مراجعات الدكتور حيدر ابراهيم على مراجعات الاسلامين 3-3 .. عرض: التقي محمد عثمان

 


 

 



# مراجعات الاسلاميين ونقدهم لتجربتهم اقرب الى المراثي والمناحات
# الطيب زين العابدين .. يلعب دورا في تقويم مسار الحركة الاسلامية رغم ان موقفه في البداية كان حائرا في جوهره، يحاول ان يعيد الحركة الى براءتها وبريقها السابق
# غازي صلاح الدين .. شخصيته تتناقض مع خصائل ومقومات المفكر، اقصائي لا يقبل الاختلاف، ذاتي يشخصن الأمور، واذا جرحت ذاته النرجسية يفجر في العداوة، لا يتوانى عن توظيف القرآن والتراث لدعم منهجه التبريري
# حسن مكي .. آراؤه اقرب الى الانطباعية والسجالية وردود الفعل الآنية، لا يسعف القارئ بنظرية أو مفاهيم جديدة
عرض: التقي محمد عثمان
هذا كتاب حشد له صاحبه نحو خمسين مرجعا ليستخرج منها في 128 صفحة من القطع المتوسط ما يعزز مقولته الأساسية (كسب الدنيا وخسارة الدين)، فالكاتب لا يراجع الاسلاميين من المتعاطين للكتابة والفكر فقط ــ وإن كان خصّهم بالتناول لأن لديهم ما يمكن النظر فيه ومناقشته بحكم مغادرته للشفاهية ــ وانما يخضع تجربة الحركة الاسلامية السودانية برمتها لمبضع التشريح والمساءلة والنقد، ولا يتحرج الدكتور حيدر ابراهيم في كتابه (مراجعات الاسلاميين السودانيين ــ كسب الدنيا وخسارة الدين) الصادر حديثا من دار الحضارة للنشر من اعلان تعاطفه مع الاسلاميين السودانيين على المستوى الانساني والوجداني (فهم في النهاية سودانيون يعيشون مأساة حقيقية) وان كان يقول في الجملة التالية انه يرفضهم على المستوى السياسي والوطني، ويصف مدير مركز الدراسات السودانية تجربتهم في الحكم الممتدة منذ عام 1989م بأنها كانت وبالا عليهم وعلى السودان ويقول عنهم انهم الآن اقرب الى نهايات أبطال روايات شكسبير التراجيدية فـ (رغم امساكهم بالسلطة اصبحت كل اعمالهم للجاه لا لله، ومع محاولتهم ادعاء القوة والجبروت، فهم يثيرون فيك الشفقة لمسكنتهم وعزلتهم وانكساراتهم الداخلية. كيف لا وهم قد خسروا انفسهم ولم يكسبوا من الدنيا غير أوساخها: المال والعقار. لم يكسبوا الرحمة والتراحم والشهامة والبشاشة والمحبة، وهم يستحقون فعلا تسمية (حزب الجراد)، فهم قد جردوا البلاد والعباد من خيراتهم المادية والروحية)، ليطرح السؤال المحوري (هل كان السودان في حاجة جقيقية لحركة اسلامية). 
اما الذين يناقشهم من المفكرين والكتّاب الاسلاميين فيصف الدكتور حيدر مراجعاتهم التي قاموا بها بانها اقرب الى المراثي والمناحات، ويقول ان الصعوبة التي وجدتها الحركة الاسلامية في ممارسة النقد والنقد الذاتي ومن ثم المراجعة مردها الى طغيان الاحساس بالتفرد بين الاسلامويين ــ يستخدم هذه المفردة دائما ــ فالحركة جمعت في تنظيمها بين الشمولية والقدسية والقيادة الكارزمية مما تسبب في قدر كبير من المكابرة، والشعور بالعصمة وامتلاك الحقيقة المطلقة، ولكنه مع ذلك يفرد لهؤلاء الاسلاميين الكاتبين الممارسين للنقد والمراجعات حيزا مقدرا من الكتاب ـ يخصص لهم الفصل الثاني من الكتاب ذي الثلاثة فصول ــ وتخصص له ولهم (الصحافة) هذا الحيز لعرض ما جاء في الكتاب، منه عنهم، لما يحتله جميعهم من ناحية في سماء التجربة السودانية المعاصرة، فكرا وممارسة:
الطيب زين العابدين والمثال المحال
في فاتحة مراجعته لمراجعاته يضع الدكتور حيدر ابراهيم الدكتور الطيب زين العابدين ضمن العناصر النزيهة والمقتدرة داخل الحركة الاسلامية ويعتبره من اصحاب الصيت في نقد التجربة الاسلامية، ويقول انه من المهمشين تماما داخل الحركة الاسلامية، فهو ينتمي الى مجموعة داخل الحركة رغم كسبها وقدراها ابعدت من المواقع المتنفذة. وقد يكون هذا البعد او الابعاد بسبب هذه الميزات نفسها! فقد تكون الحركة بعد التمكين اصبحت لا تطيق وجود العناصر النزيهة والمقتدرة، وربما منح هذا التهميش (زين العابدين) مساحة اوسع للحركة والحرية ولذلك تميزت كتاباته بقدر كبير من النقد والمراجعة.
ويشير  ابراهيم الى ان زين العابدين يلعب دورا في تقويم مسار الحركة، رغم ان موقفه في البداية كان حائرا في جوهره. ففي احدى المرت كتب ناقدا الحد من الحريات باعتبار ان النظام ما زال عسكريا شموليا يعتمد على تقريب الموالين وطرد المعارضين ولكن كل هذا لم يمنعه من القول: (أنا من ابناء المشروع الاسلامي، وانتقادي له من هذا الباب، لأنني لا اريد له ان يفشل او يشوه. ونقدي من هذا المنطلق ليس من منطلق المعارضة السياسية وان ظهر اتفاق معهم في بعض وجهات النظر، ثم إن مشاركتي اكاديمية ولا يمكن ان تعقد لساني عن النصح والتقييم)، (ألوان 1997/12/6). الا انه بعد المفاصلة اتخذ موقفا يمكن ان نصفه بالجذرية دون مبالغة، فقد دعا الى: فك الارتباط بين الحركة الاسلامية والانقاذ. فهو يكتب: (وكان العسكريون في السنوات الاولى مطيعين لقيادة الحركة لا يطعمون في اكثر من تبليغهم بالقرار قبل اعلانه للناس! فقيادة الحركة مسؤولة سياسيا وادبيا عن الانقلاب الذي اودى بالحياة الديمقراطية وعن كل سياساته بما فيها من اخطاء وموبقات في حق المواطنين، مثل الاحالة الى الصالح العام والسجن والملاحقة والتعذيب ومصادرة الممتلكات والقتل وكبت الحريات والعبث بالمال العام). (البيان الاماراتية 2002/11/13) . ولكن عندما شبّ العسكريون عن الطوق - حسب قوله حرفيا - ظهرت الخلافات بين قيادات الحركة وانحاز بعضهم للجيش: (وغاب الجسم المؤسسي الذي يمكن ان يفصل في تلك الخلافات، اعلن العسكريون تمردهم على قيادة الحركة). وترتب على ذلك التطورات الدراماتيكية المعروفة. ولكن المهم في الامر انه ما عادت الحركة هي صاحبة القرار والكلمة، واصبحت (حزب الحكومة) وليس الحزب الحاكم، رغم وجود كثير من قياداتها السابقة في مؤسسات الحزب.
ويصف ابراهيم ما يقوم به زين العابدين بانه محاولة لاعادة الحركة الى براءتها وبريقها السابق، وذلك من خلال تأكيد ان (النظام الاسلامي نظام اخلاقي في المقام الاول)، فهو لذلك لا يقبل اي انتهاك لحقوق الانسان. وبسبب الممارسات الانقاذية التي اساءت لكرامة المواطن السوداني يدعو الى ان تفك الحركة ارتباطها بحكومة الانقاذ، وتعلن نفسها حزبا سياسيا مستقلا يتخذ مواقفه حسب قناعاته وطبيعة الحدث، ويكتب : (ولا ينبغي الجمع بين عضوية حزب الحركة وحزب الحكومة، بل من الافضل الا يكون لقيادات حكومية مواقع امامية في حزب الحركة حتى ولو تخلوا عن عضوية المؤتمر الوطني (...) وهذا الوضع يجعل الحكومة في حل ان تتبع من السياسات ما تشاء دون ان تضطر للحديث بلسانين، لسان للمجتمع الدولي الذي يهددها بالعقوبات ولسان لشباب الحركة الاسلامية الذي تدفع به الى محرقة الجنوب).
ويقول ان (زين العبادين) يحاول الدفاع عن الاتهامات القائلة بأن الحركات الاسلامية لا تملك برامج سياسية مفصلة لحل المشاكل الواقعية التي يعاني منها الناس، ولذلك فهي ترفع شعارات شديدة العمومية، مثل: الاسلام هو الحل، او القرآن دستورنا. كما لم تحدد مواقف فكرية وعملية واضحة من قضايا، مثل: المرأة، حقوق الانسان، العدالة الاجتماعية، الاقليات غير المسلمة، والعلاقة مع الآخر المختلف. ولكنه يعترف بعدم وجود رؤية واضحة تجاه هذه القضايا. ويطالب الحركة الاسلامية (... وكمقدمة لتوجه الحركة الاسلامية في السير على طريق توضيح رؤاها في مشكلة الحكم ينبغي ان تتخذ لها اسما يلخص هدفها السياسي)، ويقترح على الحركة الاسلامية السودانية اسم : (الحزب الاسلامي الديمقراطي الاجتماعي).
ويتحدث حيدر ابراهيم عن ان كثير من الاسلاميين اغتروا بالشعبوية - الاسلامية، وغضوا الطرف عن قصورها الفكري والسياسي. ويرجع (زين العابدين) فشل تجربتين الى ظروف خارجية احاطت بالنشأة، ففي افغانستان ظهرت حركة طالبان في مجتمع متخلف جدا، ولكن للمفارقة هذا هو سبب (نجاحها) وانتشارها، لأن فكرها هو المطلوب في ذلك المجتمع! وارجع الخيبة في السودان الى ان التجربة جاءت في معادلة انقلاب عسكري، ونسي ان كل تجارب تطبيق الاسلام قام بها الانقلابيون، وفشلت في المجئ عن طريق الانتخابات رغم قطع الطريق امام وصولهم ديمقراطيا كما كان في الجزائر. ويقول بضرورة التجديد مها كانت الملابسات، وفي نفس الوقت لابد من الابتعاد من الشعارات العامة التي اثبتت التجارب عدم صلاحيتها، مثل: الاسلام هو الحل، وتطبيق الشريعة، وغيرها، لأنها غير محددة، فهو يسأل: (ما المقصود بتطبيق الشريعة الاسلامية؟ وكيف ستتعامل فيها مع الآخرين؟ وما هو رأيك حول ممارسة الحرية؟ اين يمكن ان نجد نظاما يؤطر لهذا الامر؟ ثم اين يمكن ان تجد الاطار نفسه؟ ويرى ان هناك خوفا من الاجتهاد باعتبار انه سيبعد الناس عن هذا الحركات . لذلك تتركهم الحركات (خاما) وتفضل ايمان العجائز، خشية ظهور مطالب - كما يقول - بالديمقراطية مثلا، وهنا سوف يرفضك بعض الناس، ومجرد الدخول في مثل هذه التفاصيل سيقود للتفريق وستبرز شعارات حقوق الانسان وحقوق المرأة وغيرها، ويصبح الامر قابلا للتفكيك، ولذلك فالحركات الاسلامية لا تزال ترفع الشعارات العامة حتى يلتف حولها الناس، وهذا اسلوب لم يعد مقنعا. (نفس المصدر). ويقترح على الحركات ضرورة الانتقال من الشعارات العامة الى برامج واضحة ومحددة. ولكن القيادات تجد في هذا المنهج طريقة سهلة في كسب الاتباع والمؤيدين المخلصين. ويتحدث (زين العابدين) عن نموذج مثالي لن تغامر حركات الاسلام السياسي بالتخلي عنه في العمل اليومي.
غازي صلاح الدين .. هاملت الاسلامويين
في تناوله لما يكتبه الدكتور غازي صلاح الدين يشير الدكتور حيدر ابراهيم الى ان (غازي صلاح الدين) يقدم نفسه، أو يفضل أن يصنّف كمفكر ومنظّر وصاحب رأي متجدد أكثر منه كتنفيذي أو حركي أو مفوض. ولكن الظروف كثيراً ما حرمته من هذه الرغبة أو الأمنية، فتغلب الدور العملي مرات كثيرة على ما يتمناه. فهو مقاتل في عملية غزو 1976، وحركي كأمين عام للمؤتمر الوطني، ثم مفاوض للجنوب، ثم حالياً لدارفور. وهكذا لا يجد المفكر الممكن أو المحتمل الوقت والمزاج للكتابة والتأليف وتخلو المكتبة السودانية من كتاب أو اصدارة لغازي. ولكن هذا القصور أو التقصير يعود لأسباب كامنة في شخصية (غازي) تتناقض مع خصائل ومقومات المفكر. فهو اقصائي لا يقبل الاختلاف، وذاتي يشخصن الأمور مما قد يدخله في طاؤوسية واعجاب غير مبرر بالنفس اللّوامة والأمّارة بالسوء مما يحجب عنه رؤية أخطائه. ولذلك، لو جرحت ذاته النرجسية، فهو يفجر في العداوة، وقد فعلها مع شيخه الترابي وكسب استياء الجميع. ويعلق أحد الكتاب على حملة الحكومة الشعواء على الترابي عقب المفاصلة، وقد قادها (غازي): "وقد تولى كبر تلك الحملة أمين القطاع السياسي في المؤتمر الوطني ووزير الاعلام حينها غازي صلاح الدين الذي خسر تعاطف الناس معه بجرأته على شيخه وأستاذه التي تجاوزت كل عرف سوداني، خصوصاً أن الخصومات السياسة نسبية لا يتطرف فيها الفرد، وانما يترك مساحة للرجعي والظروف (عبدالرحيم عمر، ص 485) وشكا احمد عبدالرحمن: (حتى غازي صلاح الدين ويس عابدين والسنوسي كلهم كانوا ضدنا لأن الترابي حرضهم علينا. (المصدر السابق، ص 586) والتحريض دليل عدم الاستقلالية وقد ظل شبح الترابي مهيمنا عليه حتى بعد الفراق. ومن صغائره ان ابعاده عن امانة المؤتمر الوطني شكل كثيرا من مواقفه (الفكرية) (المصدر السابق، ص 607). ويبدو ان الندم قد حاصره فبادر بتبادل الرسائل مع شيخه المقيم في داخله، فقد ترك حضانته ولكنها لم تتركه ولازمته كالظل. ويعتبر الكثيرون ان (غازي) كان اكثر الناس ارتباكا نتيجة انشقاق الحركة، ورغم انحيازه الى المؤتمر الوطني، الا انه غير مرتاح لهذا الخيار، اذ لا يرى فيه اكثر من هيمنة عسكرية وصراع اجيال، نفس المصدر السابق، ص 618.
ثم يتحدث حيدر ابراهيم عن ان (غازي) ساهم مبكرا في عملية المراجعة والنقد، وكان ذلك في الندوة الشهيرة التي عقدتها (هيئة الاعمال الفكرية) تحت عنوان:(الحركة الاسلامية - كسب الماضي وآفاق المستقبل)، في الحادي عشر من اكتوبر 2002 وقدم الورقة الرئيسية. ويضم حيدر (غازي) الى زمرة الاسلامويين السودانيين الذين آلوا على انفسهم القيام بمهمة صناعة المبررات وليس المسببات، وبالتالي تتم تعمية الرؤية وعدم تبين الاخطاء لاصلاحها. ويقول ان (غازي) الذي يبدو عميقا ومتأملا، إلا ان مهمة التبرير الشاقة تورطه في البحث عن مخارج وحيل فكرية، هي في كثير من الأحيان غير صحيحة ومختلقة. لذلك، تجيء طروحاته ومداخلاته مغرقة في التعصب، مع أنه الدبلوماسي المفاوض وبالتالي المرن. فهو ــ مثلا- يخرج عن الاجماع الاسلاموي الذي يعترف بالضعف الفكري ويحاول تفسيره ثم إصلاحه. ولكن (غازي) الباحث الدؤوب عن المبررات، يرد على سؤال عن الضعف الفكري، بقوله: (ليس هناك ضعف فكري، فالحركة الاسلامية على وجه الخصوص، على ما يمكن ان تنتقد به كانت من اكثر الحركات التي ساهمت اسهامات فكرية جادة، ورغم انها ضعفت في الفترة الاخيرة، فإنها قدمت نماذج اصبحت معتمدة عالميا). ( وليد الطيب، 173:2009) ويقول ابراهيم ان هذه الجملة القصيرة تضم مغالطتين: ليست ضعيفة وضعفت في الفترة الاخيرة، ولنلاحظ ان الفترة الاخيرة هي فترة (التمكين)، حيث يفترض ان الحركة وهي ممسكة بالسلطة يكون لديها مدخلات مادية وروحية ومعنوية، تجعلها ــ منطقيا - اكثر قوة. اما النماذج (المعتمدة عالميا)، ولا ادري من الذي يقوم بمهمة الاعتماد فهي تجربة الاقتصاد الاسلامي وتجربة العمل الجبهوي مع القوى غير الاسلامية. وهنا يخلط (غازي) متعمدا ليطور (جهاز مفاهيم التبرير) بين النموذج العملي (الممارسة) وبين النموذج النظري (الفكر)، فنحن في هذه الحالة نطالبه بيبلوغرافيا او قائمة بمنشورات الحركة الاسلامية الخاصة لموضوعي الاقتصاد الاسلامي والعمل الجبهوي.
ويشير ابراهيم الى ان غازي يلجأ الى آلية اخرى في عملية دعم جهازه المفاهيمي لتبرير الاخطاء. فقد تكررت الاسئلة التي تبدأ بالسؤال عن السند الشرعي في قضايا سياسية آنية، مثل : ما هو السند الشرعي الذي اعتمدتم عليه في قتل مدبري انقلاب رمضان 1990؟ ويحلق هنا فوق كل ضروات الصراع السياسي المدنسة ليجعل من الجريمة صراعا بين الاسلام والعلمانية، او بين الخير والشر، إذ يقول: (... فقد كان انقلابا على مؤسسة بواسطة عناصر شيوعية او علمانية، والنظام كان يعتمد بأنه يقوم على فكر اسلامي (...) وقد عدّ القائمون على الامر هؤلاء (خوارج!) وسرت عليهم الأحكام التي حكمها القضاة يومذاك. ولا ادري هل هم خوارج فجر الاسلام ام خوارج الجنوب حسب لغة العسكريين؟ وتكررت اسئلة السند الشرعي، ويتجرأ (غازي) بالرد عليها وهي ردود سياسية سيّارة عاطلة من اي شرع. مثال للأسئلة: ما هو السند الشرعي الذي اسستم عليه خروجكم المسلح على الرئيس النميري في عام 1976؟ ثم: ما هو السند الشرعي الذي بررتم به خروجكم على الحاكم في 1989؟ ويجئ الرد - بالطبع - سياسيا ولكنه يستدرك بنفسه، فيقول حرفيا: (قد يكون ما ذكرته لا يتضمن اشارة لنصوص شرعية فيما سبق، ولكن الخلاف كان في (دالة) اقامة الصلاة، وهو المؤشر المتفق عليه شرعا (ما اقاموا فيكم الصلاة) فالحركة الاسلامية كانت ترى ان النظام يمثل حالة من الطغيان، واتجه لمحاصرة العمل الاسلامي (الدعوة) خاصة انه - اي النظام - جاء بوسائل غير متفق عليها او غير شرعية، اذا تجاوز حدا معينا فهو عندها كمنع الصلاة ويفتقد الشرعية). ولنا ان نتخيل ان الحكومة التي تتكون من ائتلاف السيدين المهدي والميرغني، تمنع الصلاة بأي معنى رمزي، علما بأن الجبهة الاسلامية كانت مشاركة في السلطة، ولا يتوانى (غازي) عن توظيف القرآن والتاريخ الاسلامي والتراث بهدف دعم منهجه التبريري. فالجميع يلاحظ ماذا فعلت الحركة بالوطن والدولة والإنسان السوداني دون حاجة الى كثير ذكاء. ولكن حين سئل: هل ترهلت الحركة الاسلامية واصبحت مرتعا للوصوليين والانتهازيين ممن يقدمون اذا اقبلت السلطة وينفضون اذا أدبرت؟ يرد (غازي) بثقة عجيبة: (حتى لا يصيب الإحباط ، فهناك سنة كونية في القرآن: إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا. فالنصر الاول في العهد النبوي جاء بأصناف كثيرة جدا لم تكن في مستوى الجيل الاول، جيل ما قبل الفتح، فأي نصر ولا سيما إن كان الوصول الى السلطة، سيأتيك بطوائف من هولاء، ولكن لا ينبغي ان نفقد الثقة في انفسنا، وقد ظلت التجارب الاسلامية منذ عهدها الأول تعتمد على ثلة وطليعة ملتزمة، وحولها تجد كل الأشكال والدرجات، وفيها المنافق). وقد دخل (غازي) في قياس فاسد حين قارن: (الفتح) و (نصر الله) بانقلاب او مؤامرة تمت بليل على الديمقراطية. والمقارنة خاطئة ولا تاريخية، فهم ليسوا انصار النبي (ص) ولا بقية السودانيين الكفار والجاهلية. ومن الذي قال بأنه من سنن الكون أن يتقدم الانتهازيون الصفوف عند كل نصر؟ ولكنه يستدرك - كالعادة - متأخرا، فيقول : (أنا لا ادافع عن وجود الانتهازيين، ولكن اقول إن اصحاب الحاجات والاغراض، يهرعون دائما الى مواطن الغنيمة، وهذا شئ طبيعي ولا يزعجني، ولكن يقلقني اذا اصبحت السمة الغالبة هي الانتهازية، وانعدم من يعملون بإخلاص من أجل الآخرة). (ص168) . ويحاول (غازي) تبرئة رفاقه وحزبه، ولكن من أجل ذلك يجعل من الانتهازية (شيئا طبيعيا) عندما تظهر الغنيمة، مع أن عنترة الجاهلي يعف عند المغنم، ولا يعتقد أن الاغلبية انحرفت، وكأنه لا يقرأ تقرير المرجع العام الدوري ولا العمارات الشاهقة التي بناها صغار الموظفين.

حسن مكي ومنهج الغرائبية
يشير ابراهيم في مراجعته للدكتور حسن مكي الى ان قلمه بدأ مبكرا في النقد. حيث استهل هجومه بالشيخ نفسه، وكأن لسان حاله يقول بأنه سيغامر ولن يقنع بما دون النجوم. وقد اكسبته هذا الجرأة اهتماما وموقعا رغم ان ذلك كان علي حساب العمق والتأمل. فهو عندما يتحدث يبحث عما يريده مستمعه ان يقول. ويلاحظ ان (مكي) يستهل تحليلاته بالواقعية السحرية، ويستشهد بما قاله لاحدى الصحف (والله الانقاذ هذه كالدبيب رأسه الترابي انقطع. فالانقاذ الآن مثل السفينة عندها ربان وملاحون.. فالربان الآن لا يؤدي دوره والربان الثاني هو المسيطر ولكن له مشاكل مع البحارة او مع الربان الاول فهل سيسمح له بالقيادة ام سيأخذها الربان الاول، ام البحارة سيتخلصون من الاثنين؟) ويسجل ابراهيم ملاحظة اخرى حيث كان (مكي) كثير الطلة ومنتشرا في العديد من المنابر والمناسبات ووسائل الاعلام ليستنتج منها ان ذلك ربما كان مما يفقده التركيز نفسه او اللجوء للشطحات والغرائبية والى تصريحات ينطبق عليها: (ما قالها زول وما اظن يقولها ورأى بشر ). ويقول انه بسبب هذا المنهج جاءت آراؤه اقرب الي الانطباعية والسجالية وردود الفعل الآنية.. او اشبه بالمادة الخام التي تقدم مصدرا مهما للكشف عن عيوب واخطاء الحركة الاسلامية.. ولكنه للأسف لا يسعف القارئ بنظرية او مفاهيم جديدة، يكتب مكي بلا تردد النقد التالي والذي يطال تغيير زعامة الترابي وشكل الحزب، يقول (يبدو لي ان الحركة الاسلامية او الحركات الاسلامية واحد من اخطائها انها احيانا تشبه الطرق الصوفية في انها تتصور مخلص سواء كان هذا الشخص هو الشيخ او القوي او الملهم او المخلص او المهدي او الختم، بينما ينبغي ان تستفيد الحركات الاسلامية من التراث والحداثة ومن فقه السياسة، وهذا تراث انساني) ويعتقد مكي ان الحركة الاسلامية السودانية في البداية ادركت هذه الحقيقة لذلك اختارت الدكتور الترابي (الحداثي) القادم من باريس، ولكنها لم تستطع معه صبرا، فعادت الي ما هو اسوأ: التحول الى المؤتمر الوطني، والذي يكتب عنه (المؤتمر الوطني غير قادر على خطاب المدنية والحداثة.. الآن اين صوت اعلام المؤتمر الوطني؟ واين صوته الفكري؟ واين منتدياته السياسية ومدارسه؟ واين مدارس اطره وكوادره؟ بل كثير من لوازم المؤتمر الوطني مجهولة: تمويله، تأصيله، علاقته الداخلية والخارجية).. (نفس المصدر السابق). ويجيب على سؤال استرجاعي: هل كان للحركة الاسلامية منهج ثابت؟ يقول: (لم يكن هنالك منهج ثابت، لأنه في كل الفترة السابقة كان المطلوب اقامة الدولة كما تراها المرجعية الممثلة في الشيخ الترابي ولم يكن هناك منهج ثابت). ويواصل حين سئل عن النتائج: (... فعدم وجود لوائح ودستور ومحاسبة، فالمحاسبة اصلا لم تكن موجودة: فمن يحاسب من؟ كل ذلك ادى الى ظهور مشكلات.. لأن الحركة الاسلامية في فترة لم تكن معروفة، في فترة الانشقاق كان يفترض سحب الشرعية من الترابي واقامة تفويض جديدة).
يقول (مكي) بأن: (خطاب الحركة الاسلامية في المرحلة الحالية يتأثر بثلاثة عوامل: اولها المهدد الخارجي، وهذا ما جعل الناس تلتف حولها بصورة واضحة، المهدد الداخلي، والمتمثل في القبلية والجهوية، ثم اخيرا مشكلة الفقر). ويعتقد ان اهم اشكال يواجه الحركة، هو ان الولاء تحول فيها من الافكار والتنظيم للاشخاص، والسبب في ذلك طلب السلطة والتي فيها المال والجاه، ويرى ان الولاء للشخص اصبح مهما جدا (لأنه مفتاح للوصول الى المال والسلطة والوظيفة وغيرها، ولذلك حدث تغيير نوعي في البنية الفكرية التي تقوم عليها الحركة الاسلامية). ونتج عن هذا التغيير تحول الحركة الى كتل ومراكز، وتوزعت الاسرار والمعلومات حسب المجموعات ومراكز القوى والولاءات المختلفة. وقد اصبح الاصلاح صعبا بسبب تكريس المصالح وتبلور المراكز. ولكنه ليس يائسا، شرط ان تتغير القيادات كبيرة السن ويتقدم الشباب للقيادة ، ويضيف الى ذلك حل مشكلة الفقر، لأنه يدفع الشباب الي التطرف.

attagi@hotmail.com

 

آراء