أمّة السودان التي وُلِدت -5-
عبد الجبار محمود دوسه
4 July, 2011
4 July, 2011
روح الإنتماء
في الحلقة الرابعة تساءلنا فقلنا هل يمكن أن نعتمد روح الإنتماء كأحد معايير تعريف الهوية بعد أن نصمم له متنه المفصّل وفصوله وأبوابه ونحدد جرعاته وزمان تلك الجرعات، وقلنا أن كلمة الإنتماء في معناها المطلق واضحة، لكن من أجل أن نجعلها أحد المعايير القوية لتعريف الهوية فذلك يقتضي أن نعيد بناء علاقتنا بتلك الروح حتى ترتبط وجدانياً ومعنوياً وحسياً بالوطن كرقعة جغرافية لها خصوصيتها كما هو حال كل وطن، تلك الخصوصية ليست سوى هويتها، حيث إذا فقدت الأمّة هويتها أو ذابت في هوية أخرى أو تم استلابها، فقد الوطن خصوصيته وأصبح جملة هكتارات أرض مُضاعفة في المساحة تحمل إسماً ولكن بلا مضمون وسيظل تابعاً.
التعامل مع الإنتماء أمر فيه الكثير من التعقيدات لا سيما في المجتمعات التي تكون الغلبة فيها للأمّية، في مثل تلك المجتمعات تنتقل المعرفة إلى أفراد المجتمع عبر آلية واحدة ومؤثّرة وهي العُرف السائد والممارس في ذلك المجتمع، ولما كان المجتمع نفسه قد غلبت عليه الأمّية فإن تأثير الغلبة يبقى طاغياً وفاعلاً خاصة في ظل توهان وتخبّط الدولة ومؤسساتها. وربما كانت الممارسة داخل مؤسسات الدولة نفسها أسيرة لطغيان الأمّية. والجنوح إلى الإنتماء المصغّر والذي يتأطر إما بالأسرة أو العشيرة أو البطن أوالقبيلة أو الإثنية أو الشعب أو الأمّة، وكلها مفردات متصاعدة في المضمون تستوعب النوع وتعطي مؤشّراً للكم، بيد أنها كلها تتأثر في درجة إنتماء وتمسّك الفرد بقيمها تبعاً لقدرة المنظومة العرفية فيها للتصاهر مع المعرفة المتناقلة تنازلياً من أكثرها ثراءاً بها وهي الأمم، إلى أقلها امتلاكاً لها وهي الأسرة، ولا تستقيم إيجابية التلقّي دون إعتماد منهاجها الإيجابي الممحّص والمنقّىَ من شوائب الإنزواء والغرور والتغرير، كما لا يتأتى بلوغ ذلك إلا بتهيئة الفرد وإعداده وتزويده بالحد الأدنى من التعليم وخصائص ومعايير المفاضلة الأوّلية.
ما الذي يُقعِد بعض المجتمعات من أن تنتقل بروح الإنتماء لدى أفرادها من مرحلة التمايز إلى مرحلة التعايش ومن مرحلة التعايش إلى مرحلة التخالط ومن مرحلة التخالط إلى مرحلة التصاهر، وهل تَجَاوز هذه المراحل هي مسئولية الفرد أم مسئولية المجتمع أم الدولة، قد تبدو الإجابة من منظورها المبسّط والمبديء أنها مسئولية مشتركة، لكن مثل هذه الإجابة إنما تعبّر عن استسلام في البحث وتهرّب من القطعية والتحديد، ولأننا في حاجة إلى استكشاف العلل بحيث نستطيع أن نحدد مكمن العلّة التي جعلت من روح الإنتماء لدينا أكثر اتساقاً مع الهدف الأدنى بدلاً من الهدف الأسمى، فإن منهج التعميم لا يساهم إيجاباً في بلوغ وتحقيق رغبتنا. دعونا أولاً نتّفق بيننا ونحدد موضع أمّة أو شعب السودان، في أي مرحلة من المراحل الأربعة لروح الإنتماء نحن الآن، قد أجد أنفسنا أقرب إلى مرحلة التمايز، وهي مرحلة تَقهقرنا إليها بعد أن كنا يوماً قد بلغنا مرحلة التخالط، لكن وكما هو معلوم أن الأنظمة الحاكمة إذا غلّبت ذاتها على أمّتها ستعيد الأمّة إلى المستوى الأدنى وهو ما نحن عليه الآن، ومرّة أخرى لا استطيع أن أعزل الأنظمة عن أزمة الإنسان الذي هو أساس تشكّيلها وإنما يبقى الأمر في أيهما أسبق، وحتى أكون أكثر وضوحاً في هذه الفرضيات والمراحل لا بد من أعطاء تفسير مختصر لما أعنيه بكل مرحلة من مراحل روح الإنتماء، فالتمايز أعني به مرحلة إغترار فئة هي قد تكون أسرة أو عشيرة أو بطن أو قبيلة أو إثنية ما بنفسها ومن ثم تتقوقع داخل تلك الصفة وتُغاتر وتُكابر بها جهراً على الفئات الأخرى في المجتمع الكبير وفق تقييمها لقيمة صفاتها بغض النظر عن صحة أو خطأ ذلك التقييم، أما التعايش فهي مرحلة تتوافق فيها مثل تلك الفئات على تفادي التناطح الجهري من خلال كبت تبادل المشاعر المستفزّة والإقتصار على التفاخر الداخلي الصامت وذلك إما خوفاً أو حفاظاً على مصلحة مشتركة، فيما أجد أن مرحلة التخالط هي مرحلة تتيح للفئات التراضي بالإحتكاك في الممارسة الحياتية ومحاولة تبني خصائص مشتركة بما لا يتيح الهيمنة لأي فئة على أخرى. بيد أن التصاهر يعني بلوغ القناعة بإنتاج قيم مبرأة تمازجت فيها الخصائص من الجميع وأنتجت مضموناً يتبناه كل فرد ويجعله مرجعاً لإنتمائه للأمّة أو الشعب ويسعى إلى الحفاظ عليه والدفاع عنه، وتقول لي أين الدولة من كل ذلك فأقول لك بأنها على قهر الفئة التي تُهيمن عليها.
وهنا يجب أن نُدرك بأن الأسبقية في إنتاج المنهاج الذي يضع روح الإنتماء لدى أفراد الأمّة في أفضل مرحلة من المراحل المذكورة وهي التصاهر إنما تقع أعباؤه على الإنسان الفرد قبل الدولة المنظومة، فالدولة نتاج لما يصيغه ذلك الإنسان من قيم ومؤسسات، وقيمة الإنتماء تنبع من مدى استعداد تلك الروح من تلقيح نفسها بمضادات التنافر وتعزيز قابليتها للتصاهر، وحيثما كان أحدهما في موضع السلطة فإن مخرجاته من النظم والقوانين والقيم لن تكون بعيدة عن تأصيل ذلك الواقع المكمون فيه. إذن وخلال مسيرة تشكيل أمة السودان وعبر الحقب والأجيال فقد كان هناك تبادل في إعتلاء المراحل، ولم يكن ممكناً للأمّة وفي ظل تواضع المخزون الذاتي للفئات من روح الإنتماء أن تستقر على مقام موعود أو مرام منشود، وإنما كنا دائماً نجد أنفسنا وكأنها طرحٌ لفظه موج من أمواج الحياة، وهي حالة أقل ما يقال عنها أننا ينبغي أن نستغيث إما بطاقاتنا الكامنة التي لم نُحسن استخدامها أو توجيهها فنعمد على استثارتها وتفعيلها بالإقتباس، أو بالأمم الأخرى بتمليكها ناصيتنا لتنتشلنا مما نحن فيه من هزال، وتلك حالة لا تجد لها مسمّى غير الوصاية أو الإستعمار.
إذن ما هي العوامل التي تساهم في تعزيز مضمون روح الإنتماء حتى تطغى على تقازم وجنوح الفئات إلى القوقعة بدلاً من استخدام مبدأ تلاقح القيم وممازجتها، هل هو الخوف على الإندثار أم هيمنة فئات على أخرى قبل نضوج قيم التصاهر أم أن ثمة مصالح يراد لها أن تبقى حصرية من خلال نظر قصير المدى داخل كل فئة، ربما كان من الأفيد أن نتوافق على تمليك الفئات وسائل المعرفة والتواصل بشكل أكثر تكثيفاً، وهو أمر يمكنه أن يقلل من النزعة الإنغلاقية ويبعث في الأفراد بعضاً من خصائص الفضول الإيجابية فيعمدوا إلى تخاطب أكثر انفتاحاً وأبلغ تعبيراً، هل يمكن أن نشجّع حركة التنقّل بين الفئات وكيف يتأتى ذلك إذا لم نحسّن من وسائل الإنتقال ونبسّط كلفتها، وهل يمكن أن نلقّن الأطفال والكبار توجيهاً معنوياً مبسطاً متوافق عليه بشكل متكرر كما لو كانت الوجبات بغرض إعداد جيل يملك أرضية مشتركة تمكّنه من الجلوس والتفكير والصياغة لقيم التصاهر؟ كل هذا من الممكنات ولكن تبقى العقبة الكأداء هي القدرة على التحلل من مغريات الذات ووهم التوجس من الآخر وإدراك أن العمل من أجل كسب الغد هو الأوجب وليس الإنكفاء على الماضي ولا التهافت للإستئثار بالحاضر.
لا يمكن لروح الإنتماء كشعب أو أمّة للوطن أن تبلغ كمالها ما لم تبلغ القناعة لدينا كأفراد شأواً نحرر بها أصالتنا من قيود الأسرة والعشيرة والبطن والقبيلة والإثن، وأن نُطلق عنانها لتبحث عن الهواء النقي لتستنشقه، ولن يتأتى لها أن تجد ذلك الهواء النقي بينما هي أسيرة لمن يشدّها من وراء حجاب أو من خارج الحدود، أو من يبعثر أشواكاً أمام مسيرتها نحو التصاهر. بالنظر إلى مقتضيات العصر الذي نعيش فيه وبالتأمل في الأمم التي أدركت كيف ترسم طريقها نحو النماء نجد أن بعضاً مما يَعْقلنا لن يُعقّلنا أبداً وإنما يزيدنا خسارة، أن نبقى نناطح الواقعية بينما نتسلّح بغير وقائعها، فالننظر حولنا سواء في أفريقيا أو الدول العربية ونتأمل، ما الذي يجعلها تزحف في سباق الأمم بينما تملك ساقين وقدمين، ذلك هو روح الإنتماء التي قتلوها وفرّقوا دمها بين الأسر والعشائر والبطون والقبائل والإثنيات وقالوا نحن شعب وأمّة، لم يتمكنوا من توجيه ذلك التنوّع للتنافس المنتج، وإنما وجّهوه للتنافس المنفر، دعونا نقف وقفة تأمل ونبحث في الأسباب التي تجعل من الشعب الياباني والكوري والصيني بأن لا يتوحّدوا في دولة واحدة بينما هم من أصل واحد، وما الذي يجعل منهم فرساناً يتنافسون في ساحة النماء كأمم وشعوب تقودها دول، ولا يتنطّعون بعبارات الأصالة والإنتماء السالبة، بل دعونا في الجانب الآخر ننظر للنموذج الصومالي الذي أحال الوطن الصومالي إلى بلاقع، إليس ذلك هو الإنكفاء للعشيرة والبطن والقبيلة رغم الإدراك بالمآلات الضارة للتماييز. هذه نماذج حيّة نعايشها كل يوم وساعة فإن كانت عِبرُها لا تجد طريقها إلى رشدنا ولا تجعل من روح الإنتماء لدينا أن يتمدد ليستوعب طموحاتنا حينئذ ينطبق علينا القول "آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه".
عبد الجبار محمود دوسه
4/7/2011
Abdul Jabbar Dosa [jabdosa@yahoo.com]