عن أثرياء المدينة: عبدالمجيد منصور
فوانيس
د. إشراقه مصطفى حامد
fawanesi@hotmail.com
فيينا – النمسا
وجه بلادى النضر (2)
لن أنسى يومها حين ذهبت الى أحد أثرياء المدينة, حكوا لى عنه وانه لا يبخل بالمساعدة. الى هناك مضيت يدفعنى الرجاء فى ان يدعمنى ولو بابتسامة. فى المكتب الأنيق جدا جلست السكرتيرة, ليس هناك ملمح مشترك بينى وبينها وكنت اضافة الى عملى الغير متفرغ فى الصحافة امارس مهنة السكرتارية ولا يبدو فينى اى ملمح اناقة تدل على انى اشاركها المهنة.
العافية تنز من خديها, شاغلت نفسى باغنية حقيبة – اقيس الفم بودعة- كان قبل ان تكون الشفايف المكتنزة موضة من موضات عالمنا المتعولم., قلت فى سرى – ربنا يبارك ويزيد-, صدمنى تعاليها وهى تامرنى ان انتظر بالخارج حتى دون ان تعرف ماهو طلبى, فى الخارج انتظرت وحكيت سرا لامرأة تحمل طفلها وفى البطن آخر لم يرى سوى دنيا رحيمة وهو سابحا فى رحمها, لا يلوثه هواء قاسى ولا يشغل باله طنين الانانية والظلم. فى يدها ورقة مهترئة, تشبه الورقة التى احملها فى يدى, قالت ان زوجها طريح – الاستبالة- وانها جاءت من مكان بعيد, من ضهارى النيل الازرق ويحتاج الى دواء عاجل..
كنت خائفة ان تسالنى عن حالى وعن الورقة المهترئة التى امسك بها, كانت لنا ملامح واحدة, ملامح حزينه اقتسمتها معنا عينى صغيرها. لا ادرى كم كان عندى حينها مما جمعت ولكنى ودون تردد منحتها له لتشترى الدواء لزوجها وقبل ان تذهب اكلنا سويا فول بكمية مهولة من البصل وشربنا ليمونا لا تخلو رائحته من فساد السوق. ويامشاوير المحبة تقاطعت مع فرحتها وهى تقبض على ارواق مهترئة, مضت ودندنت فى سرى وكانت بى رغبة ان اغنيها باعلى صوتى لولا الخوف من ذلك العسكرى الذى تشبه قسمات امانية قسماتى واخاديد تلك المرأة التى تشترى الآن الدواء لزوجها.
تذكرت السكرتيرة, ونظرت الى ذلك الكرسى الخالى, اما كان بالامكان الانتظار عليه ؟ قلت معها حق, فكيف يمكننى الجلوس بكل هذا الغبار الذى احمل فى هذا الكرسى الوثير؟ شكرتها فى سرى بان انتظارى خارجا اتاح لى ان ارى ذاتى فى عيون تلك المرأة التى جاءت من – ضهارى القلب- غنيت حال عجاج الفرحة التى خلفتها ودعواتها الطيبة ان يفتحها الله لى دنيا وآخرة.. كنت اعرف ان الله تعالى
يستجيب لدعوات المقهورين.
(كل وجعة تفرهد الاحساس جوايا
وابقى عايش للعوينات الوفية)
مازال الكرسى الوثير ينتظر احدا من اولئك القوم (المتمرين), ابتسمت وانا احاول اقنع نفسى, بان روحى – متمرة- بالامل. مرت ساعة من الزمان وطال انتظارى- وراى شنو- قلت فى نفسى, انا هنا لهدف محدد ولامر ليس بيدى- فقرانه وشكاية كمان؟
السكرتيرة – المتمرة جدا- تنادينى وبالكاد تخرج من عتبة الباب حيث السموم ورائحة الليمون والبرتقال العطنة التى تفوح فى العمارة, قلت لو خرجت خطوة لساحت, فهى مثل قطعة الايسكريم ام ترانى كنت اشتهى ساعتها دندرمة تبل جفاف ايامى؟
قالت لى ان المدير سوف ينظر فى طلبى وعلى ان امر بعد اسبوع, خرجت مشروع فرح للشارع الذى بدأ لى عريضا ومهولا, كونه سوف ينظر فى طلبى فهذا فى حد ذاته انتصارا.
بدأت أعد حصى الأيام السبعة التى مرت كسلحفاة الواقع, امنى نفسى حينا واحبطها احيانا حتى لا تحبط
مرت الايام ثقيلة, شاحنة تجر اشواك العمر خلفها. فى اليوم المحدد لبست ذات ايسكيرت الجينز البالى وقميص امين الاخضر الفاتح, كان اليوم سبتا وصوت امى حليمة يشجى روحى – السبت اخضر- اسكيرتى الجينز الذى اشترته لى ست البنات بنت خالى, فهى تنتمى ايضا الى هذه الاسرة التى عرفت قيمة العمل منذ ان قالوا للدنيا انّا هنا... كانت تعمل عاملة فى مصنع نسيج كوستى وكانت تغزل لنا مايجود به حنانها الذى تعبر عنه بافعال تترواح فى فرحها. اشترت لى يومها هذا الاسكيرتى وهو مستخدم, ربما ماتت صاحبته, روحها طيبة ان منحتنا قدرة ان نشتريه بمبلغ بسيط, كنت مقتنعة بذلك وعبدالرحمن الذى يحتج حين تقول له عبدالرحمن حافى دون اللقب الذى يحبه – عبدالرحمن الفلاتى- يجلب الملابس القديمة والجديدة من نواحى بوردتسودان والبحر الاحمر وجدة, ملابس تفوح منها رائحة السنوات المعتقة, اسكيرتى الجينز الذى رافقنى بعد تخرجى والى حين سفرى. وقفت امام الباب وانتظرت ان تسمح لى بالدخول, كنت خائفة على من خدوش الهواء الرطب, فوجهى تعلم على مصاقرة الشموس اين كانت واين تطلع واين تغيب.
بعد ان نظرت بطرف خفى الى شكلى الذى حرصت ان يكون مدهونا ببقية زيت سمسم الفول الذى تناولته مع أمين محمود- زوربا- فى مكتبه , الا انه اغبشا لا محالة , قطعت تسلسل خواطرى بان طلبى رفض وانه لا يتبرع الا لمرضى الكلى والقلب والقضروف, و.... و حرام عليكم- قالتها دمعتان وقفتا فى حدقات إحباطى. طافت دموعى فى عينى تلك المرأة التى التقيتها الاسبوع الماضى هنا تقف فى انتظار ان يستجاب طلبها بشراء الدواء لزوجها المريض.. تذكرت الملح الذى اكلناه سويا وتذوقت ملح دموعى التى سالت حالما خرجت للشارع اغنى..
(يامشاوير ضيعنى فتشى الزاد للمشاوير الشقية
فترينى ودردرينى انا اصلى ليك مانى هين)
القضروف كان فقرى الذى ما استطاع ان يعسم ظهر الأمل الذى اتكأت عليه سنوات عمرى.
الدرب كان طويل وشائك والحزن سيد الزمان وكل الامكنة. تقرفصت بعدها سبعة ايام وسبعة ليالى عجاف قمت بعدهن اداعب قمحات الحلم..ياطالع الشجرة..
جيب لىّ معاك بقره
تحلب تعشينا
وعشايا ان اجد مخرجا بعد ان سدت كل المنافذ فى وجهى.. بلدى يابلدى..
ياعجاج البحر.. يامشاوير.. ياعقد جلاد دروبى, غنوا لاشد – جمال الجهدية-..
وخرجت اغنى ( لا المدامع وقفتنا ولا الحكايات الحزينة), و ( شيل شيلتك بقيت للنص) واضحك ساخرة على نفسى فانا لم ابارح الامنيات العصية.
يتبع