اللواء عابدين الطاهر في أول حوار بعد احالته للتقاعد: لم أذق طعم النوم ليلة إقالتي

 


 

 



أي محاولة لتسييس الشرطة هزيمة كبرى لها

هذا رأيي في ما قاله صلاح قوش عن الشرطة بالبرلمان

المخدرات والكحول السبب الرئيسي وراء غالبية الجرائم بالسودان

أبناء المغتربين يرتكبون جرائم غريبة بعد الثانية فجراً


لم يكد شيء يتغير .. فقد بدا لنا اللواء عابدين الطاهر بصوته الأصهل وقامته المديدة.. ذاته لم تأخذ منه وحشة الانسحاب من دائرة الفعل الشيء الكثير .. فالرجل يتكئ على تاريخ طويل امتد لنحو (34) عاما بالشرطة.. قدم فيها ولم يبخل.. وبدت بوادر ظهوره لواجهة الأاحداث  إبان توليه دائرة الجنايات بشرطة ولاية الخرطوم، لكن نجمه بزغ لافتا بعد انتقاله لتولي شأن المباحث الجنائية بعد أسابيع قليلة من اغتيال صاحب "الوفاق" محمد طه محمد أحمد.. والتي ستشكل فيما بعد علامة فارقة في تاريخه الشخصي وتاريخ الشرطة بأكملها.. وعاما بعد عام أخذ يحقق نجاحات لا تخطئها العين، وأضحى الرجل أحد نجوم الصحافة بقدراته الاستثنائية المثيرة لـ (الجدل) وكما كانت سني خدمته مفعمة  بالإثارة.. جاءت إقالته بالتقاعد منذ أقل من أسبوعين على ذات النسق.. (الأحداث) جلست إليه في بهو بيته العابق طيبه بأعواد الصندل بضاحية كافوري.. في مقدمة ليلة شاتية استذكرنا فيها بعض ما مضى وجانباً مما أتى بالتركيز بطبيعة الحال على تداعيات ليلة الخروج الأليم:
أجراه: محمد عبدالماجد- خالد فتحي

اللواء عابدين بين يومين عندما دخلت الشرطة ويوم أن خرجت منها، صف لنا شعورك في كليهما؟
الشرطة أخذت مني (34) عاما دخلتها في ريعان الشباب في سن العشرين، كانت فيها أسرتنا وقبيلتنا وحزبنا السياسي، وأذكر عندما تخرجنا من كلية الشرطة أُوصينا بالجلوس الى ضباط الصف القدامى لأنهم كانوا (مشرّبين بالعمل).
-هل تذكر منهم أحداً؟
منهم من رحل ومنهم من هو على قيد الحياة وأذكر منهم عمنا عطا المنان في بحري والمساعد جعفر، والله علمونا أشياء لم نتعلمها في الكلية.
-حدثنا عن بعض الأشياء التي تعلمتها منه ؟
طابور الشخصية على سبيل المثال، أيضا المواجهة بين المتهمين كيف تقوم بإدارتها وكيف تقوم بتنزيلها في يومية التحري.
ومنها أيضا كان هنالك إرث في الشرطة أن الضابط الصغير لا يجب أن يعاقب من فوره بل يُستدعى ويوجّه أولاً.
-هل تذكر واقعة حدثت معك شخصياً؟
نعم كنت ملازما في قسم شرطة كوبر وكان لدينا عسكري ذهب لتنفيذ أمر قبض وتعرض الى ضرب وإصابات بالغة وتوفي إثرها، وأوكلت لي مسؤولية تكملة الإجراءات واستلام الجثمان واستغرقت العملية وقتا طويلا وسببت لي أرهقا شديدا فطلبت من المقدم رئيس القسم ان يسمح لي بالذهاب للمنزل فزجرني بشدة ورفض طلبي.
-وماذا حدث؟
العقيد سمع حديث المقدم فاستدعاه الى مكتبه وطلب منه أن يسمح لي بالذهاب الى المنزل لأنني مرهق بالفعل.
-في حديثك نلحظ ثمة عشق خفي للمباحث والعمل الجنائي ؟
هذا صحيح  لأسباب كثيرة بينها أنني أجد  نفسي في المباحث. بالرغم ان العمل الجنائي شاق ولايعود على الشخص بعائد مادي إضافي.
-ماذا اكتسبت منها؟
اكتسبت من المباحث الامانة والنزاهة والحذر وعدم التعامل بعفوية وحفظ الاسرار ونحن الآن نمتلك كما هائلا من الاسرار لكن لم نحاول يوما إفشاءها وسنموت بها.
-قضية ظلت عالقة بذهنك؟
قضية احتيال واسعة النطاق تتلخص في استخراج تراخيص تجارية من وزارة التجارة باستخدام معلومات غير صحيحة.
-هل تذكر متى كانت؟
في 1986م إبان تولي الفريق عبدالله عبده كاهن إدارة المباحث.
-ولماذا ظلت عالقة بذهنك؟
لأن القضية  كانت متشعبة والمتهمون كانوا من كبار التجار ووقعوا ضحية لهذا المحتال الذي أوهمهم ان الرخص صحيحة واشتروها منه وتعاملوا بها بل استوردوا بها بضائع ضخمة من خارج السودان.
- ، مقاطعة ...دعني أكمل لكم!
بعد الجولة الطويلة فوجئنا بخبر الإحالة للتقاعد وحقيقة هذا القرار شبيه بموت الإنسان.
لماذا؟
لأن الإنسان يحرم فجأة من أحب شئ الى نفسه، ولأننا كنا نعتقد ان قادتنا وزملاءنا راضون عنا.. لكن كما قلت لكم فوجئنا بقرار الاحالة.
هل كانت دلالات أو مؤشرات بأنك على وشك الإحالة للتقاعد؟
بعد نقلي من المباحث إلى المرور للمرة الأولى في حياتي، وبالرغم أنها تنقلات عادية لكني ساورني شعور قوي أنني على باب الخروج من الشرطة.
-هل أحسست هناك بالغربة؟
لا بالعكس فقد أعانني زملائي بالإدارة على تسيير دولاب العمل وحاولت جهدي لتحسين العلاقة بين رجل المرور ومستخدمي الطريق وبذلت كل طاقتي لإحداث نقلة نوعية بالمرور .. وقمت بالطواف على  إدارات بكل ولايات السودان وقدمت كل ما أملك من جهد لأنني اعتقد انها كانت فترة اختبار بالنسبة لي .
-كيف يبلغ ضباط الشرطة بقرار الإحالة للتقاعد؟
جرت العادة بأن تقوم رئاسة الشرطة ووزارة الداخلية باستدعاء كبار الضباط أو القادة لإبلاغهم القرار.
وأنت تأتي تكون لإحدى حالتين الترقية أو المعاش لكن الإجراء مكرر وعادي فأصبح الشخص يأتي مهيئا نفسه  50% لكل جانب.
-أنت شخصياً كيف ومتى تلقيت النبأ؟
قبل غروب شمس يوم  23 نوفمبر الماضي ..  أذكر كان لدينا اجتماع موسع في إدارة المرور لمناقشة مواضيع شتى ذات صلة بالعملية المرورية بطبيعة الحال، بعدها توجهنا الى قسم مرور شرق النيل لتكريم أفراده.
-ماهو سبب التكريم؟
لأنهم أبلوا بلاء حسنا في حادث حركة لوالدة صحفي اتصل بي في الليلة السابقة وذكر لي أن والدته (ضربها) شخص يقود دراجة بخارية (موتر) ولاذ بالفرار .. فوجهت الاخوة في مباحث المرور بالبحث عنه وإلقاء القبض عليهم  وبالفعل تمنكوا من ذلك بعد جهد مضني .. فذهبنا لتكريمهم.
-نعود الى القرار؟
حسنا،، عدت بعدها الى المنزل وعند الساعة الرابعة رنّ هاتفي وطلبوا مني الحضور لاجتماع عاجل بوزارة الداخلية وذهبنا.
-هل انتابك شعور أن ثمة شيء ما سيحدث؟
بالفعل جاءني أحساس أن هذا الاستدعاء ذو صلة  بصدور (كشف).
-ذهبت للاجتماع بالزي الرسمي؟
نعم، عندما تستدعى لرئاسة الشرطة لابد أن ترتدي الزي الرسمي.
-وماذا حدث؟
دخلت مباشرة ووجدت الوزير، ومدير الشرطة داخل المكتب  وبعد جلوسي بقليل أبلغني الوزير بقرار إحالتي للمعاش ، وشكرني على الفترة التي قضيتها بالشرطة والمجهودات التي بذلتها.
-تلقيت النبأ منفرداً أم مع المجموعة؟
أنا كنت وحدي، لأنني اعتقدت أنني وصلت متأخراً فالاجتماع كان الساعة الرابعة والنصف عصرا وأنا وصلت مبنى الوزارة عند الساعة الخامسة وخمس دقائق "فأنا من السلم مشيت لمكتب الوزير طوالي" واكتشفت فيما بعد "ان الناس كانوا في الصالون وكانوا بنادوهم واحد واحد، وأنا لمن وصلت ما كان نادوني لكن الحمد لله مشيت وخلصت سريع".
-الأجواء كانت متوترة في صالون الانتظار؟
مؤكد وأنا ربنا أكرمني ولم أعش تلك الأجواء.
-بعد تلقي القرار هل غادرت مباشرة أم انتظرت قليلاً؟
خرجت من مكتب الوزير الى عربتي وإلى المنزل مباشرة.. المسألة كلها استغرقت حوالي (40) دقيقة.
-هل استطعت النوم ليلتها؟
أصدقك القول أنا لم أنم حتى الصباح.. لكن الشي الاهم بالنسبة لي كان تشجيع أسرتي على تلافي الصدمة وعدم التأثر.
-قبل أن نغادر هذا المحطة الحزينة هل هو النبأ الأكثر مرارة في حياتك؟
لا أبداً.. الأصعب كان تلقي نبأ وفاة أمي وأبي  في أسبوع واحد، وأنا كنت ضابط برتبة الملازم وأيضا خبر وفاة "حسن القاسم" وهو ابن عمي وزوج أختي الكبرى وكنت وقتها  في جنوب دارفور؛ وهذا الرجل كان ذا منزلة خاصة في نفوسنا جميعا لأنه هو الذي أشرف على تربيتنا مع والدي. وأيضا نبأ موت عمنا الفنان "خوجلي عثمان" مقتولاً.
-مع الإحساس بالمرارة هل راودك ثمة شعور بالظلم؟
والله ما (بكذب) عليكم، نعم.
-لماذا؟
لأنني كنت أتمنى أن أخرج من الشرطة بتقدير .. وظلمي شهد عليه الناس حتى إن كنت غير محق في هذا الشعور..  كنت أتمنى ان أتوّج ولو مرة لكن هذا لم يحدث رغم النجاحات المتواصلة التي تحققت في فك طلاسم أصعب الجرائم. باختصار كنا ننتظر أن نبارح الشرطة بوسام إنجاز لكن المحصلة أننا خرجنا بلا تقدير.
-ألا ترى ثمة شيء غريب الثلاثة الذين أسهموا في فك طلاسم جريمة اغتيال محمد طه جميعهم توزعوا لاتجاهات شتّى.. أنت ذهبت الى المرور ثم تقاعدت، وقبلك اللواء "عبدالرحيم أحمد عبدالرحيم"المتحري الثاني" في القضية، فيما نقل المتحري الأول العميد "عوض عمر" الى الدفاع المدني ثم الى التفتيش أليست مفارقة غريبة ؟
لا تعليق.. صمت قليلا، وأضاف "حقا ليس لدي تعليق".
-هنالك اتهام بأن الشرطة تطورت تقنياً وتراجعت في كفاءة الكادر البشري؟
هذه حقيقة والمواطن أيضا يحس بهذه المسألة خاصة في العمل الجنائي والعمل الاكاديمي البحت ليس مطلوبا في الشرطة فضابط الشرطة تراكم خبرات لكن الآن معظمهم توجهوا للدراسة الاكاديمية وانشغلوا عن عمل الشرطة.
وأنا أعتقد جازماً أن الأفضل استيعاب ضابط الثانوي ليصبح ضابط شرطة بحت.
-يعني أفضل من الطالب الجامعي؟
الشرطة ليست دراسة جامعية فحسب بل تراكم خبرات كما أسلفت ..أما التخصصات الاكاديمية فيمكن استيعابها من المجتمع، هذا رأي لكن المسألة برمتها تحتاج الى دراسة علمية لتبيين الفرق بين كيفية إعداد ضابط الشرطة بين الامس واليوم لتوضيح الاشراق والاخفاق في كل .
-يقال إن معظم قادة الشرطة يأتون من المباحث هل هذا صحيح؟
العمل الحقيقي للشرطة هوالعمل الجنائي، باقي الأعمال كلها أعمال إضافية.
-يعني هذا الأمر حقيقة؟
نعم لكن في الآونة الأخيرة أصبح الأمر غير ذلك.
-بعد ثورة المعلومات وعصر الفضاء المفتوح هل تطورت طرق ارتكاب الجريمة بالسودان؟
بالتأكيد التأثير واضح تجد هذا واضحا في مضابط الشرطة ومحاضر التحري..  مثلا قضية "أحمد الطيب" التي حدثت منذ سنوات إبان توليّ إدارة الجنايات بشرطة ولاية الخرطوم وهو تاجر نهبت أمواله  بعد إيثاقه.. الطريقة بدت لنا مختلفة ودخيلة ولم تكن معروفة بالنسبة لنا في المباحث ..ابتداءً من إخضاعه للمراقبة بصورة مستمرة، وبأسلوب احترافي .. تكشف لنا لاحقا أن بعض المتهمين كانوا خارج السودان وعملوا أعمالا مرتبطة بالعمليات الامنية قبل عودتهم الى السودان ليطبقوا نفس طريقة العمل في ارتكاب هذه الجريمة.. أما الجرائم في السابق الجريمة فكانت فطرية.
-ماذا عن جرائم الأجانب؟
الأجانب أيضا أتوا بثقافات وافدة أسهمت في تبديل نوعي في الخارطة الجنائية وأدخلت أنماطا لم تكن مألوفة في السنوات السابقة، أيضا هناك أبناء السودانيين الذين قضوا سنوات طويلة بالخارج هؤلاء ينظمون سباقات من نوع غريب في شوارع العاصمة بعد الساعة الثانية فجراً، في غياب رجال المرور اكتشفنا هذا الأمر صدفة.
-أي  نوع من السباقات ينظمون؟
هناك لعبة تسمى الموت تأتي السيارات متقابلة من مكان بعيد بسرعة فائقة قبل أن يضغطوا على الكوابح والدوران في الاتجاه المعاكس.
-كلها أشياء دخيلة؟
بالتأكيد كلها أشياء لم تكن موجودة عندنا وأنا شخصيا أتوقع الكثير، وأيضا لا يفوتني الاشارة الى العنف البائن الذي يصاحب الجرائم مثلا حادثة وقعت في حي كوبر لص اعتدى على شاب بحديدة في رأسه لينهب هاتفه الجوال.
وأنا أؤكد أن إحصائياتنا إن لم تكن حقيقية وصادقة سنفاجأ بانفلات أكثر.
-معدلات جرائم المخدرات والجرائم الأخلاقية بالسودان هل في تزايد مقارنة بالدول العربية؟
هنالك رأيان الأول إحصائي حسب مضابط الشرطة يؤكد أننا مازلنا أحسن حالا في السودان بالنسبة للدول العربية الاخرى. لكن هذا لا يعني مطلقا أننا سنظل كذلك، فلابد من البحث عن أسباب ودواعي جرائم الانتحار أو الاغتصاب مثلا.
-لماذا؟
لمحاربتها ومنعا لانتشارها لأننا لو ظللنا نكرر بأننا أحسن من غيرنا فلن نبقى هكذا طوال الوقت إذا لم نضع حلولا للحد من هذه الجرائم ولكي نحمي مجتمعاتنا. حتى انتشار المخدرات وسط الشباب والطلاب اعتقد انها ظاهرة خطيرة جدا تحتاج ان يصبح جهاز المكافحة قويا ومنتشرا وتسخر له كافة الامكانات.
-في البرلمان صلاح قوش ذكر أن المخدرات سبب رئيسي وراء معظم الجرائم بالسودان مارأيك؟
صحيح المخدرات والكحول السبب الرئيسي وراء غالبية الجرائم بالسودان .
-حتى في حوادث المرور؟
نعم لقد ثبت أن غالبية حوادث السير  تقع لأن السائق يكون مخمورا أو (مسطولا) هذه حقيقة.. ليست في السودان بل في معظم بلدان العالم.
-طرح أيضا فكرة لتطوير إدارة مكافحة المخدرات لتصبح جهازا استخباريا يهتم بجمع المعلومات ومنع الجريمة بدلاً في الاجتهاد في كشفها أنت كرجل مباحث محترف هل ترى رأيه؟
أنا أؤيد تماماً هذا الاتجاه وافتكر ان هذا الرأي لايختلف معه الا شخص لا يفهم في العمل الشرطي أو الاجتماعي. وايضا لأن العمل الشرطي موجه بالاساس لمنع الجريمة ومكافحتها، لأن الاكتشاف يكلف الدولة إمكانات مادية وبشرية كبيرة.
-    في الختام هل ثمة علاقة بين الشرطة والسياسة؟
الشرطة مؤسسة قومية، وجهاز محايد تنحصر مهمته في حفظ الأمن والاستقرار ولاصلة لها بالسياسة.
- لكن السياسة طغت على (الكاكي) في الآونة الأخيرة؟
الشرطي حزبه الشرطة، وأي محاولة تسييس للشرطة هزيمة كبرى بالنسبة لها.

 

آراء