كتاب “أحاجي أبو كدوك” للدكتور: عثمان إبراهيم الحسين بابكر
Abdallashiglini@hotmail.com
" كتاب "أحاجي أبو كدوك " للدكتور : عثمان إبراهيم الحسين بابكر
" إن الحياة فضاء واسع مُضيَّع "
جيمس
"إن أجناس الكتابة مختلفة ، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة ، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية ، فمنها البليغ الرصين الجزل ، ومنها الفصيح القريب السهل ، ومنها الجائز المطلق الرسل . وهذه أقسام الكلام الفاضل "
أبو سليمان الخطابي
مقدمة :
عندما كتب خليل فرح قصيدته مودعاً أم درمان وأحياءها في رحلته للاستشفاء في مصر :
من فتيح للخور للمغالق
من علايل أب روف للمزالق
قدلة يا مولاي حافي حالق
بالطريق الشاقي الترام
كانت " فتيح " هي الفتيحاب " أبوسعد " و" الخور " هو"خور أبوعنجة " والذي سُمي على " حمدان أبو عنجة " أمير من أمراء المهدية ، وهو المكان الذي يحد " أبوكدوك " موطن الأحاجي شمالاً ، والفتيحاب هم أهل المنطقة التي عسكر بجوار أهلها الإمام محمد أحمد المهدي قبل استرداد الخرطوم 1885 ، وقد استقبله أهل الفتيحاب " بطبول " النحاس " عندما حلّ ضيفاً عليهم . ثم انحدر بعد أن استقر لعاصمة الحكم أن تكون أم درمان ، وغادر الفتيحاب إلى السهل الممتد شمالاً وعسكر قرب باحة الجامع " جامع الخليفة " وابتنى بيته وبجواره بيت الخليفة "عبد الله ود تورشين "، وبيت المال الحي ، هو موضع " بيت المال أيام المهدية " وحي الملازمين هو حي " الملازمين "للإمام ومن بعده الخليفة من الأنصار ، وحي أبوروف هو المسمى على القائد أبو روف من أمراء المهدية ... ،
هذه هي أم درمان أيام المهدية .وكان حي أبوكدوك قد انتقل أهله من الفتيحاب إلى المنطقة الحالية
بعد أن طلب المستعمر الإنجليزي إفساح المنطقة للسلاح الطبي الحالي لتكون معسكراً لجنوده عام 1912 ، وانتقل القاطنون إلى " أبو كدوك " وكان من أوائل الذين انتقلوا ابن الأمير أبو كدوك ، كما انتقل إلى حي بانت الذي تسمى من المثل الذي كان في ذلك الزمان " الرجال بانت " .
يحد حي أبو كدوك شمالاً خور أبوعنجة ، وشرقاً حي الضباط وجنوباً بانت غرب، وغرباً مقابر الشيخ حمد النيل .
لقد تآلفت المجموعات الثقافية في المنطقة من أثر الهجرات أيام الخليفة عبد الله ، واثر الترحيل القسري الذي فرضه المستعمر ، بقصد تفريق العشائر كي لا تكون حزمة ثقافية تستجمع قواها لتنهض .
عبق الأمكنة :
قليلون هم الذين يكتبون ، واعتدنا الثقافة الشفهية التي تموت آخر المطاف في الصدور ، والكتابة نزوع نحو التوثيق ، وهذا ما يُحمد عليه الأستاذ / المشارك : عثمان إبراهيم الحسين ، ويحمد عليه كثيرون .
تتقلب الأحاجي في معانيها في العربية الفصيحة إلى العامية السودانية ، بدأ من الألغاز إلى الأقاصيص والحكايات التي تحكي سيرة حياة الناس ، فتوزع الكتاب بين لمحات من سيرة المكان ، وفق خُطى الكاتب في مسيرته . وقد تخير الكاتب طريقاً آخر لرواية تاريخ الأمكنة وقبس من الحياة الاجتماعية وتسجيل لتاريخ على شاكلة الأقاصيص والأحاجي .
لقد كتب "أبو الفرج الأصفهاني خلال خمسين عاما " كتاب الأغاني "، وقد جمع قبسا من التاريخ من خلال أغاني الزمان ، ولم تتمكن آلة الحجب والطمس التي تمت في التاريخ الإسلامي أن تتعرف إلى التأريخ المستتر لحياة الأمكنة والبشر ، شعراء ومغنيين وأمراء ، نُجباءهم ، قصة الحياة التي تسير سيرتها وتصفها العامة بأنها تتراوح بين مسلك الملائكة ومسلك الشياطين ، بين الخير والشر ، ويقدمها الدارسون على أن الحياة مفتوحة على كل الاحتمالات ، وليس للنقائض وحدها .
يقع الكتاب في تسعة وأربعين صفحة من القطع المتوسط ، للكاتب الأستاذ المشارك "عثمان إبراهيم الحسين بابكر " وهو من الرعيل الأول من مدرسي اللغة الإنجليزية في المدارس الثانوية منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي ولمدة ثلاثة وعشرين عاماً ، وأستاذاً جامعيا في علم النفس لمدة سبعة عشر عاماً ، في جامعة النيلين وفي كلية الأحفاد الجامعية الآن .
منذ مذكرات " بابكر بدري" ، " ذكريات البادية" للأستاذ " حسن نجيلة "، "مذكرات أغبش" للأستاذ " عبد الله رجب " ، أحاجي البروفيسور "عبد الله الطيب المجذوب "، ومذكرات" خضر حمد "، ومذكرات الإمام "عبد الرحمن المهدي" التي اسماه الدكتور حسن موسى ( صاحب حداثة الغُبش ) وأم درمانيات الأستاذ " شوقي بدري" ، وكثير من السير الذاتية وتوثيق الحياة السودانية ، ورغم ذلك فإن المكتبة السودانية في حاجة ماسة لعبير الأمكنة وروائح المكان وبصمات الزمان وملامح الشخوص التي عبرت ، وتسجيل حيوات المدن والأحياء والفرقان ، وتقصي علائق التاريخ بالجغرافيا في إنارة المعرفة وعبور التضاريس الاجتماعية التي تحول دون التوثيق ، وقد عانى المعلم " بابكر بدري " مشقة عظيمة في التوثيق لسيرة حياته ، وكذلك عانى كاتب السِفر الذي نتحدث عنه الأستاذ المشارك " عثمان إبراهيم الحسين " مشقة أيضاً رغم أنه طفا على سطح الأحداث والتفاصيل بكثير من اللطافة واليسر دون أن يتجنى على السير الذاتية ، ووثق التدوين من مراجع مسنودة بشهود عيان ، وتجربة حياته الشخصية .
لقد أضاء الكاتب سيرة المكان " أبو كدوك " من خلال قبس من سيرة حياة الكاتب ، وانتقى ما انتقي من التقديم ثم أتبعه بثلاثة فصول ، ضمت مجموعة اسماها الأحاجي :
- أحاجي الأماكن
- حجوة أبوكدوك
- حجوة سينمائيات
- حجوة المنطقة الصناعية القديمة في أم درمان في الستينات والسبعينات
- حجوة الإندايات
- حجوة خلوة الشيخ الفاتح الشقليني بأبي كدوك.
- حجوة مدرسة أبو عنجة الأولية
- حجوة مدرسة المؤتمر الثانوية ( 1962-1966 )
- حجوة المراهقة في أحياء أم درمان " أبو كدوك " نموذجاً.
- حجوة الجدة " فاطمة الزهراء " فاطمة سليمان جلي .
- حجوة والدة الكاتب خديجة بنت السرة .
- حجوة والد الكاتب " إبراهيم الحسين بابكر "
- الخاتمة
اللغة :
اختار الكاتب مزيجاً من الفصيح القريب السهل والجائز المطلق الرسل ، وقرّب إليه العامة باللغة العربية المبسطة والمصطلحات العامية المتداولة في حينها للتدقيق ، وهي ذات المنهاج الذي اتبعه بابكر بدري وعبد الله رجب وشوقي بدري في تقريب لغة الكتابة لإفهام العامة .
تجول الكاتب في محيط طفولته ومواقع أقدامه في البيت وبيوت الجيران والخلوة والمدارس ، وانتقال الطفولة عنده ، وعلاقة الابن بالجدة ، وهي التي تحدث عن علاقة مقاربة " بين الابن والجد " عند الروائي الطيب صالح في " بندر شاه " ، وهي وإن اختلفت عن سيرة ذاتية تسربت من خلال توثيق "أحاجي أبو كدوك " فقد تلحظ أنت بصمات الكاتب وتقييمه للأحداث ومقارنة دسمة بأحداث الحياة الحقيقية بأحداث روايات عالمية ذائعة الصيت .
جاذبية الكتابة :
تمكن الكاتب بيسر أن يكتب بلغة وسرد جاذب ، يحفز القارئ ألا يتوقف عن القراءة ، وقد تمكن من كسر الحواجز التي يرى كثير من العامة أن الأكاديميين بعيدين عن حياة العامة ، ينظرون للأشياء من علٍ ، وقد كذب الكاتب " عثمان إبراهيم الحسين " تلك المقولة .
تحية للكاتب ، ونأمل في أحاجي أُخر تضيء الأمكنة التي مشت على أرضها وأرض غيرها من الأمكنة قدمٌ همجية ، حاولت قدر الممكن طمس الهويات السودانية .
كتاب جدير بالاقتناء.
عبد الله الشقليني
17/6/ 2011