إلى حيث العشب أكثر اخضرارا: خواطر حول “هجرة الأدمغة”

 


 

 


أريق حبر كثير حول أمر "هجرة الأدمغة" أو "هجرة العقول" أو"استنزاف الكفاءات" (أو ما يسميه الغربيون بتعبير واحد  له جرس موسيقي Brain drain) حتى حسبت أنه من الموضوعات التي "قتلت بحثا" كما جرى التعبير الشائع عندنا، وليس هنالك من مجال لمزيد من القول أو البحث حوله. يبدو أن الأمر ليس كذلك، إذ أنني وجدت أن هنالك ما لا يقل عن22190 بحثا منشورا وردت فيها عبارة "هجرة الأدمغة/ العقول"، وذلك فقط في مجال العلوم الطبية الأساسية والإكلينيكية، وربما تكون هنالك أعداد مماثلة للبحوث في مجال هجرة الأدمغة في مجالات أخرى مثل تقنية المعلومات وغيرها من المعارف التقنية. ليس هنالك من شك أن أمر هذه المشكلة (عند البعض) أو الفرصة (عند آخرين) لن تعرف قولا فصلا في غد قريب.
تعرف هجرة الأدمغة/ العقول ببساطة (لا تخلو من زيف) بأنها نضوب أو فقدان الأفراد من ذوي المهارات الفكرية أو التقنية، وبحسب تعريف للأمم المتحدة فهي تعرف بأنها:" حركة الأشخاص من ذوي المهارات العالية، في اتجاه واحد، من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة، وهو الأمر الذي يفيد البلدان الصناعية المستضيفة".
تعرف هجرة الأدمغة/ العقول ببساطة (لا تخلو من زيف)، بأنها نضوب أو فقدان الأفراد من ذوي المهارات الفكرية أو التقنية. وبحسب تعريف للأمم المتحدة، فهي تعرف بأنها:" حركة الأشخاص من ذوي المهارات العالية، في اتجاه واحد، من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة، وهو الأمر الذي يفيد البلدان الصناعية المستضيفة".
وإن عدنا للتاريخ، وصدقنا المقولة الكنسية التي تفيد أنه "لا جديد تحت الشمس"، فسنجد أن "هجرة الأدمغة" ليست بالأمر الجديد، فقد ذكر بعض المؤرخين أن هذه الهجرة ظلت تحدث منذ عصور قديمة، في أو قبل "العصور المظلمة" (ويقصد بها – على اختلاف في التعريف- العصور الوسطي التي تلت سقوط الإمبراطورية الرومانية وإلى القرن الثالث عشر إلى الخامس عشر الميلادي)، مثل هجرة الأدمغة من الإمبراطورية البيزنطية إلى العالم الإسلامي، وإلى إيطاليا في عصر النهضة، مما ساهم في نقل الكثير من المعارف الكلاسيكية لتلك البلدان. وهاجرت في القرنين التاسع عشر والعشرين أعداد كبيرة من المتعلمين من أوروبا إلى أمريكا الشمالية.
بدأت في مطلع الأربعينات من القرن الماضي موجة هجرة كبيرة قوامها المهنيون الأوربيون الذين صوبوا وجوههم نحو بريطانيا والولايات المتحدة. وجاء في تقرير لمنظمة الصحة العالمية صدر عام 1970م أن نحو 90% من هؤلاء المهاجرين كانوا من الأطباء. وهم قد استقروا في خمس دول، هي بالتحديد كندا واستراليا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وما أن جاء عام 1972م، حتى كان 6% من جميع أطباء العالم (وعددهم 140000) يعملون في بلاد غير مواطنهم الأصلية، وثلاثة أرباعهم في ثلاث دول فقط، هي كندا وبريطانيا والولايات المتحدة ا الأمريكية. أتى أغلب المهاجرين لهذه الدول من دول آسيوية تتحدث بلسانها، مثل الهند و وباكستان وسيريلانكا. 
سنركز في هذا المقال المختصر على المضار (والفوائد أيضا) التي تحيق بالدول "المصدرة" للأدمغة، والفوائد  (والمضار أيضا) التي تجنيها الدول المستضيفة (اقرأها المستوردة) لها في مجال العلوم الطبية بأنواعها الكثيرة وأطيافها المختلفة؛ إذ يتفق معظم الباحثين على أن لهجرة الأدمغة فوائد ومضار للدول والأفراد، وليس هنالك من خاسر خسارة كاملة، أو كاسب مكسبا تاما، وهذا من طبيعة الأشياء. ولعل هذا يصدق أيضاً على من يسمون عندنا "المغتربين" من الذين هاجروا – طوعا أو كرها- للعالم الغربي، وهم كثر.
تتلخص الفوائد التي تجنيها الدول "المصدرة" للأدمغة في الأموال (بالعملات الصعبة) التي تحصل عليها من تحويلات المهاجرين، كمساعدات شخصية لأهلهم ومن يعولون، وأيضا ما يستثمرونه في مشاريع تنموية وخدمية في بلادهم الأصلية. فعلى سبيل المثال تقوم الفلبين بتدريب أعداد كبيرة من العاملين في الحقل الصحي تفوق احتياجاتها الفعلية، وذلك بقصد "تصدير" هؤلاء للعمل في الدول العربية والغربية الغنية. وتعتمد الفلبين – جزئيا على الأقل- على تحويلات هؤلاء في إنعاش اقتصادها. يعمل كذلك أطباء كوبيون في جنوب أفريقيا وزيمبابوي، ويحولون مدخراتهم لبلادهم النهمة للعملات الصعبة، حيث يساهم التحويل الرسمي عبر المصارف في زيادة المدخرات والفوائد ومضاعفة فرص التوظيف والدخل القومي على وجه العموم.
تؤدي هجرة الأدمغة – كما هو متوقع- إلى زيادة الضغوط على من بقي من العاملين في بلاده، فيزداد حجم العمل الملقى على عاتقهم، وتسوء ظروف عملهم. ويفضي ذلك بالطبع إلى تقليل مستوى الرضاء الوظيفي، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى إضعاف نظام الرعاية الصحية في البلاد على وجه العموم، وتقليل جودة الخدمات المقدمة. من ناحية أخرى، قد لا تكفي قيمة التحويلات التي يبعث بها من هاجروا خارج البلاد لتعويض الخسارة الناجمة عن فقدان مهاراتهم وخبراتهم في بلدانهم الأصلية؛ وقد لا تستغل تلك التحويلات في استثمارات تجارية مفيدة، بل تستنفذ في مقابلة الاحتياجات الاستهلاكية، مثل الطعام والعلاج والملابس. وقد تشجع تلك التحويلات الاستيراد (من الدول المتقدمة عادة)، وبذا تقلل من فرص التصنيع المحلي، وهذا – كما هو متوقع- يضر بالإنتاج المحلي وبالوظائف وقطاعات التصدير.
يعتقد بعض الخبراء في منظمة الصحة العالمية أن الضرر الذي يسببه فقد طبيب واحد من دولة نامية وهجرته لدولة متقدمة، يفوق الفائدة التي تجنيها تلك الدولة. تؤدي هجرة الأدمغة في الدول النامية إلى إضعاف قدرتها على توفير التدريب اللازم لكوادرها المختلفة. فعلى سبيل المثال، تم إغلاق مراكز بحثية في دولة نامية (؟!) مثل جنوب أفريقيا، بسبب حدوث موجات هجرات جماعية للعاملين بهذه المراكز البحثية لدول متقدمة (ربما بسبب الاضطرابات والتغيرات السياسية التي أعقبت انتهاء نظام الفصل العنصري).
تستفيد الدول المستضيفة من هجرة الأدمغة القادمة من الدول الفقيرة في توفير أموال طائلة  كانت ستصرف في التعليم والتدريب لمئات، بل آلاف العلماء والتقنيين والأطباء والممرضين. ويعني ذلك أن هذه الدول الغنية أصلا (كاستراليا وكندا وفرنسا) تزداد ثراء على حساب الدول الفقيرة التي قامت بالصرف على تعليم وتدريب شبابها داخليا، وخارجيا أيضا، في ذات الدول الثرية التي تستقبل شبابها المؤهل! تستفيد الدول المستضيفة من المهاجرين إليها من الدول الفقيرة في توظيفهم في أماكن ومواقع ووظائف لا تجتذب الكثير من مواطنيها. ومن الأمثلة على ذلك هي وظائف العمل في المستشفيات الريفية الصغيرة، خاصة في تخصصات مثل الطب النفسي والعقلي، وفي أماكن محرومة أو ذات طقس سيء. قدر بعض الخبراء قبل سنوات عديدة أن الدولة الغنية المستضيفة للطبيب المهاجر الذي يعمل في وظيفة كانت ستظل شاغرة تكسب نحو 20 ألف دولار عن كل طبيب (بناء على حسابات تأخذ في الاعتبار تكلفة بناء وصيانة الجامعات التي تخرج هؤلاء الأطباء).
لا شك أن لقبول الدول الغنية للمهاجرين من الأطباء اثر سيء على تطوير القدرات المحلية في مجالات تدريس وتدريب الخبراء في مجالات كثيرة. فقد أوردت إحصائيات رسمية أن المستشفيات الأمريكية تستقبل سنويا نحو 5000 خريجا أجنبيا للعمل في وظائف أطباء متدربين، بينما ترفض كليات الطب في الولايات المتحدة قبول آلاف الطلاب الأمريكيين من الحاصلين على درجات ممتازة  في سنوات دراساتهم الجامعية الأولى (يتطلب القبول في كليات الطب البشري والبيطري وطب الأسنان الحصول على درجة البكالوريوس في العلوم أولا). لابد من تذكر أن تعيين الأطباء الأجانب في المستشفيات الأمريكية يتم غالبا عن طريق وكالات توظيف عالمية تفرض رسوما عالية. وقد سجلت حالات استغلال عديدة للمهاجرين ضد هذه الوكالات.
نشرت الكثير من النظريات حول الأسباب (الاقتصادية) لهجرة الأدمغة، نلخصها في إيجاز في الآتي:
1 النظرية الفردية: وهي تقول بأن المهاجر فرد بالغ عاقل يبحث له عن مكان يؤمن له أعلى راتب ممكن وأفضل مستقبل.
2 النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة: وهي تقول بأن العمالة تنتقل (طبيعيا) من الدول المتدنية الأجور للدول المرتفعة الأجور.
3  اقتصاد الهجرة الجديد: وهو يقرر أن الهجرة ليست قرار يتخذه الفرد باختياره، وإنما هو قرار يتخذه أفراد عديدون، مثل الأقرباء وأفراد العائلة.
4 سوق العمل المزدوج: وهذه النظرية تقول بأن الهجرة ليست مرحلة مؤقتة، بل عملية لها ملامح بنيوية ودائمة وضرورية في المجتمعات الحديثة المتقدمة.
5 نظرية أنظمة العالم: وهي مبنية على عملية صنع الفرد للقرار وشبكات اتصال المهاجرين، وذلك ببحث كيفية تدفق وتوافق البضائع ورأس المال (وهذه نظرية غامضة بالنسبة لي لا أجد لها تفسيرا أوضح).
6 نظرية الدفع والسحب: نظرية الدفع والسحب PUSH-PULL للهجرة تصور حركة السكان وكأنها عملية دفع أو سحب بواسطة العديد من العوامل في عملية البحث عن فرص أفضل في الحياة. عملا بنظرية "الصق/ ثابر وأبقى/ أمكث" . تشمل عوامل اللصق/ المثابرة الأسباب التي دعت الفرد للبقاء في موطنه الأصلي، والتي ينبغي التغلب عليها قبل أن تأتي عوامل "الدفع والسحب" وتجبر الفرد على اتخاذ القرار بالهجرة. أما عوامل البقاء / المكوث فهي أسباب عدم اختيار المهاجر للرجوع لموطنه الأصلي وبقائه في مهجره.
تلك هي النظريات الاقتصادية التي وضعت لفهم اقتصاديات الهجرة. أما الأسباب الذاتية (الداخلية) التي يقول بها الذين يهاجرون من بلاد فقيرة لبلاد غنية، فتتلخص في الآتي: ضعف المرتبات، وعدم الرضاء الوظيفي، وقلة أو عدم وجود فرص للتعليم والتطوير المهني، وسوء ظروف العمل. هنالك عوامل خارجية  تساهم في دفع الخبير للهجرة، منها تدني مستوى الحياة في بلاده، وكثرة الضغوط الاجتماعية، وشيوع الجريمة، والصراعات العرقية فيها، وعدم الاستقرار السياسي.
يتساءل بعض الباحثين عن إمكانية تحويل "هجرة الأدمغة" إلى "اكتساب الحكمة Wisdom gain". ففي البلدان "المصدرة" للأدمغة، مثل جنوب آسيا، يسود قلق من أن تؤدي موجات الهجرة المتواصلة للغرب في إحداث نقص في الكوادر الصحية العاملة بالبلاد، مما قد ينذر بكوارث لا يمكن التنبوء بنتائجها. لذلك يحاول واضعو السياسات الصحية في هذه البلاد إبطاء، أو إيقاف، أو حتى عكس هذا المد. قد لا تصيب هذه المحاولات نجاحا كبيرا بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد المصدرة للأدمغة؛ وكذلك بسبب شيوع مفهوم العولمة؛ وأيضاً بسبب الزيادة المستمرة في الطلب في الدول المستضيفة لهذه الأدمغة؛ وربما بسبب تكاثر أعداد من يعرفون بجيل "الطفرة السكانية" من المسنين في تلك البلاد.
يرى البعض أن الغربيين قد نجحوا في تحويل مفهوم "هجرة الأدمغة" من مفهوم يضمر معان وأبعاداً سيئة إلي مفهوم أكثر قبولا (على الأقل لغويا) بتسميته "حركة الكوادر المهنية Professional mobility" أو "تداول الأدمغة Brain circulation" ، وفي تحويل ما يراه البعض في أمر "هجرة العقول" في الدول النامية من "مشكلة" عفا عليها الزمن إلى منظور أوسع ذي صبغة "عالمية" يؤمن بضرورة تقييم أداء المهنيين والأنظمة أينما كانت.
كما يرى البعض من الغربيين أن "هجرة الأدمغة" صارت في قرننا الحادي والعشرين من "حقائق الحياة" التي ما للاعتراف بها من بد. وبالنظر إلى توسع الشقة في الأجور في البلدان المصدرة والمستقبلة للمهاجرين من الخبراء في المجالات المختلفة (خاصة الطبية)، فمن غير المحتمل في غد قريب أن تتمكن الدول النامية من زيادة أجور العاملين فيها بما يكفي، لجعلهم يصرفون النظر عن التفكير في الهجرة لبلاد العشب فيها أكثر اخضرارا. وهنالك بحث نشر في مجلة "السياسة الصحية في عام 2003م  يشير لفشل باكستان (على سبيل المثال)، في الاحتفاظ بعلمائها وأطبائها رغم محاولة الدولة زيادة مرتباتهم (تأمل في نظرية الدفع والسحب المذكورة أعلاه في رقم 6).
يرى باحثان من جامعة بيتريسبيرج الأمريكية في بحث نشر لهما في عام 2005م في مجلة الجمعية الملكية الطبية أن العلماء الذين هاجروا لأسباب مختلفة للغرب هم بمثابة "أصول يمكن استعادتها Recoverable assets"؛ ويمكنهم لعب دور هام في تنمية بلادهم الأصلية إن أتيحت لهم الفرص المناسبة  من خلال قنوات خلاقة، تشمل (ولا تقتصر) على الاستفادة من هؤلاء المهاجرين الخبراء في مهام قيادية محددة لبناء قاعدة علمية مبنية على أساس متين. 
شهدت وعرفت – على المستوى الشخصي- عددا من الخبراء في المجر ممن فروا من بلادهم عقب الثورة (الفاشلة) على النظام الشيوعي في عام 1956م إلى أمريكا الشمالية، وظلوا يساعدون بلادهم الأصلية ما وسعتهم الحيلة وبمختلف الطرق، حتى في أيام الحكم الشيوعي الذي فروا من "جحيمه".    
من الأمور غير المطروقة كثيرا  في الأدبيات العلمية  مساهمة المنظمات غير الحكومية في تفاقم أزمة هجرة الموارد البشرية المؤهلة في أفريقيا، وذلك عن طريق جذب العناصر المؤهلة التي تعمل في المجالات الصحية الحكومية لهجر العمل في خدمة الحكومة، والالتحاق بالمنظمات الطوعية في داخل البلاد، والتي تدفع أجورا تفوق كثيرا ما يتلقاه الذي يعمل في الوظيفة الحكومية، إذ أثبتت الإحصائيات في بلد نامي مثل موزنبيق أن الرعاية الصحية في ذلك البلد قد تضررت، وكثيرا، بتسابق الأطباء  والممرضين على الهروب من خدمة المؤسسات الحكومية (العامة) والعمل في المنظمات (الأجنبية في الغالب) في داخل البلاد، والتي تعطيهم أجورا تفوق كثيرا ما تستطيع الحكومة تقديمه لهم. خلق ذلك الوضع كثيرا من التذمر وعدم الرضاء الوظيفي وسط العاملين بالمؤسسات العلاجية والوقائية الحكومية، وهو ما ساهم في جعل الوضع الصحي السيئ  أصلا أكثر سوءا.
لم أقع – بعد- على أي كتابات علمية منشورة عن هجرة الأدمغة السودانية إلى البلاد العربية والغربية وغيرها، ولكن وجدت بعض المقالات المتفرقة في هذا الموضوع في مجلة "آفاق الهجرة" وهي تصدر عن مركز السودان لدراسات الهجرة والتنمية والسكان، ومن ذلك ملخص رسالة للماجستير عن "الهجرة إلى دول الخليج وأثرها على التنمية الاقتصادية في السودان بين 1995 – 2007م". نتمنى أن يولي خبرائنا في الداخل والخارج هذا الأمر بعض العناية، والكتابة عنه في الدوريات العالمية والمحلية (المحكمة الرصينة).
نقلا عن "الأحداث"



badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء