هيلْدا جونسون (3/5): بسط السلام في السودان
أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
21 June, 2011
21 June, 2011
القصة الخفيَّة للمفاوضات التي أنهت أطول حرب أهليَّة في إفريقيا
" آليات التفاوض ودور الوسيط النرويجي"
أحمد إبراهيم أبوشوك
تناولنا في الحلقة الثانية من مراجعة كتاب السيدة هيلدا جونسون القصة الخفيَّة للقاء الأستاذ علي عثمان بالدكتور جون قرنق، وشرحنا الظروف والملابسات التي أفضت لتحقيق ذلك اللقاء، حسب رؤية المؤلفة، التي كانت وسيطاً فاعلاً بين "محارب الحرية" و"الإسلامي الحذر". وننتقل في هذه الحلقة الثالثة إلى الحديث عن دور الوزيرة هيلدا جونسون في مفاوضات اتفاقيَّة السلام الشامل لسنة 2005م، وآليات التفاوض التي استُخدمت في نيفاشا. ونسبق هذا العرض والتحليل بمقدمة موجزة عن تاريخ طريق المفاوضات الواصل بين أديس أبابا (1989م) ونيفاشا (2005م)، علها تعيننا في استيعاب دور الوسيط النرويجي الذي عرضته المؤلفة في ثنايا كتابها، والظروف السياسية التي أحاطت بمناخ تلك المفاوضات، وجعلته صالحاً لحركة الوسيط الدائبة في تسهيل عملية التفاوض، وتقريب وجهات النظر بين الرأي والرأي الآخر.
الطريق بين أديس أبابا ونيفاشا
تتبعت السيدة هيلدا جونسون المراحل التي مرت بها عملية السلام في عهد حكومة الإنقاذ ابتداءً بجولة المفاوضات الأولى والمباشرة التي عُقدت في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في أغسطس 1989م، ولكنها لم تكلل بالنجاح؛ ثم أعقبتها الجولة الثانية في العاصمة الكينية نيروبي بوساطة الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، والرئيس الكيني دانيال آراب موي (Daniel Arap Moi)، وذلك في ديسمبر 1989م؛ إلا أنها لم تؤد إلى اتفاق بين الطرفين؛ لأن وفد الخرطوم، حسب وقائع المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس كارتر، لم يكن مفوَّضاً لاتخاذ موقف من المبادرة التي طرحها الوسيط الأمريكي، الذي اتهمته حكومة الخرطوم بالتحيز للحركة الشعبية لتحرير السودان. وفي أثناء تصاعد حِدّةُ الحرب بين الطرفين سجالاً لمدَّةِ عامين، ضعفت كفَّة الحركة الشعبية لتحرير السودان، نتيجة لسقوط نظام الحكم الماركسي بقيادة مغنستو هايل ماريام (Mangesto Haile Mariam)، وبذلك فقدت الحركة الشعبية أهم قواعدها السياسية والعسكرية في إثيوبيا؛ علماً بأن الحركة الانقلابية البديلة، بقيادة ملس زناوي (Meles Zenawi)، كانت حليفاً لحكومة السودان. وأعقب ذلك انقسام الحركة الشعبية نفسها إلى فصلين قبليين، هما فصيل توريت الأصل الذي كان يقوده جون قرنق، ويدعو إلى وحدة السودان تحت شعار السودان الجديد، وفصيل الناصر المكون من قبائل الشلك والنوير تحت زعامة رياك مشار ولام أكول أجاوين، والذي كان يدعو إلى فصل جنوب السودان عن شماله. استقلَّت حكومة السودان هذا الانشقاق، وكثَّفت عملياتها العسكرية في جنوب السودان والجبهة الإثيوبية، وشرعت في التفاوض مع جناح الناصر، الذي طالب بانفصال جنوب السودان عن شماله، متعللاً بعدم صلاحية وحدة السودان في ظلِّ توجهات حكومة الإنقاذ الوطني الإسلامية. وإضعافاً لموقف فصيل الناصر تبنت الحركة الشعبية لتحرير السودان (توريت) حقَّ تقرير المصير في إعلان توريت الصادر في سبتمبر عام 1991م، كخيار مقابل لخيار الوحدة في إطار السودان العلماني الجديد. ثم بعد ذلك بدأ حقُّ تقرير المصير يأخذ بُعداً تفاوضيّاً في اتفاق فرانكفورت في يناير 1992م، الذي أقرَّ حقَّ الجنوبيين في تقرير مصيرهم عبر استفتاء عام يُجرى في جنوب السودان بعد فترة انتقالية فيدرالية تقدر بخمسة عشر عاماً. ويبدو أن هدف الحكومة في تضمين حقِّ تقرير المصير في اتفاقية فرانكفورت يتمثل في "تعميق الانشقاق وسط الحركة، وتقديم الدعم للمنشقين"، ولا يعني أن الحكومة كانت جادَّة في طرح ذلك المطلب العصي في تلك المرحلة المبكرة من عمر المفاوضات، ويؤكّد ذلك قول اللواء محمد عبد الله عويضة، الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة، معلقاً على بنود الاتفاقية: "إن الاستفتاء لا يعني سوى تعزيز الفيدرالية المقترحة أو إلغائها، أما الانفصال فهو احتمال غير وارد مطلقاً بعد كلّ هذه التضحيات والدماء."
وبعد أربعة أشهر من اتفاق فرانكفورت جاءت مفاوضات أبوجا في 26 مايو إلى 4 يونيو 1992م، حيث حضرها جناحَا الحركة الشعبية، ممثلين في وفدين منفصلين، ناقشاَ مع وفد الحكومة العديد من القضايا، أبرزها قضية الدين والدولة، والنظام الفدرالي لحكم السودان، ووضعية جنوب السودان في ظلِّ النظام الفيدرالي، ولكن الطرفين لم يتوصلاَ إلى اتفاق. وعندما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود قرر وفداَ الحركة الشعبية لتحرير السودان الاندماج في وفد واحد، وطالباَ بحقِّ تقرير مصير السودان كحلٍّ جذري للأزمة القائمة بين شطري القُطر الواحد؛ إلا أن زعيم الحركة الشعبية، جون قرنق، رفض فكرة توحيد وفدي الحركة والمطالبة بتقرير المصير، الأمر الذي أفضى إلى انسلاخ مجموعة من وفده الممثل في أبوجا بقيادة وليم نيانق، وانضمامها إلى فصيل الناصر. وفي ظل هذا التناحر الداخلي سيطرت القوات المسلحة السودانية على مدينة توريت، وبموجب ذلك انفضت جولة المفاوضات الثانية في أبوجا التي عقدت في مايو 1993م دون أن يحرز الطرفان أي تقدم سياسي محسوس.
وبعد انهيار مفاوضات أبوجا الثانية في نيروبي، والإطاحة بنظام بابنجيدا في نيجيريا انتهت حلقة الوساطة النيجرية، وظهرت الهيئة الحكومية المشتركة للتنمية (إيقاد) وسيطاً جديداً، وبدأت جلسة مفاوضاتها الأولى في 17-23 مارس 1994م؛ إلا أنها لم تحقق نجاحاً ملموساً، لكنها مهدت الطريق للجولة الثانية التي عُقدت في مايو 1994م، وشهدت طرح مشروع منظمة إيقاد التفاوضي، الذي عُرف فيما بعد بـ"إعلان المبادئ"؛ لأنه أمَّن على أولوية المحافظة على وحدة السودان في إطار "دولة ديمقراطية علمانية، تكفل حُرَّية الاعتقاد والعبادة لكلِّ المواطنين السودانيين"، وأقرَّ حقَّ تقرير المصير على أساس الفيدرالية أو الحكم الذاتي "لمواطني جنوب السودان؛ لتحديد وضعهم المستقبلي عن طريق الاستفتاء"؛ إلا أن حكومة جمهورية السودان رفضت الاعتراف بإعلان المبادئ، ولم توقع عليه إلا في 9 يوليو 1997م، بحجة أنه يدعو إلى قيام دولة علمانية في السودان، وينادي بفصل الدين عن الدولة، فيما قبلته الحركة الشعبية لتحرير السودان، واعترفت به أساساً مرجعيّاً للتفاوض.
وعندما وصل الطرفان إلى طريق مسدود، نتيجة رفض الحكومة السودانية لمقترح إعلان المبادئ الذي طرحته منظمة إيقاد تصاعدت حركة الإعلام الغربي والمنظمات الإنسانية ضدَّ حكومة الخرطوم، التي وصفها السيناتور الجمهوري، فرانك وولف (Frank Wolf)، في خطابه المؤرخ في 3 نوفمبر 1994م إلى الرئيس كلينتون بأنها في "حرب مع شعبها، وأنَّ الاقتصاد السُّوداني لمنهار، وأنَّ حياة المواطن العادي في الخرطوم لتعيسة، ولا تزال منظمة العفو الدوليَّة تصدر تقاريرها عن الاعتقالات التعسفية، وأحوال المعتقلات في جميع أرجاء البلاد." واقترح على الإدارة الأمريكية أن تقوم بوضع مُسوَّدة قرار لمجلس الأمن، يقضي بفرض حظر دولي على السُّودان، وبوقف إعادة قبول عضويَّته في صندوق النقد الدولي؛ وأن يرفض المبعوث الأمريكي الخاصّ، ميليسا ويلس (Melissa Wells)، الحديث المباشر مع الحكومة السُّودانيَّة إذا لم تُظهر الأخيرة رغبتها في احترام حقوق الإنسان، والانصياع لقوانين الحرب كما نصَّت عليها المواثيق والأعراف الدوليَّة.
وفي ظلِّ هذا الضغط الأمريكي تأزمت علاقة الحكومة السودانية مع دول الجوار الإفريقي، وتصاعد نشاط المعارضة الشمالية والحركة الشعبية إلى أن بلغ ذروته السياسية في مؤتمر القضايا المصيرية الذي نظَّمَهُ التجمع الوطني الديمقراطي في مدينة أسمرا في الفترة من 15 إلى 23 يونيو 1995م، حيث تمَّ الاتفاق على المبادئ المتعلقة بإنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان، و"تأكيد مبدأ حق تقرير المصير كحق أصيل وأساسي وديمقراطي للشعوب"، واحتج المؤتمرون بأن ممارسته ستُوفر حلاً لإنهاء الحرب الأهلية الدائرة، وتُسهل استعادة وترسيخ الديمقراطية والسلام والتنمية."
وفي الاتجاه المعاكس أولت الحكومة في الخرطوم اهتماماً بالغاً لعمليَّة "السلام من الداخل"، حيث أنها وقعت اتفاقية الخرطوم للسلام في 21 أبريل 1997م مع حركة استقلال جنوب السودان بقيادة رياك مشار، والحركة الشعبية مجموعة بحر الغزال بقيادة كاربينو كوانين؛ ثم أردفت ذلك بتوقيع اتفاقية فشودة في 20 سبتمبر 1997م مع مجموعة الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان-الفصيل المتحد بقيادة لام أكول أجاوين. ثم حاولت الحكومة أن تجد لنفسها مخرجاً سياسيّاً آخر بإصدار دستور جمهورية السودان لسنة 1998م، الذي كان يهدف إلى وضع خارطة طريق لتحديد معالم نظام الحكم، ومسار التحول الديمقراطي وفق رؤية الحكومة ونظام التوالي والتنظيم الذي ابتدعته.
وفي هذه الظروف العسيرة من المفاوضات وحركة المد والجزر بين أطرافها، ظهر نوع من التململ في الوسط العربي الذي شعر بهامشية دوره في المفاوضات الجارية بشأن مستقبل السودان، فضلاً عن الصراع السياسي الخفي الذي تفشى بين قطاعات التجمع الوطني الديمقراطي. وتجلت إفرازات ذلك الوقع المأزوم في المبادرة الليبية-المصرية لعام 1999م، ونداء الوطن الذي وقعه الرئيس عمر البشير مع السيد الصادق المهدي في جيبوتي في 25 نوفمبر 1999م. فلا جدال أن هذه المبادرات قد ناقشت آليات الحلِّ السياسي في السودان، وأقرَّتْ نظام الحكم الديمقراطي-الفيدرالي، وتعرضت لقضية حقِّ تقرير المصير من زوايا مختلفة، أو سكتت عنها كليّاً؛ بَيْدَ أنها لم تحقق نجاحاً ملموساً على صعيد الواقع، فكانت الكفَّة الراجحة للإدارة الأمريكية في تفعيل التفاوض بين الطرفين.
وبناءً على موقفها الراجح في دعم المفاوضات السودانية طلبت الإدارة الأمريكية من مركز الدراسات الاستراتيجيَّة والعالمية بواشنطن إعداد تصور لدعم السَّلام في السُّودان، وقد صاغ ذلك التصور فرانسيس دينج (Francis Deng)، وستيفين موريسون (Stephen Morris)، فجاءت توصياتهما بأن تتخذ الإدارة الأمريكيَّة خطوات ثنائية، تتمثل في إعادة التمثيل الدبلوماسي، وتعيين مبعوث خاصّ للسُّودان، وتعيين شخصيَّة على مستوى عالٍ تكون حلقة وصل بين الحكومة الأمريكيَّة، وحركة التمرُّد، والفصائل الجنوبيَّة. وتزامن تقديم هذا التصور مع المفاوضات التي جَرَتْ بين حزب المؤتمر الشعبي المنشق عن المؤتمر الوطني الحاكم، والحركة الشعبية لتحرير السودان، ووضعت مذكرة تفاهم لحلِّ المشكل السوداني. ويبدو أن هذه التطورات مجتمعة قد دفعت الحكومة إلى إعادة النظر بشأن علاقاتها مع الإدارة الأمريكية، وكيفية دفع مسار المفاوضات مع الحركة إلى الأمام. وبدأت الخطوة الإيجابية في هذا الاتجاه بالتعاون الذي أبدته الحكومة السودانية مع الإدارة الأمريكية بشأن محاربة الإرهاب الدولي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م. واستعملت الإدارة الأمريكية في هذا الشأن سياسة "العصا والجزرة" مع الخرطوم، حيث إنها قدمت مقترحاً إلى مجلس الأمن الدولي يقضي برفع العقوبات عن السودان، وسحب اسمه من الدول الراعية للإرهاب، وفي الوقت نفسه أجاز الكونغرس الأمريكي قانون سلام السودان في 10 أكتوبر 2002م، والذي يقضي بحثّ الولايات المتحدة الأمريكية على "أن تتخذ كافّةَ الوسائل المتاحة للوصول إلى حلِّ شامل للحرب في السودان، بما في ذلك توسيع أساليب الضغط الاقتصادية والدبلوماسية على حكومة السودان، للدخول بعزيمة صادقة في عمليَّة السلام." ويبدو أن هذا الواقع قد دفع السيدة هيلدا جونسون إلى أن تعوِّل على أحداث سبتمبر وانشاق المؤتمر الوطني باعتبارهما حدثين مهمين أسهما في تعجيل عملية المفاوضات، وعضدت ذلك الزعم بقول النائب الأول: "إن الترابي لو كان في السُلطة لما تحقق السلام في الجنوب." (ص. 14)
وبناءً على خطى التوجه الأمريكي المندفعة صوب تعزيز مفاوضات السلام القائمة على إعلان المبادئ الذي طرحته منظمة إيقاد، تعاظم دور المبعوث الرئاسي لواشنطن في السودان، السيناتور الجمهوري جون دانفورث (John Danforth)، الذي قدَّم مقترحاً عمليّاً، أسهم في وقف إطلاق النار في جنوب كردفان (جبال النوبة)، ثم أردف ذلك بتقريره الشهير الذي قدمه إلى الرئيس جورج بوش في أبريل 2002م، وخلص فيه إلى "أنه يتعذر على أي طرف أن يكسب الحرب" في جنوب السودان، وإنه لا مناصَ من مسعى دولي لتحقيق تسوية لذلك الصراع. وأكَّد في ذلك التقرير أن للولايات المتحدة مصالح استراتيجية واقتصادية حيوية في السودان، بما يتطلب وقف الحرب، وواضح أن فصل السودان إلى شمال وجنوب هو حلّ غير واقعي لمشكلة الحرب الأهلية، ولن يقود إلى سلام مستدام. ووصى على ضرورة توفير آليات لضمان الحقوق السياسية، والدينية، والمدنية في إطار دولة موحَّدة. واقترح صياغة اتفاق شامل يقضي بإقامة دولة موحَّدة صورية في السودان، ونظامين للحكم في شمال السودان وجنوبه، مع استقلال الجنوب عن الشمال من الناحية الاقتصادية، وشؤون الحكم الداخلي، وضمان الحريتين الدينية والثقافية، والتوزيع العادل للموارد النفطية، وتقاسم السلطات بين الحكومة المركزية، والحكومات الإقليمية.
ولا شكّ أن هذا التقرير مصحوب بالنفوذ الأمريكي وأصدقاء إيقاد والترويكا، قد مهد الطريق لإجراء مفاوضات متواصلة بين حكومة جمهورية السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان، بدأت تلك المفاوضات في 17 يونيو 2002م بمشاكوس، وبرعاية الهيئة الحكومية المشتركة للتنمية (إيقاد)، وسكرتاريتها التي ترأسها الجنرل لازروث سومبيّو، وعاونه في تسير دفة المفاوضات الخبير القانوني فنك هايسوم ورهط من المستشارين. وحسب رواية السيدة هيلدا جونسون، أن الدكتور غازي صلاح الدين كان رئيساً لوفد الحكومة المفاوض، والمكون من إدريس محمد عبد القادر، ويحيي حسين بابكر، ومطرف صديق، وسيد الخطيب؛ أما وفد الحركة فكان تحت رئاسة الفريق سلفاكير مادريت، وعضوية نيال دينق ينال، ودينق ألور، وجيستن ياك، وسمسون كواجا، وباقان أموم وياسر عرمان اللذين انضما لاحقاً. ووصفت السيدة جونسون الدكتور غازي صلاح الدين بأنه سياسي ذكي، ومحاور بارع، لكنه لا يخطى بتأييد الدوائر الغربية، وأنه في حالة تنافس دائم مع الأستاذ علي عثمان. أما وضعه كرئيس للوفد المفاوض فلم يكن بارزاً للعلن؛ لأنه كان يقدم إرشاداته ويحدد مسار الوفد المفاوض من وراء حجاب. (ص 43-44). ووصفت مفاوضات مشاكوس بأنها كانت متعسرة؛ لأنها طرحت جملة من القضايا المحورية المرتبطة بعلاقة الدين والدولة، وحق تقرير المصير، وشكل نظام الحكم، وعزت نجاح تلك المفاوضات إلى الدور المحوري الذي قام الخبير فنك هايسوم، الذي أسهم في تنقيح النص المتفاوض عليه، وعرض بعض الخيارات المرتبطة بشكل الحكم وعلاقات الدين والدولة. وبعض حوار مستفيض واستئناس برأي القيادة السياسية في الخرطوم وزعامة الحركة الشعبية، والضغط الأمريكي خارج قاعات المفاوضات، وتوصل الطرفان إلى إجازة بروتوكول مشاكوس الذي تعبره المؤلفة نقطة انطلاق أسياسية في تفعيل مسار المفاوضات السودانية.
هيلدا جونسون ودور الوسيط النرويجي
إذا ما دور الوسيط النرويجي؟ نعنى بدور الوسيط النرويجي السيدة هيلدا جونسون، وذلك من خلال النصوص التي عرضتها في ثنايا كتابها موضوع المدارسة. فدورها يمكن أن يقسم إلى ثلاث حلقات. تتمثل الحلقة الأولى في تواصلها المستمر بين الدكتور جون قرنق والأستاذ علي عثمان؛ لأنها كانت تقوم بعرض وجهات النظر المختلف فيها، وطرح الحلول المقترحة في قبل الطرفين عندما يكون هناك احتقان سياسي في التفاوض. ويبدو أن الطرفين قد ثمَّنَا ذلك الدور؛ لأنهما درجَا على الاتصال بها للتدخل عندما تفضي المفاوضات بين الطرفين إلى طريق مسدود. ويبدو أن دورها كان موفقاً في هذا الشأن؛ لأنها التزمت جانب الحياد الإيجابي، وكانت جريئة في طرح القضايا الحساسة، واستنباط الحلول المبتكرة. وتتجلى الحلقة الثانية في دورها المحوري في الترويكا، وكيفية استثمارها للضغط الأمريكي في دفع مسار المفاوضات من الخارج، بدليل أنها ذكرت أن الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش، اتصل بالرئيس البشير أكثر من عشر مرات، حاثاً إياه بدفع مسار المفاوضات، وتقديم الدعم اللازم للإطروحات المقدمة من قبل سكرتارية إيقاد. أما الحلقة الثالثة فتتبلور في التوفيق بين فصائل المتفاوضين، ويظهر ذلك جلياً عندما طُرحت قضية المناطق الثلاث، وطالب زعماء الحركة في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان بأن يعاملاَ في إطار الحلول المقدمة لجنوب السودان بما في ذلك الاستيفاء؛ إلا أن هذا الطرح واجه رفضاً صريحاً من المفاوض الحكومي الذي اعتبره خروجاً عن مقررات مشاكوس، وطرحاً يفضي إلى تفكيك دولة السودان. ويبدو أن الدكتور جون قرنق كان مقنعاً بموقف الحكومة، لكن في الوقت نفسه لا يريد أن يسْتَخِفَّ بطرح حلفائه في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، بل يريد أن يستخدمهما كرت ضعف سياسي في مفاوضاته مع الحكومة. وتجاوزاً لهذه المعضلة طلب الدكتور جون قرنق من السيدة هيلدا جونسون أن تتشاور مع الزعيمين عبد العزيز الحلو ومالك عقار، وتقنعهما بمقترح المشورة الشعبية وقسمة السلطة الذي قدمه الخبير هايسوم. وفي هذا تقول السيدة جونسون أنها التقت بالحلو وعقار، وتحاورت معهما، وأقنعتهما بقبول المقترح، ووعدتهما بدعم الحكومة النرويجية للمنطقتين، وأن الدكتور قرنق قد شكرها على ذلك المسعى. (ص 133-134).
ونلحظ من جانب آخر أن وساطة السيدة جونسون بين طرفي المفاوضات جعلتها ملمةً بكثير من الأمور السياسية التي كانت تدور خلف الكواليس، ولها انعكاساتها الموجبة والسالبة على المشهد السياسي، بدليل أنها ذكرت أن الأستاذ علي عثمان حدثها صراحة بأنه يواجه معارضة شديدة داخل حزب المؤتمر الوطني، ويتجسد ذلك في قولها: "ظل طه يغادر المفاوضات [إلى الخرطوم] في بعض الأحيان؛ لأنه يواجه معارضة حقيقية. وإن خصومه أضحوا أكثر قوة، وهددوا بإضعاف نفوذه. وأنه أخبرها أن المفاوضات في الخرطوم في بعض الأحيان تكون أكثر صعوبة من المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان." (ص 143). وتعطي المؤلفة العديد من الشواهد الأخرى التي تؤكد ذلك، ونذكر منها موقف الدكتور غازي صلاح الدين المعارض لبروتوكول الترتيبات الأمنية (ص: 115)، وتعليق الدكتور قطبي المهدي المعارض لبعض التنازلات التي قدمها علي عثمان (ص 147)، فضلاً ذلك تعليقها الساخر على سؤال الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، وزير الخارجية آنذاك، بأن تفيده بنتائج لقائها مع النائب الأول (ص 111). ولا شك أن مثل هذا السؤال فيه إشارة ضمنية بأن الأستاذ علي عثمان لم يُملِّك كل الحقائق إلى وزراء الحكومة في الخرطوم، وربما يكون لذلك الإحجام مبرراته السياسية. ولكن من زاوية أخرى نلحظ أن ذلك الواقع السياسي المأزوم في الخرطوم كان له إسقاطاته على اختيار شاغلي الحقائب الوزارية من قبل المؤتمر الوطني في حكومة الوحدة الوطنية التي تصفها المؤلفة "بحكومة الشقاق الوطني"؛ إذ أنها ترى أن تشكيل الوزارة كان فيه إقصاء مقصود للذين فاوضوا في نيفاشا، بمعنى آخر أن كفَّة المعارضين لبعض بنود نيقاشا أضحت راجحة على حساب النائب الأول الذي أمسى أسير عزلة سياسية داخل حزبه الحاكم.
(يتبع: هل كاريزمية جون قرنق وعلي عثمان كانت سبباً في نجاح المفاوضات؟)
Ahmed Abushouk [ahmedabushouk62@hotmail.com]