جنوب السودان .. فرص وتحديات ما بعد الاستقلال … بقلم: خالد التيجاني النور

 


 

 


tigani60@hotmail.com

يشكل استقلال جنوب السودان, وولادة الدولة الرابعة والخمسين في القارة الإفريقية, حدثاً تاريخياً مفصلياً بالنسبة للدولة السودانية وكذلك للقارة السمراء, يتعدى مجرد تغيير الحدود الجغرافية للبلد المنقسم, إلى إنهاء حقبة كاملة في تاريخه السياسي, بل إن تبعاته وتداعياته ستؤدي بالضرورة إلى بروز معطيات جديدة تعيد ترتيب الحقائق والوقائع الجيوسياسية في المنطقة, وإلى خلق معادلات استراتيجية جديدة.

نهاية حقبة "السودان القديم"
استقلال دولة الجنوب, التي تشكل مساحتها البالغة ستمائة وأربعون ألف كيلومتر مربعاً ربع مساحة السودان, ويمثل مواطنوه البالغ تعدادهم ثمانية ملايين نسمة خمس سكانه, يعني عملياً نهاية حقبة تاريخية تشرف على القرنين في تاريخ السودان الحديث الذي بدأ مشروع الدولة الموحدة فيه يتشكل مع بواكير الفتح التركي المصري في عام 1821 على يد محمد علي باشا.
ورثت النخبة السودانية الشمالية, بعد الاستقلال في العام 1956, الوحدة الجغرافية للبلاد التي خلفها الحكم الثنائي المصري البريطاني, ولكنها أخفقت على امتداد طيفها السياسي وأنظمة الحكم المتعاقبة على مدى أكثر من نصف قرن من صنع مشروع وطني جامع يحول تلك الوحدة الجغرافية التي صنعتها إرادة ومصالح استعمارية من وحدة كيان جغرافي فحسب إلى وحدة كيان وطني وبناء أمة متجانسة.
وتقسيم السودان, بولادة دولة الجنوب المستقلة, يكتب نهاية حقبة "السودان القديم", التعبير المقابل لمشروع "السودان الجديد" الذي أطلقته الحركة الشعبية لتحرير السودان, بكل دلالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ومشروعه الوطني الذي أصبح في ذمة التاريخ.

صراع النخبتين الشمالية والجنوبية

ولا شك أن هذا الحدث يعد انتصاراً لا مراء فيه لمشروع "الحركة الشعبية" بزعامة الراحل جون قرنق التي ورثت نضال النخبة الجنوبية وسعيها منذ منتصف القرن الماضي لإيجاد موقع لها ودور في المشروع الوطني السوداني للدولة الموحدة على قدم المساواة مع النخبة الشمالية التي آل إليها الحكم بعد الاستقلال, غير أن قصر النظر السياسي والافتقار إلى رؤية وطنية استراتيجية قعد بها عن الوعي بطبيعة التعدد والتنوع العرقي والديني والثقافي والاجتماعي لمكونات البلاد, وما يترتب عليه من استحقاقات واستيعاب هذا الوعي الذي يشكل مكوناً أصيلاً في بناء المشروع الوطني, واكتفت النخبة الشمالية بإلحاق النخبة الجنوبية على هامش الملعب السياسي, فكان أن بادرت النخبة الجنوبية بالدعوة إلى مشروع قومي جنوبي مقابل أفضت نتيجته المنطقية إلى تقسيم البلاد في نهاية الأمر.
صحيح أن الحركة الشعبية نجحت بالانفصال في إسقاط "السودان القديم" ومشروعه الوطني, ولكنها في الوقت نفسه لم تنجح في تحقيق حلم زعيمها جون قرنق, ومشروعها السياسي المعلن بإقامة "سودان جديد" يحافظ على وحدة البلاد على أسس جديدة تدعو لها وتعتبرها لازمة لتحقيق المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص بين كل مواطنيه وتستوعب تعدد وتنوع مكونات المجتمعات السودانية المتعددة.
وبالضرورة فإن تقسيم السودان ونهاية مشروع الدولة الوطنية الموحدة يمثل فشلاً ذريعاً للنخبة الشمالية التي عجزت على مدى أكثر من نصف قرنق عن الإجابة على السؤال الأهم عن كيفية الحفاظ على الوحدة الوطنية والترابية للسودان, ومن نافلة القول إن "الحركة الإسلامية السودانية" بزعامة حسن الترابي تتحمل المسؤولية التاريخية الأكبر وهي التي سوغت لنفسها الانقلاب عسكرياً في العام 1989, على نظام ديمقراطي بدعوى إنقاذ البلاد والحفاظ على وحدة الوطن, تراباً وشعباً, وهدفها المعلن حينها كان مواجهة مشروع الحركة الشعبية الذي شهد صعوداً وتمدداً في الساحة الوطنية أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.
وانتدبت "الحركة الإسلامية" نفسها لتحمل هذه المسؤولية ملقية باللوم في تنامي مشروع الحركة الشعبية على ضعف وقلة حيلة الأحزاب السياسية الحاكمة وقتها. ولذلك فإن الوصول إلى محطة تقسيم السودان وإنهاء مشروع الدولة الوطنية الموحدة, ونجاح "الحركة الشعبية" في مساعيها يشكل فشلاً ذريعاً للمشروع السياسي لانقلاب "الإنقاذ" بإخفاقه في تحقيق أهم مبرراته, كما يعني أيضاً أن المشروع السياسي "للحركة الإسلامية السودانية" خسر معركته الأساسية, وأخفق في المهمة التي انتدب نفسه لها في مواجهة المشروع القومي الجنوبي بقيادة الحركة الشعبية, خاصة أن انفصال الجنوب لا يعني نهاية القصة, فالحفاظ على وحدة ما تبقى من شمال السودان أمر محل تساؤل وشكوك مع بروز أزمات تبعات وتداعيات التقسيم في ما بات يعرف بقضايا الجنوب الجديد في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق, وضبابية مستقبل الوضع في دارفور, وحالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي السائدة.

الثوابت الإفريقية والحدود الموروثة عن الاستعمار

يمثل استقلال جنوب السودان وبروز دولته الجديدة تحدياً استثنائياً للقارة الإفريقية على وجه الخصوص, فقد مرت عشرون عاماً منذ شهدت القارة السمراء أول سابقة تقسيم دولة إثيوبيا خروجاً على توافق الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية على ضرورة الحفاظ على الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري خشية انفراط عقد الاستقرار، وتفادي الحروب الأهلية في القارة التي رسمت حدود دولها في أغلب الأحيان بإرادة خارجية دون اعتبارات موضوعية, فقد كان مألوفاً أنه عند تلاقي مصالح وجنود الدول الأوروبية المستعمرة تتم صناعة الحدود الجغرافية للدول الإفريقية.
ولئن جاء انفصال إريتريا عن إثيوبيا في العام 1991, ثم استقلالها رسمياً بعد ذلك بعامين, بعد نضال استمر ثلاثة عقود لإنهاء حالة ضم إثيوبيا لإريتريا التي كانت تحت الانتداب الدولي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة إيطاليا التي كانت تحتلها, ولئن تمت تلك السابقة دون أن تثير قلق القادة الأفارقة بحكم الوعي بالخلفية السياسية لتلك القضية, فإن استقلال جنوب السودان, وعلى الرغم من تعاطف أغلب الأفارقة مع مطالب الجنوبيين, يثير الكثير من المخاوف في الأوساط الإفريقية خشية من تأثير تبعاته وتداعياته.
إن تقسيم السودان حَدَثَ على تماس العرق والدين أي أن اعتبارات الخلافات العرقية والدينية والعجز عن استيعابها في مشروع وطني يحفظ وحدة الكيان السياسي للبلاد كان السبب الرئيس في الانفصال, وهو ما ينذر بقنابل موقوتة في قارة لا تنقصها الأزمات المتعلقة بتماس العرق والدين, ولقد أصبح هذا النموذج سابقة, وهو ما انتبه الحكماء والقادة الأفارقة إلى خطورة حدوثه منذ مطلع ستينيات القرن الماضي ودعوا لتفاديه عندما حذروا من المساس بحدود الدول الموروثة من الاستعمار لأي أسباب كانت خشية تداعي الدول والمجتمعات.

مكامن القوة وعواملها في دولة الجنوب
ما إن ينفض الاحتفال المفعم بالمشاعر الجياشة في جوبا فرحة بالاستقلال وتحقيق الحلم المنتظر طويلاً, حتى تأتي ساعة الحقيقة حيث يتواصل البحث عن إجابة عن السؤال المؤرق الذي يشغل بال القادة الجنوبيين, وطالما أثار أيضاً قلق حلفائهم الدوليين, هل تستطيع النخبة الجنوبية بناء دولة جديدة قادرة على الحياة والبقاء مستقرة, وبناء أمة متجانسة تتوفر لها أسباب التعايش؟ أم تتحقق تمنيات خصومها الذين يراهنون على عجزها عن الوفاء باستحقاقات بناء الدولة والحفاظ على وحدة واستقرار كيانها وشعبها, ويتوقعون قدرتها على الصمود.
في الواقع لا ينقص جنوب السودان شيئاً من أسباب بناء الدولة المستقلة القادرة على البقاء مما يتوفر لعشرات الدول الإفريقية التي سبقتها في الاستقلال, وإن تفاوتت في قدراتها ومدى نجاحها, فمن ناحية عملية يمتلك الجنوب الموارد البشرية والطبيعية والجدوى السياسية والاقتصادية لبناء الدولة الجديدة, ولكن كشأن تجارب الدول الأخرى تبقى الإجابة عن سؤال مدى الاستفادة من هذه الفرصة المتاحة والقدرة على التعاطي مع تحديات البناء والتأسيس مرهونة برؤى وقدرات وأساليب النخبة الجنوبية في الحكم وقدرتها على تأسيس وإدارة الدولة الوليدة.
والسؤال المطروح هو: هل ستقدم هذه النخبة الحاكمة نموذج قادة الدول الذين امتلكوا البصيرة والرؤى الإستراتيجية والتخطيط السليم والأداء التنفيذي الفعال في بناء أوطانهم, والأهم من ذلك تقديم هموم مواطنيهم وطموحاتهم وأجندة أوطانهم على أجندتهم الشخصية, أم يغرقون في نموذج النخب الحاكمة التي تصادر أحلام شعوبها وتختصر الأجندة الوطنية في مكاسبها الذاتية ومصالحها الضيقة, وعدم تورعها عن التورط في فساد الحكم فقط من أجل الاستئثار بالسلطة بأي ثمن؟.
يملك الجنوب العديد من أسباب القوة السياسية والاقتصادية, بعضها ذاتي والآخر توفره عوامل خارجية. ولعل في مقدمة ذلك القوة المعنوية الهائلة التي يتمتع بها حالياً شعبه المتطلع لبناء دولته المستقلة حديثاً, تحقيقاً لتوق قديم للاستقلال والتحرر والانعتاق, وتحقيقاً لحلم إقامة وطن يحسون فيه أنهم مواطنون من الدرجة الأولى ولا يخشون فيه تمييزاً عرقياً أو دينياً وهو أمر طالما انتظروه, وتشكل هذه القوة المعنوية عاملاً مهماً في توفير الطاقات لبناء الدولة المنشودة وتحقيق الطموحات المرجوة, وتخييباً لظن المراهنين على ولادة دولة فاشلة.

خصائص الموقع الجيوسياسي
ومن مقومات القوة الذاتية لدولة الجنوب موقعها الجيوسياسي, فهي تجاور ست دول, شمال السودان وإثيوبيا وكينيا وأوغندا والكنغو الديمقراطية وإفريقيا الوسطى, مما يمنحها فرصة الاستفادة من مساعي هذه الدول للحفاظ على مصالحها الحالية, أو تحقيق مصالح جديدة, وتنافسها من أجل خلق علاقات مميزة مع الدولة الجديدة. مما يجعلها لاعباً مؤثراً في لعبة التوازنات الإقليمية ويفتح لها الباب لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.
كما أن موقعها الجغرافي في منطقة مهمة في حسابات الاستراتيجيات والمصالح الدولية, يمنحها بعداً أكثر أهمية للقوى الباحثة عن موطئ قدم ووجود في هذه المنطقة الإستراتيجية من القارة الإفريقية، لاسيما إسرائيل المدركة لأهمية الورقة الجنوبية في توازناتها الإقليمية, وقد ظلت إسرائيل لاعباً فاعلاً من وراء الكواليس في المسألة الجنوبية وقدمت دعماً مؤثراً للحركات الجنوبية الثائرة منذ أواخر الستينيات وهو أمر ليس سراً. كشف جوزيف لاقو زعيم حركة إنيانيا في مذكراته عن تفاصيل تأسيس تلك العلاقة. وقد أصبحت دولة الجنوب مستقلة فسيحرر ذلك الطرفين ويمكنهم من تحويل تلك العلاقة المستترة إلى علاقة مفتوحة الآفاق, وتمتلك القدرة في التأثير على معادلات وتوازنات القوة في الإقليم مما يحقق لدولة الجنوب فرصة سانحة بفعل هذا الوزن السياسي للاستثمار في موقعها الجغرافي.
ولعل هذه الحقيقة بالذات هي التي ظلت مصدر قلق بالنسبة لمصر حيث جعلت فصل الجنوب خطاً أحمر في استراتيجيتها وقاومت محاولة تقسيم السودان طويلاً, قبل أن تجد نفسها مضطرة للتعامل مع الأمر الواقع وتتحول باتجاه كسب ود الجنوبيين وإظهار الاستعداد لدعم دولة الجنوب الجديدة, وهو مكسب مهم أظهر أهمية عامل قوة الموقع الجغرافي, وإمكانية تحقيقه لمصالح مهمة لدولة الجنوب.

العامل الخارجي.. أي دور للعراب الأمريكي

أما أهم عوامل القوة الخارجية التي تصب في مصلحة دولة الجنوب فهو بلا شك أنها صنعت على عين الولايات المتحدة, فالرعاية الأمريكية المباشرة والحثيثة للقضية الجنوبية على مدار العقدين الماضيين شكل مصدر قوة ودعم حاسم لجنوب السودان. والملاحظ أنه على الرغم من أن مسألة الجنوب ظلت حاضرة بقوة في السياسة السودانية منذ منتصف القرن الماضي, إلا أن الولايات المتحدة لم تشكل حضوراً فاعلاً فيها إلا خلال العشرين سنة الماضية, حيث تركز الدور الأمريكي خلال العشرية الأولى على العمل الإنساني والإغاثي, في ما تركز بشدة خلال العشرية الثانية على لعب دور حاسم على الصعيد السياسي في البحث عن سبل إنهاء الحرب بتسوية سياسية.
من المؤكد أن واشنطن لعبت الدور الرئيس في رسم خريطة الطريق وفي حث الفرقاء على التفاوض حتى تم إبرام اتفاقية السلام الشامل, كما ثابرت على الاستمرار في فرض الضغوط والمتابعة اللصيقة لاحقاً لتنفيذ بنودها حتى وصلت إلى محطتها النهائية بتحقيق الانفصال.
وعلى الرغم من الإدارة الأمريكية تنفي ترجيحها ودعمها لخيار الانفصال, فثمة جدل كثيف حول ما إذا كانت واشنطن عملت على تشجيع الجنوبيين على الانفصال أو أنها اضطرت للتعامل مع رغبة جنوبية عارمة للاستقلال, والموقف الرسمي الذي أعلنه الرئيس باراك أوباما في إستراتيجيته تجاه السودان أخذ منحى الموقف المحايد الذي ترك الخيار لمواطني الجنوب وأكد الحرص على استدامة السلام في حالة استمرار وحدة السودان, أو ولادة دولتين قادرتين على الحياة والتعايش بسلام في حالة الانفصال.
وفي كل الأحوال فإن الإدارة الأمريكية بدعم جماعات الضغط المؤيدة للجنوبيين تعتبر نفسها عراب الدولة الجنوبية المستقلة, وتتحمل مسؤولية خاصة تجاهها تجعلها متكفلة بحمايتها ورعايتها وتوفير أسباب الحياة لوجودها, وضامنة الدعم الدولي لها سياسياً واقتصادياً.
ومع أنه لا توجد مصالح أمريكية معلومة تفسر اهتمام واشنطن ودورها المحوري المتزايد في الشأن الجنوبي, إلا أنه على أقل تقدير يمكن القول إن الولايات المتحدة تعتبر دورها الحاسم في إنهاء أطول حرب أهلية في القارة الإفريقية, وتنفيذ اتفاقية السلام التي أفضت إلى ميلاد دولة الجنوب, قصة نجاح كبيرة للسياسة الخارجية الأمريكية الساعية لإنجاز بهذا الحجم في ظل الانتقادات المريرة لسياستها الخارجية خاصة في الصراع العربي الإسرائيلي, وفي حربيها في العراق وأفغانستان.

اقتصاد جنوب السودان.. قدرات وتحديات
على الصعيد الاقتصادي تملك دولة الجنوب مقومات مهمة, ولعل الموارد النفطية المحققة تأتي في الطليعة, فثلاثة أرباع الحقول النفطية السودانية التي تنتج نحو نصف مليون برميل يومياً توجد ضمن حدود دولة الجنوب, فضلاً عن الموارد الطبيعية الكبيرة الكامنة في القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني, وفي قطاع التعدين خاصة الذهب والمعادن الأخرى, توفر كلها عوامل جاذبة للمستثمرين الباحثين عن فرص في أرض بكر تحتاج للاستثمار في البنية التحتية, في الخدمات, والسلع.
ربما يتفق المحللون على أن أكبر التحديات التي تواجه دولة الجنوب الوليدة قدرتها على التماسك الداخلي في ظل طبيعة تركيبة المجتمعات الجنوبية المرتكزة على تجذر الانتماء القبلي, فعلى الرغم من أن الاستقلال يشكل دافعاً معنوياً مهماً للجنوبيين إلا أنه على الجانب الآخر يمثل تحدياً بالغ الأهمية, فالموقف النفسي المشترك تجاه الشمال كان عامل توحيد أساسي للقوى الاجتماعية في الجنوب إلى درجة أن استقر في الوعي العام أن الجنوب يمثل كتلة بشرية واحدة وموقفاً واحداً, غير أن انتفاء "العامل الشمالي" في توحيد الجنوبيين يخلف واقعاً جديداً يضعهم في مواجهة مباشرة مع واقع التعدد القبلي المحلي الذي لا يخلو أيضاً من عوامل فرز أخرى بسبب وجود الاستعلاء العرقي في رؤية القبائل الجنوبية لبعضها البعض, فضلاً عن وجود أسباب أخرى للصراع للاستحواذ على النفوذ أو الموارد من أجل البقاء.
وأورد تقرير دولي صادر عن الأمم المتحدة أخيراً أن نحو ألفي شخص لقوا حتفهم بسبب الحروب القبلية الداخلية بجنوب السودان في الأشهر الأخيرة كما نزح عشرات الآلاف، ووصف التقرير الدولي خسائر الاقتتال القبلي في الجنوب بأنها تفوق تلك التي حدثت في الفترة نفسها في إقليم دارفور الذي لا يزال يبحث عن السلام. وعلى الرغم من أن الحركة الشعبية تتهم المؤتمر الوطني الحاكم بتأجيج هذه الصراعات, إلا أن الثابت أن هذه النزعات القبلية وطبيعة دينامياتها الداخلية تمتد بجذورها إلى تاريخ بعيد يتجاوز الصراع الحالي بين الشمال والجنوب.
على أن ما يزيد من خطورة النزعات القبلية أنها تستخدم كأحد عوامل حسم التنافس والصراع على النفوذ داخل "الحركة الشعبية", فمن المؤكد أن "الحركة الشعبية" نجحت على مدار العقود الثلاثة الماضية منذ تأسيسها في العام 1983, في تقديم نفسها كممثل وحيد وشرعي للمطالب الجنوبية, وتأسست على قواعد عابرة للانتماءات القبلية, ونجحت إلى درجة كبيرة في الحفاظ على تماسكها الداخلي وتجاوزت بعض محاولات الانشقاق عليها, وامتد ذلك النجاح أيضاً بعد غياب الشخصية الكاريزمية لزعيمها الراحل جون قرنق, فخليفته سلفا كير أظهر براعة في تجاوز المرحلة الانتقالية البالغة الحساسية لعملية السلام بحركة موحدة حتى تحقيق الاستقلال.
ومن المؤكد أن الحركة الشعبية تواجه بعد إعلان الدولة الجديدة تحدياً غير مسبوق, فهل ستتمكن من المحافظة على تماسكها الداخلي ودورها في ظل الواقع الجديد؟ أم أنه ستحدث عملية فرز وإعادة تشكيل لموازين القوى داخلها, إذ ليس سراً وجود تباين وصراع بين أجنحة متعددة ظل تحت السيطرة بدافع الرغبة في عدم عرقلة مسار تحقيق الاستقلال, وبما أن قيادات الحركة الشعبية تمثل انتماءات قبلية مختلفة, فمن المحتمل أن يؤدي الصراع على كسب النفوذ في الدولة الجديدة إلى استدعاء الروح القبلية وتحريك نزعاتها وأدواتها مما يزيد من تعقيد الأوضاع الأمنية وانعكاس ذلك بالضرورة على تماسك واستقرار الدولة الوليدة.
التحدي الثاني الذي يواجه الجنوب يتصل بضعف البنية التحتية لدولاب الخدمة المدنية, والافتقار إلى مؤسسات الدولة الفاعلة التي تمتلك رصيداً معقولاً ولازماً من التقاليد والنظم المرعية في إدارة شؤون الحكم على نحو يضمن سلامة بناء كيان الدولة, وهو أمر يعود من جهة إلى تطاول أمد الحرب الأهلية, وكذلك إلى عدم وجود حياة مدنية مستقرة في الجنوب تتراكم فيها الخبرات, إلى جانب أن هناك اتهاما موجها للنخب الجنوبية التي توفرت لها تجارب بالقصور في مدى فهمها للمسؤولية العامة والتزامها بمقتضيات ذلك.
وللحركة الشعبية نصيب كبير من المسؤولية في عدم التهيؤ بدرجة كافية لمتطلبات إدارة الدولة في مرحلة الاستقلال وهي التي حكمت الجنوب منفردة على مدار السنوات الست الماضية, فحكومة الجنوب لم تنقصها الموارد وقد كان النفط يدر عليها دخلاً مقدراً, فضلاً عن بعض المساعدات الدولية التي تلقتها, ولكنها في المقابل حققت القليل من الإنجازات الفعلية على أرض الواقع بدرجة تردم الهوة بين واقع التخلف المدقع, واحتياجات بناء الدولة, وقد تعرضت لانتقادات لاذعة من حلفائها بسبب تفشي ظاهرة الفساد في أوساط النخبة الحاكمة. بل إن بعض المانحين الدوليين أحجموا عن الوفاء بالتزامات ومساعدات اقتصادية تعهدوا به خشية أن تصب في جيوب المتنفذين, ولا تجد المشروعات المستهدفة طريقها للتنفيذ.
والتحدي الآخر الذي يواجه الجنوب يتعلق بالمقومات الاقتصادية لبناء الدولة, فالمعلوم أن عائدات النفط التي كانت تتقاسمها حكومة الجنوب مع الحكومة المركزية تشكل نحو ثمانية وتسعين بالمائة من إيرادات موازنتها العامة, وعلى الرغم من أنه لم يتم حتى الآن الاتفاق على صيغة جديدة بشأن تقاسم عائدات النفط مع الخرطوم, وهو أمر لا مناص منه بسبب أن النفط المنتج في الجنوب لا يمكن استغلاله تجارياً وتصديره إلا عبر المنشآت الواقعة في الشمال, فليس من المنظور أن تكون هذه العائدات, حتى في ظل اتفاق مع الشمال, كافية لتمويل خزينة الدولة الجديدة في ظل عدم وجود مصادر أخرى حقيقية للدخل.
والاعتماد شبه الكامل لدولة الجنوب على العائدات النفطية يضعها أمام مأزق أكبر خلال الفترة القليلة القادمة, فقد لفت تقرير أعده خبراء نرويجيون إلى أن الثروة النفطية للجنوب آخذة في النفاد في غضون خمس سنوات ما لم يتم تطوير الحقول الحالية أو النجاح في استكشافات نفطية جديدة.
وإنشاء بدائل اقتصادية توفر مداخيل للدولة الجديدة يتطلب انتظار عدد من السنوات في ضوء الضعف الشديد للبنية التحتية الضرورية لتشجيع وجذب الاستثمارات الخارجية, والتي تساعد على تحريك الموارد الطبيعية الكامنة واستغلالها اقتصادياً. ومن الواضح أن هذه التحديات الجمة على الجبهة الاقتصادية ستجعل دولة الجنوب تعتمد بدرجة كبيرة على المعونات الخارجية لتغطية العجز الكبير في مواردها المالية.
ولعل ذلك قد يخفف إلى حد ما الضغوط الاقتصادية الهائلة التي تجابهها دولة الجنوب, إلا أن ذلك لن يشكل حلاً جذرياً يعول عليه, خاصة في ضوء التجربة العملية, فالمجتمع الدولي خاصة الولايات المتحدة وحلفاءها الذين أظهروا حماسة كبيرة لعملية السلام السودانية وتعهدوا ببضعة مليارات من الدولارات في مؤتمر دولي عقد في أوسلو بعض أشهر قليلة من توقيع الاتفاقية لدعم السلام وإعادة التعمير ومساعدة الجنوب على تجاوز آثار الحرب, لم يف أكثرهم إلا بنذر يسير من تلك التعهدات, وليس واضحاً ما الذي يحدث في المستقبل لما أعلنته الإدارة الأمريكية من أنها بصدد حث الأمم المتحدة على تبني عملية دعم للدولة الجديدة.
واللافت أن الولايات المتحدة نفسها على الرغم من أنها نهضت للقيام بدور العراب للدولة الجنوبية إلا أنها لم تساعد الجنوبيين على النحو الذي كانوا ينتظرونه فالمساعدات الأمريكية لحكومة الجنوب لا تتعدى الثلاثمائة مليون دولار سنوياً, ولم تسهم بصورة فعالة في البنيات التحتية للجنوب.

علاقة الجنوب والشمال مسألة حتمية
تبقى طبيعة العلاقة مع الشمال التحدي الأكبر الذي يواجه الدولة الجنوبية, وهي علاقة يسودها في الوقت الراهن قدر كبير من الالتباس وعدم وضوح الرؤية المستقبلية بشأنها من قبل الطرفين, فالانفصال فصم عرى العلاقة السياسية بين الشمال والجنوب في بعدها السيادي, إلا أن ذلك لم يحسم إلا وجهاً واحداً من وجوه العلاقات المتشابكة بين الطرفين التي تشبه إلى حد كبير العلاقة بين توأم سيامي يشتركان في أكثر الأجهزة الحيوية التي تبقيهما معاً حيين, فإذا ذهبت تفصلهما فسيعني ذلك القضاء على أحدهما إن لم يقض عليهما معاً.
فمع حدود مشتركة بينهما يبلغ طولها ألفين ومائتي كيلومتر, يعيش على جانبيهما أغلب سكان الشمال والجنوب, وتتداخل أسباب الحياة للبشر والحيوان وسبل كسب العيش العابرة للحدود, وقضية أبيي مثال حي. وحقيقة أن استغلال النفط لتوفير الموارد المالية التي يعتمد عليها الطرفان ليس ممكناً ولا وارداً بغير تعاونهما بسبب توزع منشآت الصناعة النفطية بين الشمال والجنوب على نحو يجعل تكاملهما حتمياً, كل تلك الأسباب تجعل مسألة وجود علاقة خاصة بين دولتي السودان المنقسمتين تميزهما عن كل علاقاتهما مع دول الجوار أمراً لا يحتمل رهاناً آخر.
فمن ناحية موضوعية تبقى أسباب التواصل والتعاون بين دولتي الشمال والجنوب أمراً لا فكاك منه, وتؤكد تصريحات القادة السياسيين في الحزبين الحاكمين على هذه الحقائق, ولكن عندما نأتي لأرض الواقع تبقى الحقيقة هي أن هناك قضايا بالغة الخطورة لا تزال عالقة بلا حل, وأن تصريحات السياسيين المتفائلة وحدها لا تكفي. إضافة إلى أن التوجس والتوتر والاتهامات المتبادلة ظلت هي السمة الرئيسة لعلاقة طرفي اتفاقية السلام على مدار السنوات الماضية على الرغم من الشراكة السياسية بينهما التي اقتضتها ضرورة تنفيذ الاتفاقية.

عبرة الحرب الإثيوبية الإريترية
والعبرة في التجربة الإثيوبية الإريترية ماثلة إذ أنه على الرغم من حدوث التقسيم بتراض تام بين قادة البلدين, وقد جمع التحالف السياسي والعسكري بين الحزبين الحاكمين في أديس أبابا وأسمرا, إبان النضال المشترك ضد الحكم الإمبراطوري ثم الشيوعي بقيادة منقستو هايلي مريام ونجاحهما معاً في إسقاطه, إضافة إلى حقيقة أن النخبتين الحاكمتين تستندان إلى خلفية دينية وعرقية واحدة , ومع ذلك لم يحل دون دخول الطرفين في حرب ضروس بعد سنوات قليلة من استقلال إريتريا بسبب صراع المصالح الوطنية للدولتين الذي حول تحالفهما إلى خصومة بائنة , ولا يزال العداء بينهما محتدماً ونذر تجدد الحرب بينهما قائمة.
وهو ما يثير تساؤلات بشأن المستقبل الذي ينتظر العلاقة بين دولتي شمال وجنوب السودان, إذ أنه على الرغم من ظاهر التراضي الذي تم به الانفصال, وإدراك أن تحقيق المصالح المشتركة للدولتين أمر يفرض تعاونهما, إلا أن خلفية التقسيم الذي تم على تماس العرق والدين, وصعوبة فك الارتباط بين المصالح المتشابكة للدولة المنقسمة, وبقاء قضايا محورية عالقة بالغة التعقيد عصية على الحلول حتى الآن, فضلاً عن الصراع الذي يغذيه تنافس القوى الإقليمية لتحقيق مصالحها توفر كلها وقوداً كافياً لإشعال حرائق حروب مباشرة بينهما أو بالوكالة.
_______________
كاتب ومحلل سوداني       
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات       


 

آراء