق آلية في مجزرة رهيبة يقودها رجال من جنوب السودان، وهم يزحفون الآن علينا في "الغابة". ذكر الرجل، وأنفاسه تتعالى وتهبط، أنه جاء إلى "الغابة" بحثا عن طبيب تحتاجه مستشفي "الدبة" لرعاية الأعداد المتزايدة من الجرحى.
قضت تلك الأنباء المزعجة على صفاء تلك الليلة، ومضيت أحسب في عقلي كل السيناريوهات المتوقعة، وسبل الهرب إن وصلتنا في تلك الليلة البهيمة رصاصات أولئك الخبل. قذفت تلك القصة العصية على التصديق التي أتى بها من حمل إلينا تلك الأخبار الكارثية برتابة الحياة السودانية وسكونها، إلى عالم مرعب يسوده عنف يعوزه المنطق. يبدو أن ما قيل أنه قد حدث، هو أن جنودا من جنوب السودان يعملون في حامية "الدبة" لعبوا مباراة لكرة القدم ضد فريق محلي غالب لاعبيه من شباب جزيرة قريبة على النيل. كانت تلك المباراة هي مباراة الرد على مباراة سابقة ساد فيها يومها عنف وعداوة في الملعب، سرعان ما سرت عدواها للمتفرجين.غادر كبار متفرجي الفريقين المتخاصمين الملعب، وقد ملأ الغضب والحنق نفوسهم، وضاعف مرور الوقت من الأحقاد والمرارات. ما أن أتت مباراة الرد، حتى أقبل المتفرجون وهم مسلحين بالمدي الحادة، وعلى أتم الاستعداد للمواجهة. تفاقمت المشاعر المعادية، وانفجرت في فترة الاستراحة بين الشوطين؛ فتصارع المتفرجون، وسقط أحد الجنود من أبناء الجنوب صريعا مضرجا في دمائه. تقول القصة المتداولة أن موت الجندي الجنوبي أشعل نار غضب رفاق سلاحه الجنوبيين، فمضوا يطاردون شباب تلك الجزيرة حتى ضفاف النيل، بل وأحرقوا مركبهم التي أتوا فيها، مما دعا أولئك الشباب ليقفزوا في النيل أملا في الوصول لجزيرتهم عوما. اقتحم الجنوبيون مركز الشرطة وانتزعوا الأسلحة الأوتوماتكية والذخائر التي كانت فيه، ومضوا يطلقون النار كيفما اتفق.
هنا توقف الراوي عن سرد قصته المرعبة. كانت تلك الصورة المفزعة التي رسمتها حكاية ذلك الراوي كفيلة بجعل قبيلة الجنرال الإيطالي قرازيني في غاية الفخر! كيف لا؟ ويبدو أن ذلك الهجوم الوحشي قد قضى على غالب النساء والأطفال والشيوخ والعجزة، وعلى أي مظهر للحياة في البلاد علي النيل، وهرب رجال الشرطة أمام ذلك الهجوم الغادر لأولئك المعتدين الآثمين بأسلحتهم الاتوماتيكية الفتاكة.
انطلق بنا "اللاند روفر" يشق عتمة الليل، وينفث من بين عجلاته زخات من الرمال الناعمة. وانطلقت في ذات الوقت أفكاري تسرح في الموقف العصيب الذي وجدت نفسي فيه. كنت لاشعوريا قد أرخيت أذني مصيخا السمع من أجل تبين اصوات طلقات نارية آتية من على البعد كنت موقنا بأنها ستكون آخر ما قد يطرق أذني في هذه الحياة الدنيوية. لم يشاطرني رفقائي إحساسي المتشائم بقرب نهايتنا، ورأيتهم يمضون في أمور حياتهم الروتينية العادية دون أدنى احساس بخوف أو قلق مما يبدو أنه قادم. تبادلنا عندما حان وقت النوم التحايا والمجاملات المعتادة، ومضيت اتأمل المفارقة العجيبة عندما تمنيت لرفيقي أن يصحو في اليوم التالي وهو في صحة جيدة، وأنا لا اتوقع أن تشرق علينا شمس اليوم التالي بسبب أولئك "المعتدين الآثمين" الذين لابد أنهم يجدون في السير نحو قريتنا.
قبل النوم قبلت بحماس يفوق حماسي المعتاد صرة "السعوط" التي قدمها لي زميلي "أيوب"، والذي يجاور سريره سريري في الحوش، حيث نقضى ليلنا نائمين تحت الأنجم الشهب. ككثيرين غيره، عرفت "أيوب" كمستخدم مدمن للسعوط. يصنع السعوط في السودان من ملح جيري يعرف بإسم النترون (لعله يقصد العطرون. المترجم)، وهو اسم الوادي الذي يستخرج منه ذلك الملح، مضافا إليه التبغ والماء. نبئت أن مهمة "النترون/ العطرون" في تلك الخلطة هي إحداث نوع من "الحرارة" أو "التخريش" في السطح الداخلي للشفة السفلى، وهي العضو الأكثر استعمالا لوضع سفة السعوط، بحيث تسهل امتصاص النكوتين إلى مجري الدم. لم أكن من المدخنين قبل ذلك اليوم الذي وضعت فيه سفة السعوط لأول مرة. أحسست بعد ثوان قليلة أن رأسي يدور ويدور ويدور، وأني قفزت فجأة إلى مكان شاهق سرعان ما هويت منه بذات السرعة، لأسقط في ركن ما خلف المنزل، حيث تكومت على الرمل ومضيت أتقيأ في هدوء! تعودت من بعد تلك المرة الأولى على السعوط، وغدوت خبيرا في عجن تلك المادة الشديدة البأس على باطن يدي اليسرى بأصابع يمناي حتى تستحيل إلى ما يشبه الكرة المضغوطة الجاهزة للوضع بين اللثة أمام فكي الأسفل والشفة السفلى. كان تكوير أو "دردمة" سفة السعوط بتلك الطريقة، وتحويل تلك المادة البنية إلى كرة تشبه روث الخنفساء، أحد الطرق المستعملة لتناول السعوط. اعتاد كثير من كبار السن على تجاهل الطريقة (المهذبة) التي ذكرناها، وعدم تبديد الوقت، فقد كانوا يفرغون – دون حساب- كمية وافرة من السعوط من علبتها على اليد المبسوطة، ثم يقذفونها داخل الفم – هكذا- ثم يقلبونها باللسان لتستقر تحته في حركة بارعة. ما أن ينقضي فعل تلك المادة، حتى تقذف من داخل الفم على الأرض مباشرة، وفي حال وجود الشخص في رفقة مهذبة، فإنه سرعان ما يقوم بإهالة طبقة من الرمل على تلك السفة المقذوفة.
استلقينا في تلك الليلة ذات الهواء الساكن، كل على سريره، وقد فعلت تلك "السفة" المتكومة تحت الشفاه فعلها في جهازنا العصبي. مضى رفيقي "أيوب" يحدثني عن مشاكل قلبه الصحية، وعن قصص مغامراته الرومانسية أيام صباه مع "بنت الجيران"... تلك الصبية الخرطومية. لم تفلح الإيقاعات المخدرة لتلك الحكاية المعتادة، ولا الأثر المحمود لنكوتين ذلك السعوط في جعلي أنسى ما كان يدور في خلدي عن الموت المحقق القادم. كانت الأنباء القادمة من "الدبة" قد جعلتني في حالة متقدمة من الرعب لا تظهر لمن يراني مستلقيا في هدوء (ظاهري) على سريري، وأنا مغطى ببطانية صينية تحت سماء تلك الليلة الداكنة الزرقة المرصعة بآلاف النجوم. قاومت مرات عديدة الرغبة الملحة في أن أنهض من سريري وأنا أجوس خلال شوارع القرية النائمة بحثا عن ملاذ آمن أختبئ فيه. بيد أني تيقنت – بعد بعض التفكير- أنه ما من ملجأ مما هو قادم، فأنا في مكان محاط بالصحراء من كل الجهات. لم يبق لي إلا أن أؤمل أنني – وبطريقة ما – سوف أنجو من شواظ الرصاص المتطاير الذي يقذف به أولئك الرجال الغاضبون. بدت لي حالتي تلك أشبه بالحالة التي كان عليها الرجال الليبيون في تلك الواحة في فيديو "عمر المختار.
أصبح الصبح بسلام، وصحوت وأنا أعجب لحالي. لابد أن النوم قد غلبني فنمت رغم قلقي وخوفي. استيقظ رفاقي كذلك، فقمنا نتسابق على الحمام ونستاك ونشرب الشاي، ثم تولينا إلى الظل الذي نقلنا إليه أسرتنا لبقية اليوم. لم ينبت أحدنا ببنت شفه عن ما سمعناه من أحداث في الليلة السابقة. ارتدينا ملابسنا ومشينا إلى المدرسة. ما أن حلت الساعة الثامنة حتى كان كل منا في فصله أمام السبورة، والطباشير بين يده. أتت ساعة الإفطار ولم يتعد الحديث على طاولة الطعام التبارز الشفوي المعابث، والنقاش المعتاد حول "ساس يسوس". مضى نهار ذلك اليوم كغيره من الأيام دون حدث يستحق الذكر. لم يرد ذكر لجنود متمردين غاضبين، ولا لأسلحة مشرعة تبرق في ظلام الليل الدامس، ولا لمذبحة عشوائية عمياء. استطعت أن أكمل يومي الدراسي وحالتي تترقى ببطء من درجة "التخوف المتحفز" إلى درجة "التشويش المتعب". لم أكن سعيدا لكوني ما زلت حيا، ولم أكن مقتنعا تماما بأن الخطر قد زال تماما.
مرت الليلة الثانية بأسهل مما مرت الليلة الأولي. وضعت السفة التي أعطاني إياها "أيوب" في فمي، وأصغيت بصورة أكثر جدية هذه المرة لحكاياته عن مغامرات صباه. لم يقبل يوم العطلة الأسبوعية حتى كنت قد نسيت تماما ما سمعته من إشاعة المجزرة المفترضة، وعن نجاتي من موت محقق في بلد أجنبي. توقفت عن التفكير في كيفية نقل رفاتي إلى اسكتلندا، وبدأت في العودة تدريجيا لحياتي الطبيعية والمشاركة في نشاطات مختلفة. ذهبت ذات يوم للسوق لتناول قهوة محلاة في لون القطران، فتناهي إلي سمعي ما قاله صاحب المقهى وهو يدردش مع جاره عن ذلك الصدام الذي شجر بين مشجعي فريقي كرة القدم في "الدبة". تدخلت بلباقة وسألت بحذر عن عدد الذين سقطوا جراء ذلك الشجار الفوضوي في تلك الأمسية المأساوية. نظر إلي وأجاب في ثبات: "قتيل واحد".  كان القتيل الوحيد في ذلك الشجار هو الجندي الذي لقي مصرعه في ذلك الملعب. مضيت أفكر متأملا في قدرة وقوة وسطوة "الإيحاء" في تلك القرية المغبرة في شمال السودان، حيث الإتصالات بالغة الضعف. كنت سعيدا وممتنا لكوني كنت ضحية لفزع قاتل لم يكن في واقع الأمر غير إشاعة حرب كروية!
نقلا عن "الأحداث"   

badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء