أزمة تعاطي النخب المصرية مع السودان .. بقلم: د. حسن بشير محمد نور- الخرطوم
د. حسن بشير
25 June, 2011
25 June, 2011
المتأمل لتعاطي النخب المصرية مع الشأن السوداني يجده غائصا بين متاهات التاريخ والمأزق الاقتصادي المتفاقم. تعاني تلك النخب من سيكولوجية تكونت بين الأمجاد التاريخية العريقة والقهر المتطاول منذ عهد الفراعنة القدماء إلي "الفرعون الأخير" الرئيس المخلوع حسني مبارك. طبيعة الاستعلاء تجاه السودان يبدو أنها نابعة، مع جملة من الأسباب من وهم ثنائية الاستعمار التي أضفاها المستعمر البريطاني علي عهد سيطرته المطلقة علي السودان. استغل الانجليز الجانب المصري ووظفوه لصالحهم خاصة وان الحكم الملكي في مصر كان مرتبطا بماضي الامبرطورية التركية في السودان، التي عاشت لفترة من الزمان تحت الرعاية (الغردونية) الي حين نهايتها علي يد الثورة المهدية المجيدة.من السخف بالطبع المفاضلة بين مستعمر وأخر، إلا أن حقائق التاريخ تقول ان السلطة القائمة في مصر في نهاية القرن التاسع عشر لم تكن قادرة علي انجاز مهمة هزيمة القوات المهدية والسيطرة علي السودان، تلك المهمة التي قامت بها قوات الامبرطورية البريطانية بقيادة اللورد كتشينر في العام 1898م. في هذا الوضع نجد أن الدولة السودانية الحديثة حبلي بالثورات بعكس طبيعة الدولة المصرية التي شهدت سلطات قابضة متمكنة من القهر والتسلط لعصور موغلة في التاريخ.
في نفس الوقت الذي أطلقت الامبرطورية البريطانية (التي لا تغيب عنها الشمس) مسمي الثنائية الاستعمارية علي الوضع السوداني ، كانت تفرض هيمنتها التامة علي مصر. استمرت تلك السيطرة الي حين توقيع اتفاقية الجلاء بين مصر وبريطانيا في 19 أكتوبر 1954م، تلك الاتفاقية المبنية علي معاهدة 1936م. بالرغم من انجاز اتفاقية الجلاء إلا أنها تضمنت في ثناياها تسهيلات عسكرية تدخل الانجليز من الشباك بعد خروجهم من الباب. اتفاقية الجلاء كانت مبنية علي معاهدة سنة 1936م التي حسنت من الوضع السيادي المصري بشكل كبير من ناحية نصها علي انسحاب جيوش المملكة المتحدة من مصر ماعدا تلك الضرورية لحماية قناة السويس ومحيطها ( The Anglo-Egyptian Treaty of 1936 required the United Kingdom to withdraw all troops from Egypt except those necessary to protect the Suez Canal and is surroundings. ). تثبت تلك الوقائع أن مصر كانت تحت الوصاية الانجليزية، إذا احتاج هذا الأمر لإثبات، لذلك لا ضرورة للشعور بالزهو والتفوق علي الشعب السوداني باعتباره مستعبد من سيد يدعي الأخوة والحرص علي مصالحه.ملاحظة مهمة جديرة بالتسجيل هي ان طبيعة الاستعلاء تجاه السودان (نخبوية سلطوية) وقل أن تجدها في أوساط الشعب المصري البسيط.
كانت اتفاقية الجلاء واحدة من الانجازات الكبيرة لحركة يوليو التي قادها الضباط الأحرار بزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. إضافة إلي أن حركة يوليو كانت من ضمن حركات التحرر الوطني في الحقبة الناصرية، فهي كذلك قد أضافت الي انجازاتها مأثرة تأميم قناة السويس التي كانت تسيطر عليها وتديرها لمصلحتها القوي الاستعمارية الأوربية. لكن الانجازات الناصرية قد تم ضربها بشكل موجع بانتكاسة 1967م التي ألحقت هزيمة ماحقة بالجيش المصري واد ت الي احتلال مساحات واسعة من الأراضي العربية من ضمنها شبه جزيرة سيناء(سينا سينا شراع السفينة، علي قول الشاعر سمير عبد الباقي). توالت النكبات بعد ذلك الي حين الرحيل الفاجع للقائد جمال عبد الناصر في أعقاب ما عرف ب"أيلول الأسود".
اعتمادا علي الزخم الناصري وقوة الدفع التي أحدثها في مصر والمنطقة العربية استطاع خليفته الرئيس الأسبق أنور السادات أن يقود انتصارا مهما علي إسرائيل في العام 1973م. إلا أن ذلك الانتصار سرعان ما أجهض بمعاهدات كامب ديفيد الشهيرة. أخرجت تلك المعاهدات مصر بشكل كامل من مصاف حركات التحرر الوطني كما أفقدتها مكانتها الرائدة في العالم العربي. إضافة لذلك فات معاهدات كامب ديفيد وضعت مصر تحت رحمة الدولة العبرية (التي لا تعرف الرحمة)، من جهة وتحت رحمة (المعونة الأمريكية الملياردية)، التي تضمن الأمن الغذائي المصري بشكل حاسم، من الجهة الاخري، إضافة لدعمها المعتبر لعتاد وتدريب الجيش المصري. بعد اغتيال السادات في حادثة المنصة، انقضي عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك بأكمله بين المطرقة الإسرائيلية والسندان الأمريكي الي أن أطاحت به الثورة الشعبية غير المسبوقة في التاريخ المصري.
أما الثورة المصرية، علي أهميتها الكبيرة فيبدو أنها لن تخلص مصر في ألمدي المنظور من متاهة التاريخ. حتي الآن لا تتوفر قيادة موحدة متفق عليها لعمليات التغيير الذي نادت به ثورة يناير المجيدة. آفاق القيادة المصرية بعد الثورة تدور حول خيارات سيطرة بقايا النظام السابق القوية والمنظمة، بما فيها المؤسسة العسكرية وبين سيطرة الأخوان المسلمين بأحزابهم ومسمياتهم المتكاثرة التي تزحم الساحة المصرية بعد الثورة وتحاصرها من مختلف الجهات، كما توجد خيارات أخري تدور بين حركات شبابية في أساسها، مدعومة وممولة بسخاء من الخارج (الذي يشمل إسرائيل او مؤسسات صهيونية متعددة) وبين حركات شبابية تنتمي الي قوي التغيير الحقيقي وهي حركات صادقة مخلصة في توجهاتها الثورية، إلا أنها تعاني من جملة معوقات قد تؤدي في الغالب الي استبعادها عن مواقع الحسم في صنع القرار علي ألمدي المنظور.
في هذا الإرث والواقع المصري خرجت علينا مجموعات مؤثرة من النخب المصرية بدعوات تقترب من عقلية فرض الوصاية علي السودان مستثمرة في الواقع المرير الذي يعيشه السودان. جوهر تلك الدعوات هو السيطرة علي موارد السودان الضخمة واستغلالها في تخليص مصر من التأزم الاقتصادي المتفاقم الذي تعاني منه. تشير تقارير للبنك الدولي وهيئات تابعة للأمم المتحدة وعدد من الدراسات المصرية الي ان 40% من الشعب المصري يعيش تحت وطأة الفقر. تشير التقارير والدراسات الخاصة بالامتثال للالتزامات المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية الي معاناة الشعب المصري في بناء نظام سياسي ديمقراطي حيوي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة والتقدم في مجال حقوق الإنسان. تلاحظ الدراسات تعمق في الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، خاصة بين المناطق الريفية والحضرية والفوارق بين الجنسين. الفجوة في التمتع بحقوق الإنسان بين الحضر والريف تظهر بصورة أوضح عند الأخذ في الاعتبار ان عدد سكان مصر في الريف سيصل الي 57% بحلول عام 2015م، ويتوقع ان تكون مصر "البلد الوحيد الذي يقطن اقل من نصف سكانه في المناطق الحضرية" (دراسة لتقييم استدامة الاثر حول الاتفاقية الاورو – متوسطية للتجارة الحرة، 2007م علي موقع/ www.siatrade.org، انظر كذلك تقارير التنمية البشرية والبنك الدولي مؤشرات التنمية في www.worldbank.com).) يضاف لما تقدم تصاعد النمو السكاني المصري، ارتفاع معدلات البطالة والتضخم مع قلة الموارد المتاحة والاعتماد علي الخارج في دفع عجلة النمو الاقتصادي، خاصة مع تداعيات الأزمة المالية العالمية التي أحدثت تباطؤ خطير في نمو الاقتصاد المصري. يزيد من المأزق الاقتصادي المصري المرتبط بالموارد تعقد مشكلة مياه النيل مع الاتجاه الجديد لدول الحوض وبروز دولة جديدة تسهل السيطرة عليها من قبل قوي دولية غير مضمونة الجانب للتوجهات المصرية الرامية للانعتاق من التبعية للخارج وارث كامب ديفيد خاصة في ظل الضغط الجماهيري المتصاعد الناتج عن الثورة الشعبية.
في هذا الوضع يبدو ان فرض الوصاية علي السودان يشكل حلا مريحا من وجهة نظر النخب المصرية. السودان يصنف كدولة فاشلة بامتياز في التقارير الدولية، هو يعاني من خلل رهيب في نظامه السياسي أدي إلي انفصال الجنوب وتكاثر بؤر التوتر كما تتكاثر الخلايا السرطانية. يعاني السودان من مشاكل كبيرة مع دولة الجنوب الوليدة التي ستحظى (بالتبني) من قبل الغرب وإسرائيل (بدليل حماسة الجماعات واللوبيات الصهيونية لدولة الجنوب)، تعاني البلاد من نزاع خطير في دارفور، تتولد بؤر التوتر فيما يسمي ب(الجنوب الجديد)، يوجد توتر وبراعم تتفتق لاضطرابات اجتماعية في شرق البلاد ووسطها (مشروع الجزيرة) وشمالها، كما ان موجات الغلاء الطاحن تشحن الأجواء وتوفر المناخ الملائم لعدم الاستقرار في البلاد. هل توجد بيئة أفضل من هذه لتحقيق أهداف الاستيلاء علي اكبر غنيمة ممكنة في بلد يسير نحو التفكك والفشل التام؟. تلك البيئة تبدو خصبة كما أنها مغرية بمواردها.
في هذا المناخ يبقي من الضروري البحث عن الأدوات المناسبة لتحقيق الأهداف خاصة إذا كانت الدار المهددة بالخراب هي (دار أبوك)، او هكذا يمكن الاستنتاج من توجه النخب المصرية المذكورة. أفضل الأدوات هي ، مساعدة السودان في محنه، ويمكن بالمرة مساعدته بإرسال جيوش عسكرية، إقامة استثمارات لصالح الأمن الغذائي المصري ومن الأفضل القيام بذلك في أصلح الأماكن من حيث البيئة، البنيات التحتية، المواقع الجغرافية ومجموعة من عناصر النجاح الاخري. من الأدوات استغلال نصيب السودان من مياه النيل في الزراعة لصالح الأمن الغذائي المصري ولمصلحة القطاع الخاص هناك في آن واحد معا. من الأدوات أيضا ضرورة تسجيل حضور مستمر لضمان تدفق المياه عبر السودان الي شمال الوادي وضمان تعويض الفاقد بسبب استثمارات دول الحوض الاخري وحصة دولة الجنوب الوليدة علي حساب دولة السودان المتبقية، التي هي دولة ممر وعبور آمن للمياه نحو مستقر لها في الشمال.
لكن السؤال هو هل من الممكن تحقيق تلك الأهداف بالرغم من جودة الأدوات المستخدمة والبيئة المواتية؟ المنطق يقول أن ذلك أمر مستحيل. الأسباب في ذلك كثيرة. بالرغم من أن الله لم ينعم علي السودان بحكومات تصون مصالحه الإستراتيجية وتعمل علي ازدهاره وتوفر الحياة الكريمة لشعبه إلا أن الله جلت قدرته قد من علي السودان بشعب يتمتع بوعي قل توفره في محيطه الإقليمي ، بالرغم من استهانة الآخرين به والتقليل من شأنه والتعامل معه باستعلاء. هذا الشعب لن يفرط في حقوقه وهو يعرفها جيدا، كما انه يتمتع بقدر من الصلابة والجلد تفل الحديد بالرغم من صبره غير المتناهي علي المحن والابتلاءات. من جانب آخر فان ظروف مصر موضوعيا وذاتيا لا تمكنها من الدخول في نزاعات تستنزف ما يتوفر لديها من موارد وهي المواجهة بتحديات صعبة تهدد مسارها نحو تحقيق الذات واستغلال الإرادة واستعادة المكانة الريادية المفقودة في محيطها العربي - الإفريقي.
من جانب آخر وبالرغم من الهرولة الرسمية السودانية نحو مصر وبالرغم من توهم البعض عندنا في السودان بان احتمال وصول جماعات إسلامية للحكم في مصر يمكن ان يعزز من الموقف الحكومي السوداني، إلا أن تحقيق تلك الأهداف يبدو مستحيلا لاعتبارات داخلية وخارجية محيطة بالبلدين، السودان ومصر. من الأفضل إذن لكل من حكومتي البلدين ان تتعاملا بموضوعية ومهنية ، تعامل دول باستصحاب قراءة متزنة للمصالح المشتركة في تفاعلها مع المتغيرات الداخلية والخارجية وان تسعيا لإقامة علاقات وتعاون مشترك بناء يقوم علي قدم المساواة وبندية ومؤسسية تامة، خاصة فيما يختص بالتعاون الاقتصادي بملفاته الشائكة التي لا تحصي. يمكن لمثل هذا التعاون أن يحقق مكاسب مستدامة لشعبينا في السودان ومصر وان يقود الي استخدام كفؤ ورشيد للموارد والعمل علي صيانتها وفقا لمعايير اقتصادية تتضمن المزايا النسبية وحتى المطلقة ومنافذ للفائض سعيا للتكامل الحقيقي البناء بين الشعبين.
لا يمكن لهذا النهج أن يسود إلا في حالة تخلص الحكومات في البلدين من العلاقات الانتهازية التي تميل الي الخداع و(الطبطبة) إن لم نقل الميل نحو النفاق بإظهار غير ما يبطن كل طرف للأخر في ملفات العلاقات بين البلدين. العلاقات الانتهازية في المجال الاقتصادي لا تقوم علي أي جدوى ومصيرها الفشل التام خاصة عند انتصار إرادة الشعوب. أما طريق الوصاية علي شعب كامل الأهلية، رائد ومتمرس في الثورات، يكتنز خبرة طويلة من النضال، غني بتعدده وتنوعه، حتى في خضم أزماته الراهنة، فهو طريق يقود الي الهلاك المحتوم. الكل يعرف أن هناك عقلاء وسط النخب المصرية، من الذين يمتلكون المعرفة والحكمة ويراعون مصلحة الشعبين، لكننا لا نعلم أسباب خفوت صوتهم كلما دار الجدل في مصر تجاه السودان. بالتأكيد غالبية النخب السودانية المختلفة ترحب ببناء علاقات متينة مع الشعب المصري ، علي قدم المساواة والندية كما أنها بالتأكيد، وبناءا علي مواقفها المعلنة والموثقة ترفض أشكال الوصاية والاستعلاء جملة وتفصيلا مهما كانت مصادرها ومبرراتها وتوقيتها. أما الشعب السوداني في غالبيته العظمي فمواقفه معروفة وناصعة البياض ومن الأفيد أن لا يستفز بالتجهيل والاستعلاء والغرور الكاذب. التاريخ والجغرافيا تؤكدان أزلية العلاقات بين الشعبين السوداني والمصري وترابط مصالحهما، إلا أن الطريق نحو ذلك يحتاج للإصلاح والتعبيد حتي يكون ممهدا لانطلاق مسار المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة ومن الأفضل للجميع السير في هذا الاتجاه، خاصة في هذا الظرف التاريخي العاصف في البلدين، علي أمل أن تأتي نتائج التغيير بأسس جديدة للعلاقات بين الشعبين.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]