استكشاف في أجندة وزير الخارجية التركي الاستراتيجية

 


 

 

داؤود أوغلو: تغير الحدود لخلق كيانات اكبر, ونأمل في الحفاظ على فرص إعادة توحيد السودان

نؤيد الثورات العربية, والتغيير مطلوب, ولا يمكن استمرار الحكام بلا مساءلة

هدفنا تخريج أكبر عدد من الأقطار من لائحة الدول الأقل نمواً خلال العشرية القادمة


Khalid Tigani [tigani60@hotmail.com]
لطالما تساءلت, كما تساءل كثيرون, عن سر التحولات الكبرى التي تشهدها تركيا, سواء على صعيد سياستها الداخلية الصاعدة اقتصادياً بقوة أو دورها المتعاظم على الساحة الدولية, خلال العقد الماضي من حكم حزب العدالة والتنمية, وما هو السبب الذي يجعله في خلال دورتين برلمانيتين فقط أن يحدث كل هذه التحولات الهائلة المشهودة؟.
السر الأول المعلوم أن تركيا ما كانت لتحقق هذا النهوض لولا أن نظامها السياسي الديمقراطي يزداد رسوخاً على الرغم من مخاض التحولات العميقة التي تمر بها, كما أن حزب العدالة والتنمية ما كان له أن يحقق هذا النجاح لولا استناده على تأييد شعبي بانتخابات حقيقية حرة وعادلة.
والسبب الثاني بلا شك هو نوعية قيادات حزب العدالة والتنمية الذين اثبتوا أنهم رجال دولة مرموقين يتمتعون بحس سياسي رفيع, يؤهلهم لذلك قدراتهم الفكرية العالية, واستشعار مسؤولية الحكم في بلد يعوون إرثه التاريخي  التليد ومكانته بين الأمم, فضلاً عن شخصياتهم القيادية الفذة, وما هو أهم من ذلك حرصهم على الاستقامة الأخلاقية في ممارسة السلطة بالارتقاء إلى مستوى شعارهم المرفوع(السياسة النظيفة).
البروفسور أحمد داؤود أوغلو, وزير خارجية تركيا, هو أحد تلك الشخصيات التي تصنع لتركيا مجدها الجديد, الحريص على تذكير سامعيه بصفته الأكاديمية, استاذاً في العلوم السياسية والعلاقات الدولية, وهو أكثر من مجرد وزير خارجية, فهو مفكر استراتيجي ضليع ومنظر السياسة الخارجية التركية الجديدة, واصبح مهندسها بعدما تولى وزارة الخارجية في عام 2009, وكان قبلها كبير مستشاري رئيس الوزراء لتنسيق القضايا الاستراتيجية بعد انتخاب حزب العدالة والتنمية.
والأهمية التي يتمتع بها داؤود أوغلو مفكراً استراتيجياً, تأتي من أنه لم يكتسب ذلك بعد وصول حزب العدالة للحكم, بل قبل ذلك حين نشر في العام 2001 كتابه المرجعي (العمق الاستراتيجي, موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية), والذي رسم فيه رؤية عميقة لإعادة تعريف تركيا استراتيجياً, وبناء سياسة خارجية تحقق بها دوراً فاعلاً في السياسة الدولية, وحدد فيه ست مبادئ لسياسة تركيا الخارجية الجديدة, وهو أمر يطول شرحه, ولكن من بين ثنايا هذا الحوار الذي أجريناه مع  وزير الخارجية داؤود أوغلو بأسطنبول على هامش أعمال مؤتمر الأمم المتحدة الرابع لقضايا الدول الأقل نمواً, سنتعرف على بعض الملامح في هذه الرؤية الاستراتيجية التي جعلت تركيا في غضون سنوات قليلة لاعباً فاعلاً في قلب السياسة الدولية.
ومع تشعب وتتوسع الأدوار الخارجية التي تلعب تركيا على المسرح الدولي سنتختصر في هذا الاستكشاف على أربعة قضايا تتعلق بالسودان, والمؤتمر, والعلاقة التركية مع إفريقيا, وموقف تركيا من الثورات العربية.

السودان وعواقب الانفصال الاستراتيجية: 
بالطبع كان الهم السوداني, والبلاد تشهد تحولاً جذرياً من خلال تقسيمه إلى دولتين, حاضراً في سؤال البروفسور داؤود أوغلو عن رؤيته لهذا التحول, وتأثيره الاستراتيجي على أوضاعه في المستقبل وانعكاستها على القارة الإفريقية.
ويجيب داؤود أوغلو قائلاً:عندما ننظر للتركيبة الجيوسياسية, والجيواقتصادية لإفريقيا فإننا سنجد السودان يمثل نموذجاً إفريقياً مصغراً بامتياز, وإذا رسمنا نموذجاًُ مختصراً لإفريقيا فلا شك أن السودان سيكون هو الدولة التي تختصر فيها إفريقيا بكل مكوناتها, لماذا؟ في شمال السودان يغلب المتحدثون باللغة العربية وهم يماثلون في ذلك التركيبة السكانية لشمال إفريقيا الناطقة باللغة العربية, أما في الجنوب فيغلب وجود القبائل الإفريقية الممتدة التي تقطن جنوب الصحراء الكبرى, وكما تعرف أكثر منا فإن وجود هذه القبائل يتمدد إلى خارج حدود السودان إذ أن لها امتداداتها في دول الجوار الأقرب, ويمتد تواصلها بعيداً حتى النيجر, كما أن هذه القبائل ظلت تتحرك شمالاً وجنوباً داخل السودان حتى قبل أن يرسم ما يعرف بالحدود بين الشمال والجنوب, وهي تحركات لا تعترف بحدود مرسومة لكنها تحكمها سبل كسب العيش واحتياجاتها الحياتية الموسمية.
لقد ظللنا نقول منذ وقت مبكر أن القضية السودانية يجب أن تعالج بشكل صحيح, لأن هذه المسألة لا تخص السودان وحده, بل تتعداه لتصبح قضية إفريقية بامتياز, لأن دول القارة ستتأثر بما سيحدث في السودان.
السودان أكبر دولة في إفريقيا مساحة, ولديه أكثر عدد من الدول المجاورة أكثر من أي قطر آخر في إفريقيا, فهو يجاور نحو عشرين بالمائة من دول القارة, وكلها ستتأثر على نحو أو آخر بالنموذج الذي سيتمخض عنه الوضع في السودان, لذلك لا يمكن اعتبارها قضية سودانية داخلية بحتة, بل هي قضية إفريقية بامتياز.
نحن نعلم أن ما يحدث الآن هو نتاج تنفيذ اتفاقية السلام الشامل, وهو اختيار الطرفين ونحن نحترم ذلك, ونحن نؤكد على دعم تركيا للسودان بما يسهم في تجاوز القضايا الانتقالية العالقة بما يحقق الاستقرار, وقد تحدثت مع الوزير على كرتي, عند اجتماعي به قبل يومين  في اسطنبول, وتحدثنا حول موضوع أبيي والحدود والجنسية وغيرها من الترتيبات الانتقالية.
وتقسيم الحدود هي مسألة مثيرة للمشكلات دائماً, وما نقوله إنه إذا تعين تقسيم هذه الحدود فيجب أن يتم في حده الأدنى, ويجب أن تكون مرنة وفضفاضة بقدر الإمكان بحيث تؤثر سلبيياً على حياة السكان.
والشمال والجنوب يجب أن يستمرا في الاحتفاظ بعلاقات اقتصادية قوية متبادلة, ويجب أن لا ينعزلا عن بعضهما البعض, وكما هو معلوم فإن سبعين بالمائة من حقول النفط توجد في الجنوب, كما أن البنية التحتية والمنشآت الضرورية لتصديره توجد في الشمال, ويجب أن لا يضطر جنوب السودان للبحث عن بديل للوصل إلى منافذ أخرى إلى البحر لتصدير نفطه, لأن هناك بنيات موجودة ومستخدمة بالفعل في الشمال. وهي محفزات لتوثيق التعاون وتقوية العلاقات بأكثر مما تكون سبباً في عكس ذلك.
على أي حال ما دام قيام دولتين اصبح أمراً واقعاً وبتراضي الطرفين, فيجب ألا يكون ذلك سبباً في خلق مشكلات جديدة, بل يجب أن تعمل الدولتان في الشمال والجنوب وكأنهما دولة واحدة, والهدف هو تأمين انفصال سلمي قد يقود لاحقاً إلى إعادة توحيد سلمي, والسؤال هل هذا الحل ممكن؟. من المهم هنا إدراك انه إذا لم تعالج هذه الأمور في الوقت الراهن بحلول ناجعة, فإن الأجيال القادمة ستعاني أكثر وستدفع ثمناً أكثر, وإذا نجح الشمال والجنوب في تجاوز عملية الانتقال إلى دولتين بصورة سلمية تحفظ الصلات القوية بينهما, فإن الجيل القادم سيسأل لماذا انفصلنا؟, وما هي الأسباب الجوهرية لذلك, ونحن نعيش في المحيط الجغرافي ذاته, ونقتسم الموارد ذاتها.
ومسألة تقسيم الحدود يجب أن تعالج بعناية وحرص شديدين, وعند تغيير الحدود فإن الأمور لن تقف عند هذا الحد وسيتسبب في إثارة الأوضاع في دول إفريقية أخرى, وفي إنتاج القضة ذاتها.
ويجب أن ننتبه إلى اننا في عصر تغير فيه الحدود من أجل خلق كيانات أكبر, وليس لتوليد وحدات أصغر, وأمامنا تجربة الاتحاد الأوروبي الماثلة, ولكن علي أي حال نحن أمام عملية بدأت في السودان وفق ترتيبات اتفاقية السلام, وعلينا احترام هذا القرار, ولتركيا قنصل عام في جوبا, وعندما تعترف الحكومة السودانية بقيام دولة مستقلة في الجنوب, ستعترف تركيا حينها أيضاً بالدولة الجديدة.
ونعتقد أن خيار الجنسية المزدوجة يمكن أن يشكل حلاً جيداً للطرفين يجنب حدوث مآس إنسانية قد تنجم عن تقسيم المجتمعات والقبائل والأسر باعتبارات سياسية, ومن الممكن أن يطرح حل عبر إنشاء منطقة انتقالية  على جانبي الحدود وفق ترتيبات خاصة تحافظ على طبيعة حياة المجتمعات في هذه المنطقة.
لا أحب استخدام مصطلح إفريقيا السوداء, وانا معجب بمالكوم إكس, الزعيم الأمريكي الإفريقي المعروف, الذي يرفض هذا الوصف واعتبره مصطلح خاطئ, ولذلك فأنا لا أحب أن ينظر لما حدث في السودان بحسبانه نزاعاً بين العرب والأفارقة السود, أو نتاج صراع بين إفريقيا جنوب الصحراء, وإفريقيا شمال الصحراء الناطقة باللغة العربية, ويجب ألا ينظر للأمر باعتبارة نزاع بين الإسلام والمسيحية.
وعلينا أن نستفيد من النموذج الناجح الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي, فتشكيوسلوفاكيا انقسمت إلى دولتين, ولكن ليست هناك مشكلة حدود بينهما, لأنهما عادتا للتوحد تحت مظلة الاتحاد الأوروبي, ونأمل في تجربة مماثلة بتطور الإتحاد الإفريقي إلى وضع لا يعود فيه معنى لوجود الحدود بين الدول الإفريقية.

لماذا الاهتمام بالدول الأقل نمواً؟:
وحول اهتمام تركيا باستضافة مؤتمر الأمم المتحدة الرابع للدول الأقل نمواً, وما ستجنيه من ذلك, يقول داؤود أوغلو إن اهتمام تركيا باستضافة هذا المؤتمر هو تجسيد لاستراتيجية سياستها الخارجية الجديدة التي أعادت تعريف موقعها الجيوسياسي وتطوير دورها على الساحة الدولية بما يواكب مستجدات القرن الواحد والعشرين, إذ تجاوزت تركيا تنصيفها كدولة طرفية أو جسرية إبان الحرب الباردة, فحقائق الجغرافيا والتاريخ تجعلها تندرج تحت تصنيف الدول المركز التي تتميز بالعمق الجغرافي, والاستمرارية التاريخية, والتأثير الثقافي المتبادل, والترابط الاقتصادي المتبادل, وبهذا التعريف الجديد لم تعد تركيا مجرد معبر بين الشرق والغرب, أو بين أوروبا وأسيا, بل تعمل من خلال تفعيل دورها في الساحة الدولية وعبر المساهمة الفعالة في مؤسسات الأمم المتحدة المختلفة, لتصبح لاعباً يسهم في خلق واقع جديد وشراكة جديدة بين الشرق والغرب, وردم الهوة بين الشمال والجنوب.
وهذه هي المرة الأولى التي ينعقد فيها مؤتمر الأمم المتحدة للدول الأقل نمواً خارج دول الشمال, حيث انعقد المؤتمران الأول والثاني بباريس, والثالث في بروكسل تحت مظلة الاتحاد الأوروبي, ونجحت تركيا في الفوز بترتيب المؤتمر الرابع بإجماع كامل, في حين لم تحظ النمسا التي نافستها على ذلك بدعم الاتحاد الأوروبي بأي صوت.
تسمية غير مناسبة:
وأشير هنا إلى أنني اتحفظ على تسمية هذه الدول ب(الأقل نمواً) وهو تعبير يحمل دلالات سلبية, ولذلك تحدثت مع الأمين العام للأمم المتحدة من أجل العمل خلال الفترة المقبلة على اقتراح اسم أكثر مناسبة في تعريف هذه المجموعة, ومن المهم أن نشير هنا إلى أن بعض الدول المصنفة في هذا الإطار ذات أبعاد حضارية عميقة, وذات تاريخ في إقامة الدول, مثل إثيوبيا, اليمن, كما أن نيبال هي مهد البوذية, ولذلك هناك حاجة لمصطلح أكثر انسجاماً مع معنى التطلع للمستقبل.

جدل ولعبة تلاوم:
بالطبع يدور جدل واسع حول من هو المسؤول عن حالة الفقر الاقتصادي التي تعيشها دول هذه المجموعة, فهي من جهة تتهم التاريخ الاستعماري لدول الشمال بالتسبب في إفقارها, في حين تلقى الأخيرة باللوم على سوء الإدارة وغياب الحكم الراشد, والفساد وعدم الاستقرار في وضعيتها الاقتصادية المتدنية الراهنة.
وموقفنا في تركيا من هذا الجدل هو أننا لسنا بصدد (لعبة تلاوم), وهي ليست منتمية لأي من الجهتين, ولكن بحكم موقع تركيا بين دول مجموعة العشرين, ورغبتها واستعدادها للعب دور فعال في مساعدة الدول هذه الدول هدفت تركيا من استضافة المؤتمر أن تصبح صوت الضمير العالمي, وأرادت أن يرفع المؤتمر الصوت عالياً ضد عدم المساواة في النظام الاقتصادي العالمي. ولذلك يجب أن تُحاسب الدول الثمانية الكبرى لماذا غاب قادتها عن المشاركة في أكبر نشاط أممي, أين هم ولماذا لم يشاركوا؟, كيف تكون هناك عدالة في النظام الاقتصادي العالمي وثمانية دول تسيطر على الاقتصادي العالمي فيما تقبع ثمانية وأربعين دولة في هامشه, كان يجب أن يكون هناك اهتمام أكبر لأنه يجب إقامة نظام اقتصادي عالمي اكثر عدالة, صحيح أنه يجب على الدولة المصنفة بأنها الأقل نمواً أن تصبح أكثر فاعلية وإنتاجية اقتصادية, لكن الشراكة تتطلب أن تسهم مجموعة الثمانية بدورها.
ورأي الشخصي كأكاديمي في هذا الجدل هو أنه لا يمكن إنكار دور الإرث الاستعماري, ومعرفة التاريخ الاقتصادي خلال عصر الاستعمار تؤكد أن السياسة الاستعمارية هي المسؤولة, ذلك أن الاقتصاد التقليدي يتحول ويتطور إلى اقتصاد حديث على النمط الحالي بمرور الزمن, عبر عملية تحول طبيعية, وعملية التحول والتطور هذه تعرضت للقطع في الدول التي تعرضت للاستعمار, كما أن مواردها استغلت لصالح اقتصادات الدول المستعمرة. لقد كانت البنغال أكبر مركز عالمي لصناعة النسيج, ولكن تحولت بفعل السياسة الاستعمارية إلى انجلترا.
كذلك لعب الاستعمار دوراً سلبياً بتمزيق أوصال المناطق الاقتصادية ذات الطبيبعة الواحدة التي تم تقسيمها بفعل ترسيم الحدود وفق مناطق النفوذ للدول المستعمرة, وكان عندما يلتقي رجلاً أبيض بآخر تصبح حدوداً بغض النظر عن طبيعة التعايش والامتدادات السكانية للقبائل المتعايشة في مناطق اقتصادية واحدة, وهو ما حدث في إفريقيا, وفي جنوب شرقي آسيا, وفي غيرها.
ولكن أيضاً ينبغي أن نشير أيضاً إلى أن الإرث الاستعماري ليس هو المسؤول الوحيد عن أوضاع الدول التي تعاني من تدني وضعيتها الاقتصادية, وهو ما يعني ضرورة أن تعمل على تعزيز الديمقراطية والشفافية والمحاسبة والعدالة إنتاجيتها الاقتصادية, فهناك دول خضعت أيضاً للاستعمار وللمعطيات نفسها ولكنها نجحت في تجاوز ذلك الوضع وخلقت لنفسها مكانة اقتصادية مثل الهند, أندونيسيا, ماليزيا, وغيرها, ولذلك فإن الإرث الاستعماري وحده لا يفسر كل شئ. ولذلك نقول على دول الشمال الغنية أن تقر بأنها مدينة للدول الأقل نمواً بسبب ماضيها الاستعماري ولاستفادتها من موارد الدول التي استعمرتها, وأن عليها أن تعمل على رد هذا الدين, كما نقول لدول الجنوب الفقيرة أن تكف عن مواصلة إلقاء اللوم في وضعها الحالي على التاريخ الاستعماري, وأن تؤسس للحكم الراشد وترفع كفاءة إنتاجها الاقتصادي.
تحديات العشرية الثانية:
المهم الآن وقد خرجت تركيا من المؤتمر بتعزيز دورها على الساحة الدولية بعدما أصبحت صوتأ يدافع عن مصالح هذه الدول, فإن أمامنا تحديات كبيراً إذ سنتولى الإشراف على متابعة تنفيذ (خطة عمل اسطنبول) للعشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين, وبالنظر إلى النتائج المحدودة التي تحققت على مدى العقود الأربعة السابقة منذ الاعتراف بوضعية هذه الدول وكان نتاج ذلك أن زادت من خمس وعشرين دولة لتصبح ثمانية وأربعين دولة, ولم تتخرج من هذه اللائحة طوال السنوات الماضية سوى ثلاث دول, فإننا سنعمل على أن يتخرج أكبر عدد ممكن من الدول من هذا التصنيف خلال السنوات العشر المقبلة, وستعقد تركيا مؤتمراً في منتصف هذه الفترة لتقويم الأداء وللتحقق من إحراز النتائج المرجوة.

العلاقة مع إفريقيا.. اختبار لاستراتيجيتنا:
وحول الاهتمام الخاص الذي تبديه تركيا لعلاقاتها مع إفريقيا, يقول داؤود أوغلو أن انفتاح تركيا على إفريقيا هو أحد نتائج إعادة رسم سياستها الخارجية, على نحو يحقق لها التأثير العالمي, والمشاركة في حل المشكلات.
فخلال فترة الحرب الباردة كانت تركيا تحدد أولويات سياساتها الخارجية حسب التهديدات الأكثر خطورة إليها, وبالتالي لم يكن لمناطق مثل إفريقيا وأمريكا الجنوبية موقع داخل السياسية الخارجية التركية, لبعدها الجغرافي ولعدم توفر علاقات معها.
لقد اسفرت الأفاق الجغرافية الجديدة التي انفتحت عليها السياسة التركية عن تطور في العلاقات مع مناطق لم تكن من قبل ضمن خارطة اهتماماتها, ولعل الانفتاح التركي على إفريقيا يمثل نموذجاً لافتاً في هذا الخصوص, فعلى النقيض من وشائج وعلاقات القربى التي كانت تربط القارة الإفريقية بالدول العثمانية, فقد ظلت إفريقيا على امتداد تاريخ الجمهورية ملفاً منسياً. والسياسة الخارجية التركية اليوم لا يمكنها التأثير في في السياسات الإقليمية أو العالمية على حد سواء دون أن يكون لها تصور ورؤية لعلاقاتها مع القارة الإفريقية.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن تركيا لا ترى وفق رؤيتها الجديدة لسياساتها الخارجية أن إفريقيا قارة بعيدة عنها, فتركيا من الناحية الجيوسياسية دولة أوراسية ذات جدوار مباشر مع إفريقيا, وقد اصبحت إفريقيا إحدى ساحات الاختبار  لرؤية السياسة الخارجية التركية الجديدة, تعكس حقيقة مضامين ومبادئ هذه السياسة من حيث التصور الجيوسياسيي والعمق الاستراتيجي, والأسلوب الدبلوماسي, والمدى الذي وصلت إليه العلاقات التركية الإفريقية خلال الفترة القصيرة الماضية يمثل دليلاً على نجاح هذه السياسة, فقد أعلنت تركيا عام 2005 عام الانفتاح التركي على إفريقيا, وفي مارس من العام نفسه سجل رئيس الوزراء أردوغان أول زيارة من نوعها في تاريخ الجمهورية التركية إلى إثيوبيا وجنوب إفريقيا, وفي الشهر الذي يليه أصبحت تركيا عضواً مراقباً في الاتحاد الإفريقي, ومع تعمق العلاقات أعلن الاتحاد الإفريقي تركيا شريكاً استراتيجياً في يناير 2008.
وتطورت الأمور أكثر إلى الأمام حين استضافت اسطنبول في أغسطس 2008, أهم قمة في تاريخ العلاقات التركية الإفريقية شاركت فيها اثنتين واربعين دولة من القارة تحت شعار (التضامن والشراكة من أجل مستقبلنا),  وبفضل هذه العلاقة المتنامية سرعان ما ظهر أثرها حين صوتت الدول الإفريقية بالإجماع لصالح انتخاب تركيا عضوا غير دائم في مجلس الأمن الدولي في أكتوبر 2008, ومن المخطط أن تعقد القمة التركية الإفريقية الثانية في العام 2013, من اجل تحويل التطورات التي شهدتها العلاقات بين الطرفين إلى تعاون شامل, وتعزيز أرضية التشاور بشأن القضايا العالمية. وخلال سنوات قليلة تضاعف حجم التجارة الخارجية بين تركيا وإفريقيا نحو خمسة مليارات دولار عام 2003 إلى 12 مليار دولار حتى عام 2007.
ودعني اشير هنا إلى انني منذ تسلمت منصب وزير الخارجية منتصف عام 2009, فقد ارتفع تمثيلنا الدبلوماسي في إفريقيا بنسبة مائة وخمسين بالمائة, فقد كانت لدينا اثنتي عشر سفارة, وافتتحنا ثمانية عشر سفارة جديدة, بحيث اصبحنا لدينا تمثيل دبلوماسي في نحو ستين بالمائة من دول القارة الإفريقية.
وكذلك حققت المؤسسة التركية للتعاون والتنمية, وهي ذراع التعاون التنموي الخارجي لتركيا, قفزة جادة في الانفتاح على إفريقيا, حيث استطاعت من خلال مكاتبها في ثلاث دول إفريقيا, في السودان وإثيوبيا والسنغال, أن تسهم بصورة مباشرة في العديد من مشروعات التنمية في سبعة وثلاثين دولة إفريقية, ولديها برنامجاً خاصاً بالتنمية الزراعية في إفريقيا عمل خلال السنتين الماضيتين إلى المساعدة في تطوير لزراعة في ثلاثة عشر بلداً إفريقياً في أنحاء القارة المختلفة.
وكذلك اسهمت تركيا بصورة مباشرة في دعم الجهود الإنسانية في بعض دول إفريقيا, من خلال المؤسسات الدولية, حيث قدمت تركيا مساهمات بخمسين مليون دولار لمشروعات التنمية في إفريقيا من خلال منظمات الصحة العالمية, وبرنامج الغذاء العالمي, والصليب الأحمر, وهذا ما يجعل تركيا في المرتبة الثانية بعد الصين بين الدول التي تقدم مساعدات لإفريقيا.
وبهذه الجهود كلها اصبحت إفريقيا ساحة مؤثرة في السياسة الخارجية التركية, وتحقق لتركيا انفتاحا على الساحات العالمية في سياساتها الخارجية, وهي تطورات ستؤتي ثمارها سواء على المستوى الدولي أو على مستوى العلاقات الثنائية والإقليمية, من حيث التأثير الاستراتيجي والاقتصادي والثقافي المتبادل, ودعني أشير هنا إلى ان العلاقات مع إفريقيا تدعم علاقات تركيا وتعززها في العلاقات الأخرى, وهو ما يمكن تفسيره بأنه أحد ثمرات نهج السياسة الخارجية المتعدد الأبعاد, وبهذا المفهوم فإن الحرص على العلاقة مع إفريقيا أمر واجب إذا إرادت تركيا أن تصبح قوة عالمية.  

الثورات العربية.. أي موقف؟:
من المعلوم أن أحد مبادئ السياسية الخارجية التركية الجديدة هي تصفير المشاكل خاصة مع جيرانها العرب, أي تصفية الخلافات مع جيرانها الاٌقرب والانفتاح عليهم, ولكن يبدو أن الثورات العربية المندلعة في أكثر من دولة عربية وضعت هذه السياسة الجديدة على المحك, وأصبحت السياسة التركية مطالبة باتخاذ موقف بين الشعوب الثائرة, والحكومات التي تحتفظ بعلاقات جيدة معها, فهل تواجه تركيا مأزقاً بهذا الخصوص؟.
يقول وزير الخارجية التركي بشان الحركات الشعبية في الوطن العربي موقفنا واضح في كل مكان, مما حدث ويحدث في ليبيا, مصر, تونس, سوريا, اليمن, وفي البحرين, ونتبع سياسة واحدة وما نقوله أولاً هو أن هناك حاجة فعلية للتغيير, والإصلاح المطلوب, وما يطالب به الناس في كل هذه التحركات,اللمزيد من الشفافية والديمقراطية, والحاجة لنظم أكثر عدالة, وكل هذه القيم نحن نؤمن بها وندافع عنها, ورسالتنا واحدة وواضحة وبعثنا برسائل قوية لقادة هذه الدول هي أن التغيير يجب ان يحدث ونعني التغيير فعلاً.
والتعاطي مع الوضع في كل واحدة من هذه الدول قد يختلف, في مسألة اليمن هناك مبادرة خليجية نحن ندعمها, أما بالنسبة لسوريا وهي جارنا الاٌقرب ولا يمكن أن نقف متفرجين ولذك توجب علينا أن نتخذ أفعالاً, ولذلك ندعم الإصلاحات بقوة, وعبرنا عن ذلك بكل وضوح.
على أي حال عندما يكون هناك رئيس سابق على قيد الحياة يكون الأمر مختلفاً, فعندما زرت تنزانيا عرفت أن هناك رئيساً سابقاً يعيش, بمعنى أنه خرج من السلطة بعملية ديمقراطية, وهذا يعطي أملاً للشعب بأن هناك رئيس سابق يمكن أن يخضع للمساءلة والمحاسبة, لا يمكن تصور أن يبقى رئيساً في السلطة لثلاث أو أربعة عقود بدون أن يكون خاضعاً للمساءلة, ولا يمكن أن يعيش المواطنون في تلك الأوضاع فقراً اقتصادياً بسبب ذلك ثم يلقي الحاكم طوال هذه العقود باللوم على الاستعمار.
نحن في تركيا لدينا انتخابات عامة تجري بانتظام, وإذا لم تستطع أن تحقق نجاحاً إبان وجودك في سدة الحكم, فسيأتي آخرون مكانك بإرادة الشعب, بمعنى أنه يجب أن تكون هناك انتخابات حرة وعادلة. حزبنا مثلاً كسب الانتخابات بنسبة خمسة وأربعين بالمائة, ولكن عندما يأتي رئيس ليقول إنه فاز بنسبة تسعة وتسعة بالمائة, أو تسعين بالمائة فهذا يعني أنه ليست هناك انتخابات, ولا ديمقراطية, وهذا ما يجب تغييره.
المهم في التحركات الشعبية أن تحتفظ بطابعها السلمي, والنموذج المصري في هذا المجال جيد لأنه كان الأكثر سلمية, إذا كان هناك توتر تحاول تركيا أن تساعد في تخفيف التوتر حاولنا ذلك في ليبيا في وقت ما بهدف ألا يتم تقسيم ليبيا, والأمر نفسه بالنسبة لليمن إذ يجب ألا يردي الحراك الشعبي إلى تقسيمه, او تنزلق إلى حرب أهلية, التغيير أمر جيد, ولكن المهم ما هو إتجاه التغيير وإلى أين يقود؟ إذ يجب ألا يؤدي إلى تقسيم البلدان على أسس عرقية أو طائفية أو دينية.

عن صحيفة إيلاف السودانية
الأربعاء 18 مايو 2011

 

آراء