البرنامج الإقتصادي الثُلاثي الإسعافي بين المصداقية والتزلف (3/3)
مهدي إسماعيل مهدي
16 November, 2011
16 November, 2011
mahdica2001@yahoo.com
- إستعرضنا في الحلقتين السابقتين محاور البرنامج الإقتصادي الإسعافي الأربعة، وهي: (السياسة النقدية الرامية إلى إستقرار سعر صرف العُملة والسيطرة على مُعدل التضخم، السياسة المالية بشقيها "زيادة سلع الصادر الأربعة وإحلال سلع الواردات الأربعة"، والإستقرار الإجتماعي). وأوضحنا إستحالة تحقيق هذه الأهداف في ظل نظام مصرفي إسلامي في طور التجريب ويشوبه فساد كبير، وتدني الإنتاج والإنتاجية (Low production & productivity) وتفشي الفساد، وسوء الإدارة العامة، وتسييس الخدمة المدنية نتيجة الخلط بين الدولة والحزب، وسوء العلاقات مع المجتمع الدولي، وتأجج أوار الحرب.
- إضافةً إلى أن ما يُسمى بالبرنامج الإسعافي ليس أكثر من ديباجة تمهيدية تُزين بها مُقدمة أي خُطة إقتصادية، فإستقرار سعر الصرف والسيطرة على التضخم وزيادة الصادرات وإحلال الواردات وترشيد النفقات والمحافظة على الإستقرار الإجتماعي، أهداف عامة لا يجوز أن تُسمى برنامجاً إسعافياً، ويُصبح الأمر مُجرد شعارات إنشائية ما لم يقترن بآليات علمية مدروسة، وفي حالة دولة الإنقاذ لا يعدو هذا البرنامج أن يكون محض تخدير يُكذبه الواقع والضائقة المعيشية المُستفحلة مطلع كُل صُبح. وفي غياب الآليات العلمية التفصيلية يتحول إلى مُجرد قائمة مُشتريات (Shopping list) لشخص مُفلس (Ineffective demand)، وتمنيات حالمٍ فقير يُعزي النفس بالأماني الخُلب (If wishes were horses, beggars should ride).
- كما تشي الطريقة التي صيغ بها البرنامح إلى تضارب الإختصاصات بين البنك المركزي المُناط به وضع السياسة النقدية ومراقبة تطبيقها والإشراف عليها، وبين وزارة المالية المسئولة عن السياسة المالية "ضبط الإيرادات والنفقات"، وهنا لابُد من التساؤل عن دور المجلس القومي للتخطيط الإستراتيجي، ومحله من الإعراب في هذه الجبانة الهايصة!!، إذ يبدو أنه مجرد ديكور لإيجاد وظيفة لأبو الكلام الإستراتيجي في مواسم الإنتخابات والمفاوضات مع الحركات الناطقة بالإنجليزية!!.
- إن البديل لهذا التهريج "الذي لا يجيب ولا يودي" كما وصفه الخبير الإقتصادي/ د. بشير حسن بشير، لا يحتاج إلى مصباح ديوجين لإكتشافه، فهو من الوضوح بحيث يستطيع أي طالب إقتصاد في سنته الأولى أن يضعه بدون عناء، بشرط أن يكون صادقاً مع نفسه والآخرين، وقادراً على أن يصدح بكلمة الحق في وجه سُلطان جائر وجاهل. فالإقتصاد السوداني كالمريض الذي يُعاني من سكرات الموت بعد بتر رجليه وإنسداد شريانه التاجي، وإستمرار نزيفه من بقية أطرافه في أبيي وجبال النوبة والنيل الأزرق، ومن ثم تداعي كافة أجزائه بالسهر والحُمى والإحباط، ولذا فيجب أولاً إيقاف نزفه ومن ثم إدخاله غرفة العناية المركزة.
وبدون الدخول في مُصطلحات إقتصادية مُعقدة فإن البديل هو:
أولاً- إبقاف الحروب الأهلية الدائرة في دارفور وأبيي وجنوب كُردفان والنيل الأزرق، وتفادي الحرب مع دولة السودان الجنوبي "والتي يروج لها نذير الشؤم والطيب مُصطفى وغيرهما من بُغاث الطير" :-
من نافلة القول ان نُذكر بأن ذلك من شأنه أن يوفر فوراً المال المُنفق في شراء السلاح ووالذخيرة والعتاد الحربي الباهظ الثمن، وإدخار الطاقات المُهدرة في التدمير وتحويلها إلى التعمير، إضافةً إلى تحسين العلاقات مع المُجتمع الدولي والإستفادة من صناديق ومخصصات دعم المناطق الخارجة لتوها من النزاعات وغيرها من الآليات الدولية المُشجعة والداعمة للسلام والأمن والإستقرار الإقليمي الدولي، إضافةً إلى إمكانية الطلب "بعين قوية" من المجتمع الدولي إعفاء ديون السودان (38 مليار دولار)، بل والحصول على العون المالي والهبات والمنح بدلاً عن الشحدة من الوليد والشيخ حمد. كذلك من شأن إيقاف الحرب تحسين مناخ الإستثمار وجذب المُستثمرين، إذ أن الحديث عن الإستثمار في ظل هذه الحروب الضروس ليس أكثر من كذب على النفس لا طائل منه.
ثانياً- إعادة النظر بصورة جذرية في النظام المصرفي الإسلامي:
نحمد الله أن الرئيس/البشير، وبعد 22 عاماً من التجريب إقتنع أخيراً جداً بأن صيغة المُرابحة "الإسلامية إسماً" أسوأ من الربا اليهودي!، ولكن إلى متى يستمر قادة الإنقاذ في تعلم الحلاقة فوق رأس الشعب السوداني الفضل (والمؤسف أنهم يستوعبون الحقائق والبديهيات بعد أن تقع الفأس على الرأس!!) إذ إحتاجوا إلى عقدين لدفن المشروع الحضاري، وإلى أكثر من ذلك للتوقف وإعادة النظر في صيغة المُرابحة، وبعد خراب مالطة وإمتلاء السجون بالمُعسرين وإفلاس العديد من البنوك وهروب الإستثمار الجاد، فالمناخ السائد في السودان لا يجذب إلا المُغامرين من أمثال جُمعة الجُمعة وعارف وصقر قريش وأمثالهم.
ثالثاً- وبما أنه لا يُمكن فصل الإقتصاد عن السياسة ولا يُمكن تحرير الإقتصاد في ظل إستعباد العباد، إذ لا يُمكن أن توجد حُرية إقتصادية بدون حُرية سياسية، لا بُد من الإلتزام بالتحول الديمقراطي الجاد والنزيه، وأول خطوة في هذا الإتجاه هي؛ الإقرار والإعتراف بالإنهيار الإقتصادي الماثل (بدلاً عن ترداد تُرهات قُطبي وعلى محمود، والجيلاني) ومن ثم تشكيل حكومة إئتلاف وطني لإدارة الأزمة (Crisis management)، ولعل في تجربة اليونان "بلد حكمة سُقراط وإفلاطون"، وإيطاليا برلسكوني، أسوة لأولي الألباب، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها، على أن يُناط بهذه الحكومة الإعداد لإنتخابات نزيهة (بعد تعديل وتبسيط قانون الإنتخابات القائم على التمثيل النسبي) بحيث لا يُسمح بإنفراد حزب واحد بالسُلطة – قانون إنتخابات تونس نموذجاً – والسماح للمُغتربين والمُهاجرين بحق الترشُح والترشيح.
رابعاً- إعادة النظر في هياكل الحُكم وأُطُر الإدارة السياسية، والعودة إلى نظام الأقاليم السبعة (الجهات الأربعة زائداً الإقليم الأوسط وكُردفان والعاصمة القومية) وبالتالي قيام سبعة حكومات محلية وسبعة مجالس تشريعية إقليمية بدلاً عن خمسة عشر (أو 17 بعد ولايتي دارفور الجديدتين)، وفي هذا الصدد هل يستطيع البرلمان القومي أن يطرح إستفساراً أو إستجواباً لوزير المالية لمعرفة حجم وتكلفة مُرتبات الدستوريين في المركز والولايات. فحسب معلوماتنا المتواضعة فإن المجلس الوطني لوحده يضم حوالي 400 نائب برلماني وتضم المجالس التشريعية الولائية حوالي 800 نائب، هذا بالإضافة إلى حوالي مائة وزير مركزي، وحوالي 200 وزير ولائي وما يقرب من عشرين مُستشاراً رئاسياً، ويٌقدر العدد الكُلي لشاغلي المناصب الدستورية العُليا بحوالي 2,000 دستوري (تبلغ مرتباتهم حوالي 20 مليار جنيه شهرياً بمتوسط مرتب شهري 10 مليون جنيه فقط لكُل دستوري)، هل يستطيع المُراجع العام أو وزارة المالية إعمال مبدأ الشفافية وتمليك حقائق هذه المسألة للشعب، أم أن هذه من الأسرار العُليا، شأنها شأن ميزانية الأجهزة الأمنية؟!.
خامساً- التوقف عن الفساد والنهب المُصلح (قبل مكافحته)؛ وتتمثل أول خطوة في هذا الإتجاه في إعفاء كافة موظفي حزب المؤتمر الحاكم – الذين يؤدون أعمالاً حزبية صرفة تحت غطاء الوظائف الحكومية ذات الإمتيازات العالية والتكاليف الباهظة- ويأتي على رأس هؤلاء د./ نافع على نافع، المُتفرغ لإدارة حزب المؤتمر وحياكة مؤامرات شق الأحزاب من مكتبه وموقعه كمساعد لرئيس الجمهورية، وعلى حساب هذا الشعب الغلبان.
سادساً- تحويل 50% فوراً، من ميزانية الأمن والدفاع وتوزيعها مناصفةً على التعليم والصحة، لتحقيق الإستقرار الإجتماعي ودعم الشرائح الفقيرة. وأن يُرافق ذلك إعادة دمج الجامعات لتقليل النفقات الإدارية والتركيز على التعليم الفني والتقني وغيرها من الحلول التي أوصت بها ورش العمل والمؤتمرات المتخصصة.
ختاماً:
- لا يُمكن بأي حال من الأحوال تنفيذ هذه التوصيات في ظل هذا النظام، لأنها وبكل بساطة تعني تفكيكه ورحيله غير مأسوفٍ عليه، ولهذا فالحل هو "إسقاط هذا النظام" وبأي وسيلة، إذ أن تكلفة إستمراره أقل من أي تضحيات قد تُبذل في إسقاطه (كما قالت الأستاذة/ رباح المهدي، وإذا قالت رباح فصدقوها،،،، فإن القول ما قالت رباح).
- بلغ معدل التضخم في شهر أكتوبر الماضي حوالي 20% (حسب البيانات الحكومية المخجوجة)، وقبل يومين دعا المجلس الوطني إلى زيادة أسعار الوقود (وطبعاً إذا زادت أسعار الوقود فسوف ترتفع أسعار كافة السلع) ويرتفع بالتالي معدل التضخم، كما بشرنا خبراؤهم بتخفيض قيمة الجنيه الذي يبلغ سعره في السوق الأسود حالياً حوالي ضعف سعره الرسمي، ويحدث كُل هذا خلال أربعة شهور فقط من الإنفصال، وإذ ما أضفنا إلى ذلك إحتمال تفجير المسيرية للخط الناقل للنفط (عندما تُمنع ماشيتهم من إستئناف مراحيلها إعتباراً من نهاية هذا الشهر)- رداً على طرد مليشيات الحكومة والمُغرر بهم من المسيرية- للدينكا من أبيي، لأدركنا أن المسألة كُلما ضاقت واستحكمت حلقاتها، ضاقت مرةً اُخرى.
- أبعد كُل هذا يرقص صاحبنا طرباً لأنه صلى العيد في الكُرمك؟!. ما قبل كده صليت في كبويتا وتوريت وجوبا والميل أربعين، فأين هي الآن؟!. ويبدو أن الشقي لا يتعظ بغيره فقد وصف القذافي شعبه بالجُرذان فحل به الإذلال والهوان بالعيدان، وهاهو المُشير يشتم شعبه ويصفه بالحشرات.