(آن أوان الرحيل) رواية للشاعر والدبلوماسي/ جمال محمد إبراهيم

 


 

 

 

(حان أوان الرحيل) رواية للكاتب الشاعر والدبلوماسي / جمال محمد إبراهيم
(1)
حان أوان الرحيل
الكاتب : جمال محمد إبراهيم
الدار العربية للعلوم ناشرون
بيروت - الطبعة الأولى 2010
(2)
يخطو الشاعر والكاتب والدبلوماسي " جمال محمد إبراهيم " خطوه الواسع متزراً بقدرته كدارس للتراث الثقافي منذ بواكير السبعينات من القرن الماضي ، من بعد أن تفتح بُرعمه الشعري في الستينات ، وجاء الدراسات والمباحث أثناء صعوده السلم الدبلوماسي المهني بخطى وئيدة منذ 1975 وإلى ربيع 2009 حيث غادر إلى التقاعد وهو في عنفوان العطاء .
أمسك الكاتب بأصابع ثلاثية  الإحساس ، متقاطعة مع الحدث أو التاريخ وهو يدلف للقص من نافذة الراوي ، وخرج بتفاحة تُغري قاطفها الخروج من الواقع الحياتي إلى الواقع الروائي الفني . يبسط لنا الزمان في خارطة الوطن والجغرافيا . أعْمَق غرز سكينته في ضباب التاريخ ، الذي برغم وقعه العميق في تشكيل وجداننا ، إلا أن أرضه لم تزل بكراً . ترمي فيها الحصى وتجده يُزهر في مقبل أيامه .
كتب مقدمة هي الأولى من نوعها ، في استفتاح ضروري كي يدخلنا الكاتب عبر الكواليس التي أخرجت الرواية من أضابير التاريخ ، لتسجل وقائع روائية حية و مسيرة  حياة وطنٍ لم يعُد فيه من يعرف تاريخه حق عرفانه . ذلك  المخبوء في الحكاية التي تآلفت وتناحرت فيها شعوب تسابقت إلى أراضيها البكر واستوطنت السهول والبوادي، والمدائن تعيش طفولتها و قد  خرجت من إعسار القرى . هي تستجيب لطبقات ناهضة تبحث عن اسم . جلست جميعاً بعضها فوق بعض ، وتشكل المجتمع بتراكيبه المتفاوتة ، غنى وتوسط ، أما فقر البسطاء ، فهو كالعشب الذي يغطى السهول أو الرمال التي عمت البوادي   .
على أرائك منتجع اللغة العربية دعتنا لغة الكتاب لنتسامر معها ونحن نقرأ . اجتمعت كل أدوات الوضوح والبلاغة والفصاحة والفخامة والإيجاز في مائدة واحدة . بأنامل رشيقة استدعى كل الذين يعرفون القراءة العربية ، وصعد بهم إلى القاعة الباهرة ، بأضوائها المتلألئة ، وفسيفساء تكسو الحوائط ومماشي القاعات وبهو الدخول وعزّة المجالس .
تجد كل الدنيا بتنوعها الباهر وقد ساقتها مملكة القص . تضع يدك موضع القلب ، تترصد الأحداث الروائية الجسام تئن في عربات مُزخرفة بالنفائس  تجرها الخيول.
لغة رصينة تمرست على الخطاب الشعري الروائي الرصين . للغة أن تتبدى كعروس مجلوّة لليلة يقف قُرص قمرها مضيئاً تحت سماءٍ صافية . بها تدخل أنت القارئ ،تمسك في ليل شخوصها بسراجك لتتعرف على الأبطال ، وعلى الذين يجرّون عربات الصيد الملوكية لنزوات الأهواء ، ويرحل الفقراء بهدوء ، يتساقطون كحبات الندى عند ائتلاف الرطوبة ورعشة البرد بين الشفق والصباح .
من المخبوء في أضابير ملفات التاريخ أطل علينا القص من رفيقي درب " مختار السردار " و " براون " وثالثهما الوسيط الراوي . كلهم في حضرة السودان منذ الثلاثينات وإلى الستينات. بعثرت الرواية ملفات مطمورة لم تسجلها الكتابة التاريخية . أطلت على مأساة حاضرنا . اندست أوراق الحياة التي عاشها أولئك زماناً إلى أن فكت أسرها الرواية .
اختطت الرواية  أرض المكان وفسحة الزمان ، ما لم تستطع كتب التاريخ الرسمية أن تسجله . واقع فني اختلط بالواقع الحياتي ، في أدب روائي . وجه من وجوه تسجيل وقائع عن تاريخ منسي عبر القص ، ليس لنا إلا أن نقرأها في واقعها الفني ، ونستحلب من ثديها ما لم يكتبه المؤرخون .
(3)
مقاطع استللناها من غِمد الرواية :
( كتب الراوي :
كنتُ حريصاً على اختيار الكلمات المناسبة ، وأنا أخاطب اللورد الصغير ، حتى لا أنزلق إلى ما قد يسيء من حيث لا أدري ، إلى شخص جده الذي أراد أن يغير صورته في أذهاننا من قاتل وجزار إلى رسول حضارة نبيل ، يحمل مجد الإمبراطورية التي كانت لا تغرب الشمس عنها )
*
(قال الراوي :
لا أريد أن تفسد السياسة جلستنا ولكنه التاريخ يا سيدي " براون " . أنت تحدثني عن استقلالنا وكأن لندن منحته إيانا مجاناً ! ، كنا نحمل جُرح كرري في الوجدان )
*
( أثارت انتباهه ملاحظتي فابتسم وقال :
-    كانت قصص جدي على طرافتها ، تفتح لي دنياوات سحرية عن وطن يندسّ جماله تحت رماله وتتخفى كنوزه في بطون كهوف جباله ، ويكمن لؤلؤه في أعماق نيله الأبيض والأزرق ، كما في أعماق البحر الأحمر )
*
( يقول الراوي
- قلبت نظري في الرسائل من جديد . سعيت لأقرأ من وراء سطور الرجل ، مقاصده ، آماله ، تطلعاته ، ولكن لا شيء دلني بوضوح على وجهة سياسية لوّنت كتاباته . أكثر همومه كانت حول أحوال هيئة السكك الحديدية ، واسترساله في سرد نواقصها ، وتدهور نظامها بعد رحيل الإنجليز . لمس السياسة لمساً خفيفاً في بعض رسائله )
*
(ومن رسائل " السردار مختار " :
نحاول أن نفتح صفحة جديدة . بلد مستقل . لكن التباس علاقات السودان مع مصر ، تكاد تشل حراكنا السياسي والاجتماعي والثقافة في البلاد )
*
( في الأفق بدت الشمس وكأنها مثبتة في لوحة رسام ، لم يكمل تلوينها . على خلفية السماء ، وبين طيات السحاب المتوهج من لهب شمس المغادرة . ثمة رجل أبيض يطير محلقاً مثل نورسٍ أضاع سربه ثم تلاشى )
*
(بقيت دمعة معلقة في خدّ " سامي " . حان أوان الرحيل ، ولا بدّ من كلمة وداع تليق في الفراغ الذي امتد بين كرسي القماش وشجرة السنط ، لم يكن هنالك من يحدق في الغياب ، أو يرى بعينيه أوان الذهاب . يشاهد طرياً جرح الرحيل )
*
( " السردارات " الحقيقيون تُنصب لهم التماثيل في المستعمرات ... " السردارات" و الجنرالات  الحقيقيون ، تُنشأ لأجل صيتهم جمعيات وتؤسس اتحادات خيرية ، تُخلد أسماءهم ويكتب المؤلفون الحذقة ، قصصاً تحكي بطولاتهم وإخفاقاتهم الرصينة . تحتفي بمناقبهم وتغض الطرف عن فضائحهم الكارثية . )
*
( قصة الضباع التي تفترس النساء وهنّ في غواية الانفراد ؟ قصص اللهو والعبث تحت غيم " أركويت " ، هل تبرح جيوب الذاكرة ..؟ هل تنمحي قصص " السردار " ، بروائحها الكولونيالية ، أم تندس في ثياب العجوز الراحل ، فلا يلهج لسان " العجوز " بعبارات الإعجاب بذلك السوداني ، رئيس جماعة " الدريسة " ..؟ )
*
( لم تستطع " كاترين " الصغيرة أن تقهر الحزن الذي اطل من عينيها ، حتى ثبت العجوز " براون " قبعته ، ثم حرك كفاً واهنة الأصابع بإشارات الوداع . حان أوان الرحيل .)
*
( يكتب الراوي :
ثم فجأة تراءت لي على صفحة النيل الأزرق وكأنها مستلقية في حلم وردي ، " كاترين " بشعرها الأسود القصير ، وبعينيها الجميلتين ، وعليها خيلاء كولونيالي أصيل لا تغيب ملامحه عمن كان غريقاً في استعمار لعقود طويلة في قلب إفريقيا . وكان الحزن )

عبد الله الشقليني
15/7/ 2011
abdallashiglini@hotmail.com

 

آراء