لمحات عن الخرطوم في العشرينات: سطور من كتاب “الإبل” .. عرض وترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



لمحات عن الخرطوم في العشرينات
سطور من كتاب "الإبل"  بقلم دانيال استريتر
عرض وترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه شذرات قليلة من كتاب صدر في عام 1927م بعنوان "الإبل Camels " من تأليف الأمريكي دانيال ستريتر من دار نشر بوتنام. لا يعرف الكثير عن هذا الكاتب (والصياد المغامر) غير أنه ولد في 2/11/1883م، وسافر في رحلة صيد في "أدغال أفريقيا" أثمرت صيدا وفيرا وكتابين هما: Denatured Africa  (وصدر في عام 1926م) وهذا الكتاب  Camels ، ثم أتبع ذلك برحلة صيد للاسكيمو عام 1929م أثمرت كتابا سماه Arctic Rodeo.  يصف كتاب الإبل رحلة المؤلف من باريس إلى القاهرة، ثم بالباخرة حتى الخرطوم والنيل الأزرق ومكوار (سنار)  ثم  نهر الدندر وسنجة وغيرها من أماكن الصيد في السودان.
أسلوب الكاتب يتميز بسرعة الإيقاع وبساطته (مع شدة التأثير)، وبروح ساخرة تلامس أحيانا حد الإساءة العنصرية، والتي يبدو أنها لم تكن مستقبحة عند الغربيين في تلك العقود. في الكتاب أيضا صور عديدة لبشر وحيوانات وطبيعة؛ وأشدها تأثيرا في نظري الصورة التي تلت غلاف الكتاب مباشرة، وهي لرجل سوداني هزيل الجسم يجلس على الأرض مطأطئ الرأس، عريان إلا من عمامة ملفوفة بعناية، وأسمال يواري بها سوأته،  وقد بانت ضلوعه ودقت عظامه، وكتب تحت الصورة:
A Sudanese Galahad- Enough of his physique to explain his inertia
"فارس (أو نبيل) سوداني:  ما ظهر من بنية جسده يفسر قعوده"! المترجم
عند وصول الكاتب الصياد الخرطوم كتب عنها ما يلي: "بدأت الشمس في الغروب ككرة حمراء هائلة. وقفت أغصان أشجار النخيل دون حراك في الهواء الساكن. كنت جالساً في حديقة مراقب حظيرة الحيوانات الوحشية. سمعت بعد قليل أصوات (في الأصل "صراخ") المؤذنين الحادة تنطلق من مآذن كثيرة تدعو المسلمين للصلاة. وكما هي عادتهم في ذلك التوقيت، تجمع أيضا ا الإنجليز أيضاً، ولكن ليس للصلاة! تجمعوا في ركن ظليل لممارسة طقسهم اليومي المعتاد: شرب شاي المغرب ثم تتبع بعد ذلك المشروبات الكحولية sundowners! لم يكونوا في حاجة لقسيس صاحب رئة نحاسية ليذكرهم بصوت أجش خشن للقيام بطقسهم القديم المعتاد!
أتى النقيب كولدثيرست مراقب حظيرة الحيوانات الوحشية (وهو من بإمرته كل ذي ظلف أو مخلب أو قرن في السودان ...أرض المليون ميل). كان النقيب شديد المحافظة على حيواناته، ويردد دوما القول بأن من يصيب أي حيوان من هذه الحيوانات، فكأنما يصيبه هو شخصيا. استرخينا في كسل على كراسي قماش ممدودة في الحديقة. دون أن يتحرك، التفت إلي وقال:" هل لك أن تسدي إلي خدمة عندما تذهب لنهر الدندر". لم يكن أمامي إلا أن أوافق. ثم قال: "إن رأيت غزالا مريضا، فأرحه من عذابه". وسكت برهة وأردف قائلا: "آوه...وإن رأيت صيادا حبشيا يقتل حيواناتي، فدعه يتجرع من ذات الكأس!". سألته في براءة: "هل تعني أقتله؟". رد في بساطة: "أطلق عليه الرصاص لتقتله". سألته دون حماس: "وكيف لي أن أعلم أنهم صيادون أحباش ؟". رد على وهو يرجع رأسه لوضعه الطبيعي: "لن تخطئهم. فهم مدججين بالسلاح". مضيت أحلم بالصيادين الأحباش في يقظتي ومنامي...كنت أراهم في كل ظل، وخلف كل شجرة...بأعينهم الحمراء وأفواههم المفتوحة التي يسيل منها اللعاب.
بعد أن انقضى نصف الليل، قمت مودعا الرجل واتجهت لرصيف المحطة، وأنا في حيرة عما يجب فعله الآن. مر أمامي خلق كثير من مختلف الأجناس والأشكال. كنت على وشك الاستجابة لنداءات رجل نوبي جالس على عربة "كارو" يجرها حصانان صغيران، عندما وضعت قدمي على المركبة هبت ما اعتقدت أنه عاصفة ترابية (هبوب). كان أحدهم قد أخبرني بأن الخرطوم تتعرض لعواصف ترابية قادمة من الصحراء تلف المدينة برداء من الرمال الناعمة، والحصى الصغيرة الخشنة، وتضفي عليها مزيدا من الكآبة والعبوس. أتتنا تلك العاصفة بالذات بسرعة غير مسبوقة. في تلك اللحظة أتاني من يخبرني بأننا نحتاج لأن نضم في معيتنا خادم وطباخ ورجل يجيد سلخ الغزلان التي نصطادها. أقترح على "عبده خليل" كطباخ (ومرتبه سيبلغ أربعة جنيهات في الشهر)، و"علي جمعة" كخادم (وينال نفس راتب الطباخ)، وصبياً لغسل الأواني اسمه "فضل سعيد"، ويبلغ راتبه جنيهين...لم يكن ذلك كل شيء.  نحن نحتاج – ابتداء- لاثنين من السود (استعمل المؤلف كلمة  darkies، وهي من الكلمات "العنصرية" المستهجنة في لغة اليوم) لصيد الغزلان التي سيسلخها ذلك "السلاخ"، وبذا نفرغ نحن للاسترخاء فوق العشب، ونلعب البريدج (لعبة ورق).
طمأنني الرجل بأن كل شيء "تحت السيطرة"، وأنه ظل منذ أسبوع يخطط لهذه الرحلة.  سنسافر لسنار بالبر، حيث ستقابلنا ا الجمال هناك وهي محملة بصناديق الزاد. في ذلك الأثناء، هدأت العاصفة الترابية، وتمكنت حينها من رؤية عربة الكارو والحصانين الصغيرين، وصاحبهما النوبي. كان وجه ذلك النوبي بالغ البشاعة!
قفزت لتلك العربة التي تشبه الكفن المستعمل، متجها نحو فندق "الجراند أوتيل". أشار مرافقي بيده نحو الجهة اليمنى وقال: "ذلك هو المستشفي المدني"... يا له من مسكين! لم يكن يدري بأنه سيكون طريح الفراش في أحدى الغرف الخاصة في ذلك المستشفى،  حيث سيدرك عمليا بعضا من ممارساته المروعة. واصل الرجل شرحه فقال: "وعلى هذا الطريق ]لعله يقصد شارع فيكتوريا (القصر الآن). المترجم[ ستجد الحدائق العامة، وتمثال غوردون وهو على صهوة جمله، وقصر الحاكم العام".  أسس كتشنر المدينة في عام 1898م، وصمم طرقها لتشابه في الشكل سلاسل من العلم البريطاني. كانت الطرق واسعة جدا، وتتشعب كلها من ميادين صغيرة... ربما حتى يسهل حصدها بالأسلحة الرشاشة! (لا يعلم المترجم العلاقة المقصودة هنا!). يا الله...ستنعم هذه المدينة الصغيرة أخيرا ببعض النظام. لا يتجاوز عدد السكان 30000 نسمة من مختلف السحن والأعراق والأشكال...خليط من غجر وأغاريق وسوريين ونوبة ودناقلة وشلك ومختلف "أنواع" الأعراب.
على الجهة الأخرى للنهر تقع الخرطوم بحري، وسكانها نحو 20000 نسمة، وعلى جهة أخرى تقع أمدرمان بسكانها البالغ تعدداهم 70000 نسمة. تلك هي "باريس الصحراء"...من وجهة نظر الأهالي بالطبع! أو هي كما قرأت في أحد الكتب: "نبض السودان"! "Sudan pulse" قلما تخلو عائلة من قبائل وعائلات السودان الرئيسة من "وكلاء" أو "ممثلين" لها في تلك البقعة!
توقفنا عند مبنى أبيض اللون، سماه مرافقي "كابتوز" (لعله يخص أحد التجار الأغاريق. المترجم) كانت فيه  غرفة تستخدم كمخزن، وهي تضم صفا من الصناديق المغلقة بأقفال (طبل) ضخمة، وعلى كل صندوق كتبت محتوياته بعناية (سكر، شاي، قهوة، صابون الخ). كان ذلك ما يعنينا ونحن في الخلاء عندما نريد الحصول على شيء ما. كثيرا ما كانت تحدث بسبب ذلك مشاجرات صاخبة بين أفراد خدمتنا. فعندما يبدأ "عبده" في البحث عن غرض ما، نسمعه يصرخ في "علي" ويكيل له سباباً قاسيا (باللغة العربية طبعا). ويقوم "علي" على إثر ذلك بتفريغ غضبه في الصبي "فضل" بإعطائه "علقة ساخنة" لمدة دقيقتين كاملتين بفرع من أفرع شجرة سنط ضخمة. لا ريب أن "فضل" سيجد من ينتقم منه لاحقا بصورة أو بأخرى!
تعجبت من عدم وجود مفرمة لحم من ضمن مقتنياتنا، وسألت مرافقي عن المفرمة، فقال متعجبا بأنه ظن بأنني طلبت أن نحمل الضروريات فقط. أفهمته بأنه سوف يشكرني لفكرة المفرمة هذه، فاللحم الأفريقي عبارة عن جلد به ما يشبه أسلاك أوتار الكمان، ويتطلب المضغ مرتين أو ثلاثة قبل البلع، وحتى بعد كل هذا المجهود، فقد تصادف ما يعيق عملية البلع. طلبت منه أيضا الحصول على كل ما في المدينة من مختلف أنواع الصلصة ومرق التوابل، عسى أن يغطي كل ذلك على طعم ذلك اللحم.
سرنا بعد ذلك في طرق ترابية مغبرة، وفجأة وجدنا أنفسنا في الجنة...في شارع عريض مسفلت يمتد على طول النيل الأزرق وتظلله أشجار لبخ ضخمة متشابكة الأغصان. شيد على حافة ذلك النهر منحدر صخري تتلاطم المياه على جنباته في صمت.
تسير الحياة على شاطئ ذلك النهر على قدم وساق. تسمع من على البعد ساقية تدور وتشق صمت المكان بصرخات شؤم يسببها احتكاك محورها الخشبي مع سنادها الخشبي الجاف، وتجاهد جرارها الطينية الصغيرة عبثا أن تروي ظمأ جذور زاحفة لا حصر لها. على النيل الأزرق ترى بعض "المراكبية" على مراكبهم الشراعية البدائية يحملون الرمال والطوب اللبن وروث الأبقار، فإن العاج واللبان والأبنوس ليس من نوع البضاعة التي تحملها تلك المراكب الصغيرة. ومن البعد نرى كذلك عشرات الحمير، والأجساد العارية تغطس وتظهر بين الفينة والأخرى في مياه النيل الأزرق الهادئة.
رأيت على البعد جزيرة توتي، وميزت قطيعا من الغنم والمعز يقاد لشرب الماء من النهر في مشهد كأنه مأخوذ من الكتاب المقدس مباشرة. ترتوي تلك الأنعام من مياه ذلك النهر الوديع، بينما يقوم رعاتها – تنفيذا للتعاليم المحمدية- بالوضوء استعداد للصلاة...إنه بحق "نهر الحياة"!
وصلنا للفندق..."الجراند أوتيل". حول الفندق تجد أصنافا من الناس تصعب معرفة أعمالهم الحقيقية، وبعض عربات الكارو والحمير.  فجأة ظهر أمامنا رجل قوي عسكري المظهر كان هو "عبده"، وآخر بالغ الضعف والهزال، كأنه مصاب بفقر الدم...كان ذلك هو "علي"، وصبي صغير يشبه القنفذ، من أحد أركان من فمه يسيل بطريقة "فاتحة للشهية!؟" سائل لزج  ...كان ذلك هو "فضل". نصحني مرافقي – وحفاظا على الهيبة و"البرستيج" بأن لا أمس شيئا قط، بل أشير لأحد المرافقين بما أرغب في القيام به! أفادني أيضا بأن "عبده" يتحدث قليلا من الإنجليزية فقط، و"علي" يدعي معرفتها، وأن فضل أصم وأبكم –على الأقل من وجهة نظرنا- .
لم يبق لنا إلا أن نختم اليوم بزيارة مراقب حظيرة الحيوانات الوحشية لتناول مشروبنا الأخير. كان آخر ما سمعته من ذلك الإنجليزي الصارم أن الحكومة تحظر دخول الصيادين المحترفين إليها، فسياسة الحكومة هي الحفاظ على الثروة الحيوانية الوحشية. إن البلاد بالنسبة للصياد الهاوي (الرياضي) هي جنة حقيقية".
نقلا عن "الأحداث"


badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء