حرب النفط تضع الخرطوم في مواجهة بكين
خالد التيجاني النور
4 December, 2011
4 December, 2011
tigani60@hotmail.com
هل درست الحكومة السودانية جيداً حسابات الربح والخسائر المحتملة لقرارها وقف تصدير نفط دولة جنوب السودان عبر موانئها, وعواقب ذلك على علاقتها المحورية مع الصين أوثق حلفائها في الساحة الدولية؟.
مثلما بدا إعلان القرار السوداني, تعليق استخدام جنوب السودان لمنشآته لتصدير نفطه ريثما تسوى القضايا العالقة بشأن الاتفاق على رسوم العبور مفاجئاً بالأمس, وإن كان قد أتخذ بالفعل قبل ذلك بعشرة أيام, في وقت أعلن فيه الوسيط الإفريقي ثامبو إمبيكي عن استنئاف وشيك لجولة جديدة لمفاوضات أديس أبابا بين الدولتين لحل جملة من القضايا العالقة بين الطرفين.
فقد جاء رد الفعل سريعاً ومباغتاً من حيث لم تحتسب الخرطوم, ليس رداً محدوداً من قبل حكومة الجنوب كما توقعت, بل من قبل حليفها وشريكها الاستراتيجي الصين التي لم تتردد في انتقاد الخطوة السودانية صراحة.
ففي سابقة في العلاقات الدبلوماسية لم تنتظر الصين, أكبر الشركاء في صناعة التنفط السودانية, طويلاً حتى يأتي الرد من بكين بل بادر سفيرها الجديد في الخرطوم لو شباو فوانغ إلى انتقاد قرار الحكومة السودانية وقف تصدير النفط الجنوبي, ووصف في تصريح انفردت به الزميلة صحيفة "الرأي العام" الخطوة بأنها "خطيرة للغاية, وغير مبررة, وأنه لا يوجد سبب لاتخاذها طالما أن هناك مفاوضات جارية بين الطرفين" وذهب إلى حد مطالبة الخرطوم بإعادة النظر في قرارها, ولفت نظرها إلى أنها كانت مطالبة بالتريث في اتخاذ هذا القرار ودراسة تأثيره على العلاقة بين البلدين.
ومن المؤكد أن الموقف الصيني حمل ردة فعل قوية وبلغة صادمة للخرطوم لم تعهدها من حليفها, ولم لم يكن صاحب التصريح سفير الصين الدولة التي تعول عليها لما ترددت في وصف تصريحه ب"عدم اللياقة" ولربما لم تتردد في طرده بدعوى التدخل في الشؤون الداخلية, ولكنها بكين حليف الخرطوم الوحيد ذي الشأن.
من المؤكد أن السفير الصيني لم يكن ليقدم على الإدلاء بهذا التصريح منتقداً القرار السوداني صراحة لو أنه لم يحصل على ضوء أخضر من بلاده, وبالتالي فإن الموقف الذي أعلنه يعكس بالضرورة وجهة النظر الرسمية لبكين. خاصة وأنه عاد لتأكيد هذا الموقف المنتقد بشدة للقرار في تصريحات جديدة.
على أي حال ليس هناك ما يثير الدهشة بشأن الموقف الصيني المتشدد هذه المرة, إذ طالما حرصت بكين على تغطية الخرطوم في الساحة الدولية طوال الخمسة عشر عاماً الماضية من عمر شراكتهما في صناعة النفط طالما أن المسألة لا تصل إلى خطوطها الحمراء, وعندما يأتي الأمر عند بوابة مصالحها الاستراتيجية فإن بكين لا تتردد في أن تضع المجاملة الدبلوماسية جانباً في التعاطي مع مشكلات الحكم في الخرطوم ومآزقه التي لا حصر لها, فعلت ذلك حين ظلت ترفض استخدام الفيتو في مجلس الأمن الدولي في مواجهة عشرات القرارات التي صدرت بحق الحكومة السودانية كان أخطرها إحالة ملف انتهاكات حقوق الإنسان بدارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية الذي أفضى إلى إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس البشير. ومن الواضح حينها أن بكين كانت تضع في اعتبارها مصالحها الضخمة مع الولايات المتحدة التي كانت تقود المواقف الدولية ضد الخرطوم.
والآن حين اتخذت الخرطوم قراراً يمس أو ينذر بتهديد المصالح الصينية النفطية في السودان, بدولتيه, فإن بكين لم تتردد في رفع الكارت الأحمر في وجه حكومة البشير, فالنفط السوداني على محدودية إنتاجه التي لم تتعد نصف مليون برميل يومياً في أحسن الأحوال في ظل السودان الموحد والذي يصدر معظمه إلى السوق الصينية فقد كان يوفر لها نحو سبعة بالمائة من احتياجاتها اليومية.
وفي دولة هائلة النمو مثل الصين في حاجة ماسة متزايدة لموارد الطاقة فإن أية كمية تتوفر لها مهما كانت ضئيلة الحجم فإنها تحدث فرقاً في حساباتها الاستراتيجية مما لا يتوقع معه أن تتسامح مع أي تهديد لانسياب تدفقها مهما كان محدوداً.
من المؤكد أن الصين ظلت تدرك حساسية وجودها في السودان وحساباتها المعقدة في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي, والحروب الأهلية, والضغوط الدولية, وحاولت بقدر الإمكان أن تمارس نهجاً متوازناً تحافظ به على بقائها في اللعبة وإرضاء الأطراف المختلفة بطرق مختلفة وفي أوقات متباينة, إلا أن قدرة بكين على الاستمرار في لعبة التوازنات هذه اصطدمت أخيراً بحائط الانفصال الذي تفتت عنده وحدة السودان وانشطرت إلى بلدين, وما كان ذلك ليشغل بال بكين أو يسبب لها مأزقاً لولا أنها أضحت المتضرر الأول من تقسيم السودان بغير إحسان في أجواء عدائية لم تجعل سبيلاً إلى اتفاق يتعاون فيه البلدين خاصة في شأن الصناعة النفطية التي قضت المقادير أن تكون منشآتها المتكاملة إنتاجاً وتصفية ونقلاً وتصديراً موزعة بين البلدين مما يجعل استمرار تدفق النفط, الذي تستفيد الصين من أغلب إنتاجه, مرهون بالتعاون التام بين الأطراف.
ومن الواضح أن الصين ظلت تحاول جهدها بطرق مختلفة حث الطرفين السودانيين على تسوية هادئة لخلافاتهما العالقة تحافظ لها على مصالحها الاستراتيجية, وكانت قمة تحركاتها تلك الزيارة الرسمية المحفوفة بالمغامرة التي أداها الرئيس عمر البشير إلى بكين, أواخر يونيو الماضي قبل أيام من انفصال الجنوب, وهي أبعد مدى يصله في زيارة خارجية منذ قرار التوقيف بحقه الصادر من المحكمة الجنائية الدولية, وإصرار الصين على إتمام الزيارة وتوفير التغطية السياسية والأمنية لها على الرغم من ضغوط وانتقادات بعض القوى الدولية عليها, كانت تشير بوضوح إلى أن حجم المصالح التي تحققت لها في السودان وتعول على المحافظة عليها حتى بعد انشطاره إلى دولتين أهم بكثير لبكين الصاعدة بقوة في موازين القوى الدولية من الخضوع للتحفظات الدولية بشأن موضوع البشير, والصين معروفة بسياستها العنيدة في مواجهة الانتقادات عندما يتعلق الأمر بمصالحها الوطنية.
وما كان يزعج بكين حقاً ليس المواقف الدولية فيما يتعلق بعلاقاتها مع الخرطوم, ولا انقسام السودان إلى شطرين وقد تهيأت منذ وقت مبكر للتعاطي مع هذا التطور المهم, ولكن أكثر ما كان يثير قلقها التأثيرات السلبية المتوقعة على مصالحها في السودان جراء تقسيم البلاد, والمفارقة التي واجهت الصين أن استثماراتها الأكثر أهمية وحساسية في السودان والتي تتركز في صناعة الطاقة طالها أول أثار التقسيم حيث توزعت بين دولتين, فكما هو معلوم فإن معظم مشروعات الإنتاج النفطي, نحو ثلاثة أرباع حقول النفط, على الأقل توجد في الجنوب, في حين أن مشروعات استغلال الإنتاج النفطي, خطوط النقل والمصافي ومؤانئ التصدير, تتركز شمالاً.
ولذلك فإن المعادلة الوحيدة التي تضمن للصين الاستمرار في الاستفادة من استثماراتها النفطية الاستراتيجية في السودان, هي استمرار التعاون بين دولتي الشمال والجنوب اللتان ورثتا السودان الموحد وتقسمتا أصوله على نحو يضمن لهما الاستفادة من الموارد النفطية التي تأتي استغلال مشترك للمشروعات التي اصبحت مقسمة فعلية في قطاع صناعة النفط, كما يضمن للصين استمرار تدفق النفط, كما أنها لا ليس في وارد القبول بخسارة الاستثمار السياسي والاقتصادي والمالي الكبير الذي عززته في السودان على مدار الخمسة عشر سنة الماضية. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الصين ليست فقط أكبر مستثمر خارجي في السودان فحسب, بل هي أيضاً الشريك التجاري الأول له, والأهم من ذلك أن الصين أصبحت أكبر دائن للسودان, وهي ديون مضمونة في مجملها بالنفط.
ومع أن المنطق كان يفترض أن مهمة بكين ستكون سهلة في المحافظة على مصالحها السودانية في مجال النفط, لأن للطرفين السودانيين المصلحة ذاتها, إذ أن حاجة الخرطوم وجوبا للعائدات المالية والاقتصادية التي يوفرها ضمان استمرار تدفق النفط لا تقل عن حاجة بكين لها.
غير أن الواقع يشير إلى أنه مع إدراك قادة الشمال والجنوب للأهمية القصوى للاتفاق على مسألة تقاسم النفط لاعتبارات بالغة الحيوية لكليهما, إلا أن تحول هذه المسألة إلى ورقة تستخدم في الضغوط المتبادلة بين الطرفين لتحقيق مكاسب في القضايا التي لا تزال عالقة من بنود اتفاقية السلام, وعلى وجه الخصوص موضوع أبيي وترسيم الحدود, أصبح يعرض استمرار تدفق النفط إلى مخاطر حقيقية.
وفي حين أن القضيتين العالقتين أبيي والحدود, إضافة إلى ذلك ترتيبات فك الارتباط بين الشمال والجنوب المتعلقة في أغلبها بأجندة اقتصادية, تحتمل الانتظار إلى حين إنضاج حلول لها في مفاوضات ممتدة بين الدولتين الوليدتين, صحيح أنها ستكون أكثر تعقيداً مما لو تم التوصل إليها إلى تسويات بين الطرفين في إطار عملية السلام, إلا أنها بطبيعتها يمكنها استيعاب عامل الوقت في انتظار تدخلات الوسطاء ونجاحهم في تقريب وجهات النظر.
غير أن الأمر مختلف تماماً في ملف النفط الذي لا يحتمل ترف التفريط في عامل الوقت, لأسباب اقتصادية ملحة سواء بالنسبة للصين المستثمر الأكبر في قطاع الصناعة النفطية, أو بالنسبة للطرفين السودانية, فضلاً عن أن خبراء مختصون أعلنوا أن توقف تدفق النفط سيتسبب في أعطاب فنية مكلفة للغاية.
ولعل هذا الأمر بالتحديد هو الذي أثار إنزعاج الصين ومخاوفها إذ أن الصين لا تحتمل الانتظار حتى ترى التهديدات المتبادلة بين الخرطوم وجوبا, في معركة كسر عظم غير آبهة بالتبعات العواقب الوخيمة, تتحقق باستخدام النفط في عملية أذى متبادل, لا يدفع الطرفان ثمنها فحسب, بل ستكلف دولة مثل الصين خسائر استراتيجية لا ينتظر أن تقف مكتوفة الأيدي تتفرج على ما يحدث, لقد انتظرت تسوية المسألة بغير تدخل منها, لتنتقل إلى مرحلة فرض ضغوط مباشرة على الطرفين في أمر بالغ الحيوية بالنسبة لها, ليس فقط في ما يتعلق بصناعة النفط السودانية, ولكن أيضاً خشية أن يتحول خسارة رصيدها الاستثماري الضخم في السودان والتفريط فيه إلى مثل قد يتكرر في مناطق آخرى من العالم في وقت تنتشر فيه الاستثمارات الصينية في مناطق ملتهبة كثيرة محفوفة بالمخاطر السياسية وتقبل على تلك المخاطر لأنها في حاجة ماسة للطاقة والمواد الخام لإدارة عجلتها الصناعية الجبارة النامية بقوة متزايدة.
من المؤكد أن الصين كانت تتوقع تجاوب الرئيس البشير مع مطالبها في رؤية حلحلة القضايا العالقة وتسويتها دون المزيد من التأخير, وتقسيم الدولة السودانية بأقل قدر ممكن من الخسائر السياسية والاقتصادية, وضمان استدامة السلام والاستقرار, وهو ما سيصب بالتأكيد في إتجاه الحفاظ على المصالح الصينية, كما أن ذلك يحقق أيضاً مصالح الأطراف السودانية المختلفة. وقد ظنت بكين لفترة تعتقد أنها لا تحتاج لأكثر من ممارسة ضغوط ناعمة للمحافظة على مصالحها النفطية أما وقد انتقلت الأمور إلى مربع التهديد الجدي لاستمرار تدفق النفط بقرار الخرطوم الأخير فقد سارعت إلى ممارسة ضغوط علنية على الحكومة السودانية لحثها على التراجع.
ومن المؤكد أن بكين هدفت من استقبالها للرئيس البشير أن يدرك أن حسم القضايا العالقة في ملف العلاقات مع الجنوب لا تتعلق فقط باعتبارات محلية, كما أنها ليست محصورة بأجندة طرفي عملية السلام, ولكنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً أيضاً بأطراف خارجية, فالخرطوم التي تتهم واشنطن وحلفائها بالوقوف إلى جانب الحركة الشعبية في شأن العلاقات المتوترة مع جوبا, ولذلك تتخذ مواقف متشددة, ستواجه بمفارقة أنها مدعوة للتعامل بمعطيات مختلفة مع هذه الأجندة المعلقة من أجل المحافظة على العلاقات الوثيقة التي تربطها بالصين حليفها الأهم في الساحة الدولية وعلى الجبهة الاقتصادية, ومن الواضح أن الخرطوم ستظل في حاجة ملحة للاحتفاظ بعلاقة وثيقة مع بكين في ظل ما تتوقعه من هجمة دولية عليها.
وما من ك أن الحكومة السودانية ارتكبت خطأً استراتيجياً جسيماً بقرارها وقف تصدير نفط الجنوب من طرف واحد, خاصة أنها لم تشاور بكين في ذلك كما اتضح من ردة فعلها العلنية المنتقدة للخطوة, وهو ما يشير إلى قصور بين في اتخاذ القرار, صحيح أن الخرطوم تهدف من قرارها إلى ممارسة ضغوط على حكومة جنوب السودان لحسم موضوع رسوم النفط, ولكن من الصعب تصور حدوث ذلك بدون تسوية شاملة للقضايا الأخرى العالقة.
كما أن إعلان الخرطوم سماحها بمواصلة تصدير نصيب الشركاء والذي هدفت منه إلى طمأنة الصين لم يكن كافياً, كما أنه ليس عملياً, لتقليل مخاوفها من تبعات ذلك القرار, ولذلك لن تجد الحكومة السودانية في ظل الموقف الصيني الرافض بقوة للقرار خيارات كثيرة غير التراجع عنه بأسرع سانحة, لأنها ببساطة لا تحتاج إلى خسارة حليفها الوحيد وتحمل عواقب ذلك, كما أنها ليست بحاجة لكسب المزيد من الأعداء.
عن صحيفة إيلاف السودانية
الاربعاء 28 نوفمبر 2011