ختان (طهارة) الذكور: بين المؤيدين والمعارضين
بدر الدين حامد الهاشمي
23 November, 2011
23 November, 2011
كثر ويكثر الحديث عن خفض (ختان) الإناث، وعن آثاره الصحية والاجتماعية والنفسية الضارة، وما ورد حوله من أحاديث وآراء فقهية، بينما لم يظفر ختان الذكور بعشر معشار ما كتب وقيل عن خفض الإناث، ربما لأسباب تبدو لدي الغالبية في عالمنا بدهية ، منها عدم ارتباط ختان الذكور بمشاكل طبية ونفسية واضحة الضرر، مثلما هو حادث في حالة خفض الإناث. بيد أنه ظهرت في العالم الغربي – ومنذ سنوات- دعوات كثيرة ضد ختان الذكور، لأسباب عديدة سنستعرض بعضها هنا. لعل معظم ما أتى به الرافضون لختان الذكور من حجج قد يقابل بالسخرية والرفض في المجتمعات الشرقية كمجتمعاتنا المسلمة، بيد أن الاستماع للرأي الآخر (وإن بدا شاذا) ضرورة تمليها قواعد الديمقراطية والثقافة والتفكير الحر.
يمارس ختان الذكور في مختلف أرجاء العالم بمعدلات ونسب متفاوتة. قدر خبير في بحث نشره عام 2002م أن ربع سكان العالم الذكور هم من المختونين، ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا نجد أن أغلب المواليد (1.4 مليون مولود سنويا) تجرى لهم هذه العملية في المستشفى قبل أن تعود الأم وطفلها للبيت. وعلى النقيض من ذلك، فإن هنالك تناقصا مستمرا في أعداد عمليات الختان التي تجرى في بريطانيا. ففي ثلاثينات القرن الماضي كانت نسبة الأطفال الذين يتم ختانهم 35%، وتناقصت هذه النسبة لتبلغ 6.5% في منتصف ثمانينات القرن الماضي. يتم الآن إجراء نحو 30000عملية ختان للمواليد الذكور سنويا في المستشفيات الحكومية البريطانية، بيد أن هنالك أعداداً أخرى من العمليات تجرى في المستشفيات الخاصة والمنازل (خاصة عند الأقليات) لا تدخل في هذا التعداد. كذلك تتفاوت النظرة الطبية الآن إلى عملية ختان الذكور ما بين مؤيد دون تحفظ، ومعارض لها، مما سنعرض له لاحقا. يعد الختان موروثا بيئيا لدى المسلمين واليهود ربما لارتباطه – كما يقال- بأبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام.
تشمل الأسباب التي تدفع الآباء لختان أبنائهم أسباباً تتعلق بالعقيدة دينية (كما عند المسلمين واليهود)، ويعد المسلمون ختان الذكور (وقيل النساء أيضا) من الأمور الفطرية، إذ جاء في الحديث النبوي الشريف أن "خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب". وقال عطاء: "لو أسلم الكبير لم يتم إسلامه حتى يختن". وتاريخ الختان عند اليهود طويل، وفي كتاب " ختان الذكور والإناث عند اليهود والمسيحيين والمسلمين" لسامي الذيب (2000م ، دار الريس) تفصيل موسع ومقارنات مستفيضة بين الأديان في أمر ختان الجنسين. جاء في بحث تاريخي نشر في المجلة الطبية الأمريكية "مجلة جراحة المسالك البولية" عام 2007م أن يسوع المسيح (سيدنا عيسى عليه السلام) – بحسب ما أورده المؤلف من نص في إصحاح لوقا- كان قد ختن في اليوم الثامن لولادته، باعتباره قد ولد على الملة اليهودية، ورغم ذلك لم يقبل المسيحيون أبدا للختان، ولم تطالب الكنيسة بختان من يدخل في دينها. ظهر هذا في كثير من التماثيل والرسومات المصورة للمسيح وهو طفل غير مختون، مما كان سببا للجدال (النظري) بين رجال الدين المسيحي واليهودي لعقود طويلة. لم تمارس الكنيسة الدعوة للختان إلا عند فريق يسمى "اليعاقبة" في انجلترا وعند الأرثودوكس في إثيوبيا، وعند الأقباط في السودان ومصر. ذهب كثير من رجال الكنيسة تاريخيا لتحريم الختان باعتباره "خطيئة مميتة mortal sin" باعتبار أن "ختان القلب" أسمى من ختان القلفة (وليس الغلفة). كتب مسيحي في أحد المواقع الأسفيرية المسيحية ما نصه: " ... أطلق القمص شنودة منصور شقيق الانبا بطرس سكرتير البابا في حديثه لـجريدة «صوت الأمة» فتوى تقول بأن ختان الذكور أمر تجاوزه العالم ولا يصح إجراؤه في الوقت الحاضر، حتى ولو كان منصوصا عليه في العهد القديم. وأضاف منصور: أعلم علم اليقين أن قيادات كبري بالكنيسة ستختلف مع نظرتي العصرية لروح العقيدة، وهناك أمور عقيدية (عقدية) اختلفت كثيرا عن الماضي فالصلاة مثلا كانت تشتمل علي تقديم الذبيحة لله بحسب العهد القديم، أما العهد الجديد فتغير هذا المفهوم".
للختان أسباب اجتماعية وثقافية وصحية وجمالية أيضا! من الغريب أن نعلم أن ختان الرجال كان يمارس في العصر الفيكتوري لاعتقاد العامة أنه يمنع الاستمناء باليد ("جلد عميرة" / العادة السرية). عرف كذلك عن بعض القبائل الأفريقية أنها تختن أبناءها إيذانا (وتدشينا) لبدء الدخول في مرحلة الرجولة، ومفارقة عالم الطفولة. ومن غريب ما نشر في أمر ختان الذكور عند بعض القبائل الأفريقية ما نشر في المجلة الطبية البريطانية عام 1996م أن الشرطة في جنوب أفريقيا اعتقلت جراحا تقليديا ("طهارا" بلغتنا) واتهمته بجريمة القتل بعد أن مات نتيجة لعملياته أربعة من الأطفال في سن 18 عام أو أقل، وأدخل ستون آخرون للمستشفى بسبب جروح متعفنة سببتها عمليات ختانه الفاشلة. أثارت تلك القضية أمر الختان الذي يمارسه غير المختصين في جنوب أفريقيا، إذ كانت قد سجلت في مقاطعة الكاب وحدها في عام واحد (هو 1995م) 34 حالة وفاة و12 حالة قطع لحشفة القضيب، وأدخل 743 حالة للمستشفي بسبب تعفن جرح الختان (لا بد هنا إذن من الإشادة بالممارسين السودانيين في القرى والبوادي الذي "مر على أيديهم" مئات آلاف من الصبيان، وخرجوا معافيين)!
وفي مقال نشر في شهر نوفمبر من العام الحالي (2011م) في المجلة الطبية للجمعية الطبية الأمريكية عن الفوائد الطبية للختان (ربما تعليقا على قيام ولايتين أمريكيتين مؤخرا بالانضمام لستة عشر ولاية أخرى في عدم الـتأمين الطبي على عملية الختان، وعلى اقتراح بعمل استفتاء على إيقافها بالكلية). أورد كاتبا المقال أن هنالك ثلاث تجارب عشوائية (وهي من أعلى مراحل التجارب العلمية انضباطا) أجريت في القارة الأفريقية أثبتت بما لا يدع للشك مجالا أن الختان يقلل من نسبة الإصابة بمرض الإيدز بنسبة 51 إلى 60% عند المرضى غير المثليين، وعند المثليين أيضا ولكن بنسبة أقل ، وأن الحماية من فيروس ذلك المرض تزداد مع مرور الوقت الذي يمر بعد عملية الختان (يجب ذكر أن رافضي الختان يرون أن تلك الحماية ضد مرض الإيدز أمر سلبي العواقب، إذ قد يشجع بعض المختونين على عدم أخذ الاحتياطات المعروفة لمنع حدوث المرض). أثبت عدد كبير من الدراسات أن نسبة حدوث مرض الإيدز عند الأمريكيين من أصل أفريقي أو أسباني (وغالبيتهم من غير المختونين) أعلى كثيرا من نسبة حدوثه عند البيض (ونسبة الختان بينهم أكبر).
كذلك وجد أن الأطفال المختونين أقل تعرضا للإصابة بأخماج أو عدوى الجهاز البولي (يخلط بعض الناس بين الخمج infection وهو الإصابة بمكروب مثل البكتريا أو الفيروس أو الفطر، وبين الالتهاب inflammationوهو شيء آخر)، وأقل تعرضا للإصابة بأمراض كثيرة تصيب العضو التناسلي. وبما أن نحو 50% من طلاب المدارس الثانوية العليا (في الولايات المتحدة) يقولون بأنهم قد مارسوا الجنس قبل سن 18 عام، فإن تأخير الختان لتلك السن (حتى تضمن موافقة المختون على إجراء عملية الختان) سوف يحرم الطفل من هذه الفائدة المرجوة من الختان، إضافة إلى أن مضاعفات عملية الختان عند المواليد والأطفال تقل كثيرا جدا عن تلك التي سجلت عند الكبار. في أحد التجارب الطبية التي عملت لعدد من الذكور الكينيين قبل وبعد عملية الختان ثبت أن هذه العملية لا تسبب أي ضرر أو تغير في مستوى الإشباع (الرضاء) الجنسي، بل إنها تزيد من حساسية العضو التناسلي، وتسهل عملية الوصول للنشوة، وفي هذا رد علمي على من يزعم أن للختان آثارا ضارة على السلوك الجنسي لدي الرجل. للختان أيضا فوائد مثبتة في الحفاظ على الصحة العامة والنظافة الشخصية في منطقة في الجسد قد يسهل تراكم بعض السوائل والإفرازات بها، مما قد يتسبب في إحداث بعض الأخماج (الإصابات بعدوي تسببها بكتريا أو فيروس أو فطر). توجد بعض الدلائل على أن ختان الذكور قد يقلل من خطر حدوث سرطان القضيب (وهو سرطان نادر الحدوث)، وقد يقلل من نسبة حدوث سرطان المهبل عند المرأة التي يعاشرها رجل مختون. أثبتت دراسة صدرت هذا العام (2011م) أن معدل حدوث سرطان القضيب في الدنمارك في تزايد مضطرد، عزاه الباحثون للتوقف عن ختان المواليد. يؤيد بعض ما ذكر آنفا ما أعلنته الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال في عام 1989م من فوائد صحية لختان المواليد الذكور.
رغم أن هذه العملية تعد من أقدم التدخلات الجراحية المعروفة للإنسان، وقد تكون قد مورست قبل بدء التاريخ المكتوب، ومن أكثرها أمانا إلا أنها قد تحدث بعض الأخطار والآثار السيئة. من تلك الأخطار والآثار المرتبطة بختان الذكور، والتي ذكرت في كثير من الكتب والمجلات الطبية والعلمية، هو النزف والألم والخمج (العدوى) والنخر والتقرح والالتصاقات وإصابات مجرى البول. تذخر الأدبيات الطبية بعشرات الأوراق العلمية عن المخاطر والحوادث التراجيدية التي قد تعقب عملية ختان الذكور. فعلى سبيل المثال نشر بحث في عام 2009م عن حالة طفل باكستاني أجريت عليه عملية الختان في مستشفى ما بباكستان عندما كان عمره 6 شهور، ثم عاد مع عائلته لمهجره في اليونان حيث ظهرت على قضيبه بعد أربعة شهور قروح شخصت في مستشفي بأثينا باليونان على أنها بسبب الإصابة بالسل. توجد أيضا للختان آثار (نادرة الحدوث) لكنه خطيرة جدا سجلت في عدد من المجلات العلمية الطبية، مثل قطع القضيب (amputation) أو تجريده/تعريته (denudation) أو دفنه (buried penis). ففي بحث نشر في المجلة الطبية لجامعة قاريونس الليبية في التسعينات استعرض باحثون عددا من الحالات التي تم فيها قطع حشفة (رأس) القضيب أثناء عملية الختان. ونشر أطباء إسرائيليون مؤخرا نتائج دراسة للمضاعفات التي حدثت في أحد الأعوام في مركز طبي، فوجد أن معدل حدوث تلك المضاعفات يتراوح بين 0.2% و 3%. كذلك هنالك بحث نشر هذا العام في مجلة كورية عن حادث تم فيه قطع حشفة مولود في اسطنبول بتركيا، وتم علاج تلك الحالة بوسيلة مبتكرة عن طريق الجراحة وغاز الأكسجين تحت ضغط عالي.
يدور جدل كثير عن الجوانب الأخلاقية المتعلقة بالسماح للآباء (والأمهات) بختان أطفالهم دون موافقتهم، ويري بعضهم أن ذلك يعد خرقا أخلاقيا كبيرا، بل وعده بعض الأطباء الألمان في كلية الطب بجامعة قيسن مما يدخل في باب الجريمة، إذ نشروا في مجلة "أرشيف/ سجلات الجرائم Arch Kriminol" عام 2011م مقالا نددوا فيه بقيام الآباء (و/ أو الأمهات) بعملية الختان دون الأخذ في الاعتبار رأي الطفل (أو حين يكبر فيجد نفسه مختونا، ولا حيلة له في الأمر)، واقترح آخرون أن تؤخر سن الختان حتى الثامنة عشر حين يبلغ الطفل مبلغ الرجال، ويكون حرا في اختيار الختان أو عدمه. لا يقبل هؤلاء الأطباء من يرد عليهم بالقول بأن الآباء لا يأخذون في الاعتبار "رأي" المولود مثلا عند تطعيمه ضد الأمراض المعروفة، فلم الاحتجاج الآن على الختان دون "استشارة" الطفل الصغير؟ إذ يقولون بأن الحالتين لا تتشابهان إطلاقا.
يقول الغلاة من رافضي الختان إن ختان الذكور (دعك من ختان الإناث) يشكل تعديا مريعا لحقوق الإنسان، وانتهاكا لخلقة الإنسان كما خلقه الله (أو الطبيعة كما يقول بعضهم). فبحسب رأيهم ليس هنالك من عيب في خلق الله (أو الطبيعة بزعم بعضهم) حتى يتدخل الإنسان بقطع جزء من الجسد دونما داع أو ضرورة طبية. يقول ريو كروز وأصحاب له في جمعية تسمى "التحالف الدولي لسلامة الأعضاء الجنسية International Coalition for genital integrity" أن قلفة القضيب هي جزء متفرد ومعقد ولها العديد من الوظائف الفيزيلوجية، إذ تتمتع بوجود آلاف الأعصاب، وليس هنالك سبب طبي أو غيره يدعو لقطعها. ويصف آخر ينتمي لجمعية تسمى الجمعية القومية لوقف الإيذاء الجسدي للذكور National Organization to halt abuse and routine mutilation of males اسمه هاملتون في مقال له في مجلة "أخلاقيات البيولوجيا" عام 2003م أن عملية ختان الذكور "مفلسة أخلاقيا" إذ أنها ليست فقط غير ضرورية طبيا، بل إنها – بحسب رأيه وآراء بعض الأطباء- تدمر كثير من الأعصاب الحسية في القلفة مما يؤثر سلبا على الحياة الجنسية للمختون، وأن الختان يتنافى مع الفرضية الأساسية في "حقوق الإنسان" التي تقول بأن كل الناس (رجالهم ونسائهم) يجب أن يكون لهم كامل الحق في الاحتفاظ بكل الأعصاب التي ولدوا بها، وأن إساءة معاملة الطفل (child abuse) ليست أمرا "موضوعيا"، بل هي أمر "شخصي/ ذاتي"، وأن ختان الأطفال يتنافى مع مبدأ "الاستقلالية في الرأي autonomy "، وهو من مبادئ "أخلاقيات البيولوجيا bioethics".
يتضح مما سردناه أعلاه من مختلف الآراء في أمر ختان الذكور أن هنالك فريقاً (له الأغلبية) يؤمن بأهمية ختان الذكور، إما امتثالا لأوامر الدين (كما عند المسلمين واليهود)، أو لأسباب طبية سبق تعدادها، أو للحفاظ على "الهوية الثقافية"، أو كل أو بعض من ما ذكر. تتلخص آراء الأقلية الرافضة للختان في أنه مخالف للطبيعة، ولأخلاقيات العمل الطبي، ولانتهاكه لحقوق الإنسان. قد يرى القارئ المختون– ربما محقا- أن حجج هؤلاء الرافضين واهية، ولا تصمد أمام التحقيق، لكن يجب أيضا في رأيي المتواضع معرفة (وقبول) أن هنالك عددا مقدرا من العلماء والأطباء والمفكرين وغيرهم ممن يرون غير ما نرى، ويؤمنون بغير ما نأخذه نحن على محمل البداهة، وأنه مهما شذت – في رأينا ومعتقدنا – هذه الآراء، فالأصوب هو معرفتها ودراستها ونقدها نقدا موضوعيا.
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]