شخصيَّة يوسف كوَّة مكِّي (4 من 4)

 


 

 

بعد حقبة من وفاته..


د. عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk



أما الآن ونحن نكتب هذه الصفحات عن حياة يوسف كوَّة مكِّي، فمن الحسن أن ننتهز هذه الفرصة ونورد – ولئن كان ضئيلاً صغير الحجم – كتاباً عن شخصيَّة يوسف لنختتم به سيرته، ولنفصِّل به مشوار دربه بعض التفصيل، فإنَّ في الإلمام بها إلماماً بشيء غير قليل لأمر عظيم.  كانت ليوسف آراء جريئة لما يريده النُّوبة، وبخاصة من المنظمات الإنسانيَّة العالميَّة.  إذ أنَّه رفض ذات مرة استلام طائرة مشحونة بأواني الطباخة المعدنيَّة، وطفق متسائلاً: "ما الذي يجعلك تظن أنَّنا نرغب في أشد ما تكون الرغبة في هذه الأواني؟"  وأضاف: "نحن في جبال النُّوبة نصنع أوانينا الخاصة من الطين؛ لذلك نحن نريد أشياءاً أخرى."  فالمسألة عند يوسف كوَّة – والذين كانوا معه – كانت مسألة أولويات وليست افتراضات.  كان النُّوبة يأملون في أن تركِّز الأمم المتحدة على مساعدتهم في تنمية المهارات (Capacity building)، أي توفير المعدات والأدوات التي تشجِّع النُّوبة على مساعدة أنفسهم بأنفسهم – كالبذور، المحاريث، الدواء، الكساء، مصادر تنقية المياه، والأدوات المدرسيَّة (كتب، كراسات، أقلام، طباشير وغيرها).  إذ يقول المثل الصيني "أعطي السائل المركب ولا تعطيه سمكة"، وذلك لكي تعلَّمه أن يعتمد على نفسه بنفسه ويصطاد، بدلاً من تلقي الطعام بملعقة من فضة.  وقد أوضح يوسف في أكثر ما يكون الإيضاح أنَّ المساعدات الإنسانيَّة غير المضبوطة تهديد آخر لشعب النُّوبة.  إذ كان يعتقد الاعتقاد كله أنَّ الإغاثة في شكلها الغذائي يخلق ظاهرة الاعتماد على الأغيار، كما يردِّد بعض الناس في الولايات المتحدة والدول الغربيَّة الأخرى ذات نظام الرفاه أنَّ الإعانات التي يتلقاها العاطلون في سبيل البحث عن العمل تُنشئ فيهم صفات الكسل والتواكل على الدولة.  كان يوسف يتحدَّث وفي مخيَّلته قصة القرية التي اعتاد أهلها على الاعتماد على مواد الإغاثة الغذائيَّة.  ففي العام 1993م زار يوسف هذه القرية في جنوب السُّودان، حيث كانت أكثر المناطق التي تلقَّت المواد الغذائيَّة من الأمم المتحدة.  واستطرد يوسف قائلاً: "إنَّ أهالي هذه المنطقة لمزارعون قادرون، لكنهم بسبب وجود مواد الإغاثة الغذائيَّة لم يزرعوا في حقولهم لمدة ثلاث سنوات، ومن هنا يمكن أن ترى الأمر، الذي بات يُفسد الناس بسبب الإفراط في التدليل؛ إذ تجدنَّهم ينامون ويأكلون؛ إنَّه لأمر سيئ."  كان هذا جزءاً من الحديث الذي دار بين إيَّان فيشر – الصحافي بصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكيَّة – والقائد يوسف كوَّة في مكتبه في نيروبي – حاضرة كينيا – العام 2001م، وذلك حين ذهب إليه للحصول على الترخيص لدخول منطقة جبال النُّوبة.  كذلك أبان فيشر أنَّه كان يرغب أيَّما الرغبة في مقابلة واحد من المتمرِّدين القلائل في السُّودان الذي عُرِف بالنزاهة والصراحة حتى وسط الديبلوماسيين وموظفي الإغاثة الذين تساورهم الشكوك دوماً في هؤلاء المناضلين.  إذ كان يُقال له البطل، وحقاً كان يوسف بطلاً من فوارس النُّوبة.  وفيما كان يوسف يصرِّف أمور رعيته ويقوم بأعباء مسؤولياته، كان الداء قد اشتدَّ به اشتداداً، ويلتهم أحشائه التهاماً.  ومع ذلك، أمسى غير مبالٍ، فلا هو خشي أن تحين منيَّته، ولا هو رهب ما قد يجئ به القدر أو الدهر، وكأنَّ لسان حاله كان يقول:
وما أنا خَاشٍ أن تَحينَ مَنِيَّتي
ولا راهب ما قد يجئ به الدَّهر

كان يوسف من تلك الشخصيات التي لا تراهن ولا تداهن الحكام، وتسير إليهم مطأطأة الرؤوس، ولم يحاول اصطناع قاعدة له على حساب المسحوقين المطحونين.  وفي ظل انتفاء الحريَّة في السُّودان لم يبق سوى ثنائيَّة السيطرة والإذعان؛ الأمران اللذان أباهما يوسف إباءاً واعتزازاً وفخراً.  كان يوسف حليماً عفواً، ويتجلَّى حلمه ويتبدَّى عفوه في قصيدته "إفريقيَّتي"، التي أوردنا لكم أبياتها آنفاً، والتي فيها أبان هُويَّته وهويَّة بني جلدته وماضيهم، وفيها أظهر نيته ورغبته في العفو عند المقدرة على من ظلموه، والعفو عند المقدرة من أنبل الخصال وأشرف الأفعال.  إذ قال شاعر في الإناة على الصديق الطائش، وربما على العدو:
واحلُمُ عن خِلِّي وأعلَمُ أنَّني
متى أجِزْه حِلماً على الجَهْلِ يَنْدَم
إنَّ من الحِلم ذُلاً أنت عارفه
والحِلْم عن قدرة فضل من الكرم
فبرغم من حِلمه كان يوسف جريئاً في الحق، يحلم في مواضع الحِلم، ويشتد في مواطن الشدَّة.  فإذا لم يكن للحليم بادرة – أي حدة وما يسبق من قول أو فعل في وقت الغضب – لحماية هذا الحِلم لأمسى هذا الحِلم مغنماً للأعداء، وكمثل السَّلام الذي لا تؤازره قوات حفظ السَّلام.  أفلم يقل الشاعر:
ولا خير في حِلمٍ إذا لم تكن له
بوادر تحمي صفوه أن يُكَدَّرا

مات يوسف كوَّة تاركاً الحداد يلف الحياة السياسيَّة التي زرعتها منارات نضاله المليئة بالأمل، حتى في أحلك لحظات وجوده في معترك الحياة.  رحل يوسف صاحب رؤية ثاقبة في البصر والبصيرة، وذلك بعد صراع شجاع ضد المرض امتدَّ قرابة العامين، مخلفاً بصماته الوطنيَّة على سجل الحركة الثوريَّة في السُّودان.  هكذا رحل يوسف لينطفئ صوت فريد لم يكف عن الدِّفاع عن قضايا النُّوبة على وجه الخصوص، والمستضعفين من أهل السُّودان على وجه العموم؛ رحل يوسف ولم يتعب من محاولة الدِّفاع عن الاختلاف باعتباره أهم الأسس التي تقوم عليها ثراء الحضارة البشريَّة.  صحيح أنَّ أوضاع بعض السُّودانيين لم يتوفَّر لهم "ترف" التوقف طويلاً عند هذا الرحيل لهذا الرَّجل، لكن من المؤكَّد أن يوسف كوة لسوف يُذكر أكثر ويُستلهم أكثر في المراحل المقبلة، كلما اشتدَّت الأزمة السُّودانيَّة وتفاقم التناحر السياسي، وكان النُّوبة وأهل الشمال طرفاً فيهما.  فالله يشهد ما أصوِّر لكم إلا الحق، ولا شيء غير الحق، والذين يعرفون يوسف من قريب يعلمون هذا، ويؤكِّدون أنَّ ما أذيعه في الناس رأياً، أو أنشر فيهم كلاماً هو عين الحقيقة، وليس توصيفاً لما اعتاد عليه الناس بأنَّ يكون الميت صديق الجميع، أو كما تقول الفرنجة (Everyone loves you when you are dead).
كان يوسف أوثق صلة بشعبه، وأصفى روحاً، وصاحب دعابة حلوة ونادرة لا تنقطع ولا تُمل، كأنَّه نبع لا ينضب.  فليس من شك في أنَّ من شهده من الناس وجلس إليه مستمعاً، أو تجالس معه محاوراً، يدرك ذلك أيما الإدراك، ولا سيما إذا كان لهذا الأخير قلب ذكي وبصيرة نافذة ونفس مستطابة.  كان يوسف زاهداً في السلطة أو الاستوزار في الخرطوم.  فقد تحدَّث إلى كاتب هذه الصفحات مبيِّناً أنَّه لا يرغب في أيَّة وظيفة وزاريَّة في العاصمة، وإنَّه ليرغب أشد الرغبة في أن يبقى في جبال النُّوبة بعد السلام ليعلِّم ويربِّي الأجيال.  فإنَّه كان يحبِّذ اختيار الطريق الصعبة، لا لكونه يهوى تعذيب نفسه، بل لأنَّ نداء الدَّم أحياناً أقوى من إغراء الرفاهيَّة، حيث كان يرى أنَّه مسؤول عن شرطه الإنساني وقضيَّة شعبه، الذي يتشبث بغريزة البقاء في أحلك الظروف، وأكثرها إذلالاً وبسالة على السواء.  ومع ذلك، هم يسعون أن يشكِّل عنصر المساواة وتكافؤ الفرص محور سياسات الدولة، ونظام الحكم فيها، وحياة مواطنيها.  فقد وقف يوسف على مبادئه مثل الجبل الأشم، يمر به السحاب وتهب عليه الأعاصير، وحين تحول الزَّمان بسبب الأزمات الداخليَّة في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، لم ييأس على تحوُّل الزَّمان، ولم يعب الزَّمان أو الدَّهر لأنَّ العيب في النَّاس.  ولعلَّنا نتذكَّر قول أكثم بن صيفي، وقد ذهب مثلاً: "من عتب على الدَّهر طالت معتبته"، أي عتبه.  لكن إنَّه الموت الذي يجيئك من حيث لا تحتسب.  فالحياة وديعة من ودائع الله على الناس في معمور الأرض يأخذها متى ما شاء وكيفما شاء، والرجل الحازم العازم الحكيم خليق أن يرضى بالقضاء المكتوب، والقدر المحتوم؛ يحتمل الخير غير زاهد فيه، ويحتمل الشر غير ساخط عليه.  وقد تحدَّث يوسف كوَّة لكاتب هذا المقال عن اللحظة التي فيها أخبره الطبيب عن حاله الصحيَّة، وتوقعاته لحياته المتبقية، وإذا يوسف يتلقَّى النبأ غير حافل به، ولا آبه له، ولا ملقي عليه بالاً، ولم يذهب قلبه شعاعاً، أي لم يتبدَّد من الخوف ونحوه، فما أوسع الحزن وما أضيق الكلمات.  أنت من كنت تطيب له النفوس وتفيض قلوبنا له ولاءاً.  فلنقل أفٍ للدنيا!  وبرغم من وفاة يوسف كوَّة مكِّي، فإنَّه يعيش بيننا، وكأنَّه لم يمت ما دام هو مذكور بيننا بالخير والثناء والشكر الجميل، ولله در القائل في تأسي وتعزية:
ما عاش مَنْ عاش مذموماً خصائلُهُ
ولم يمت من يكن بالخير مذكوراً

ونحن نشعر فيما نكتب عن هذا المناضل العظيم ونذيعه في الناس، وبخاصة الأجيال الصاعدة التي تجهل من أمر يوسف جهلاً تاماً، أو لا تلم به إلا إلماماً قليل الغناء، بأنَّنا نؤدِّي واجب الوفاء لهذا القائد السُّوداني الكبير، ونساهم في تخليد ذكراه لأنَّ هذه الذكرى دين علينا كبير؛ فإنَّه لم يُخلق عبثاً، ولسوف لم نتركه سدى.  ونحن نعلم علم اليقين أنَّ ما نسطِّره هنا سيفعل فعله بقوَّة في أجيال بأسرها من السُّودانيين على وجه العموم ومن النُّوبة بشكل خاص، وذلك لأنَّ يوسف كان من قوة البصيرة بحيث رأى مبكراً ما سيكشفه بعض السُّودانيين متأخراً، وبخاصة أولئك الذين لجأوا إلى حمل السلاح وإشهاره في وجه السلطة الغاشمة في الخرطوم من أهل دارفور، وهو مثال صارخ لما يستطيع المرء انجازه حين يكون متقداً بالحماس، ومبهوراً بفكرة عصريَّة، حتى "لم تعد الأمور كما كانت عليه في السَّابق".(25)  إذ لم يمهل الموت يوسف كي يكتب مذكراته، ومع ذلك نحن نعلم أنَّه أملاها على أشرطة وتركها مع ذويه، ونتمنى أن ينشرها أقاربه، وعلينا أن ننتظر حتى يرشدنا ما سوف يُنشر من هذه المذكرات – بعضها أو كلها – وتتم إذاعتها في الناس، يوماً من الأيام إلى مقدرة جديدة من مقدرات يوسف، أو إلى ناحية جديدة من نواحيه لم نكن نعرفها من قبل.  ومن يدري لعلَّنا نعلم في يوم من الأيام أنَّ الرَّجل قد امتلك بعضاً من الميزات الإنسانيَّة والاجتماعيَّة لم يسعفنا الزَّمان أن ندركها.  وفي الذي قد عرفناه من أخلاق يوسف، فيما نظن أنَّه لم يبلغه إيَّاه غيره من قادة النِّضال المسلَّح والسياسي في جبال النُّوبة، وبالتذكير بما انتهى إليه بحثنا الذي بين أيديكم، يُشجِّع ذا الرأي على اتخاذه قدوة حسنة، ومما يزيد ذوي الألباب نشاطاً إلى إعمال الرأي فيما يصلح الله به الأمة النوبويَّة في يومها أو غابر دهرها.
فما أن كتبنا لكم ما كنا نودُّ إذاعته في الناس لكي ينبلج الحق ويستبين؛ وما أن أوضحنا لكم ما كنا نبغي أن نثيره حتى نترك شيئاً من الأثر كبير في نفوسكم، وبخاصة في نفوس وأفئدة الناشئين الذين لم يروا يوسف عياناً، ويستمعوا إليه سماعاً، لأنَّه ألهب في صدور شبابنا حمية كانت خامدة، وفتح لهم نوافذ من الأمل كانت موصدة، وأيقظهم إلى ما فيهم من شجاعة وعزيمة ومواهب.  ومن بعد أن كتبنا هذا وأبنا ذاك حمدنا الله أنَّنا أدَّينا ليوسف خاصة، والنُّوبة بشكل عام، حقاً كان أداؤه علينا لزاماً، وإنساؤه أو نسيانه أو تناسيه عقوقاً ونكراناً، ونحن لشيء من بعد ذلك مغتبطون مستبشرون.



 

آراء