في البحث عن جوامع وطنية لطريق ثالث

 


 

 


tigani60@hotmail.com

أعلن المجلس الوطني عقب مداولاته حول تقرير اللجنة الطارئة لمتابعة الأوضاع الامنية بالبلاد عن خلاصات بالغة الخطورة والحساسية بما يترتب عليها من تبعات وتداعيات مصيرية في المستقبل المنظور, أهمها على الإطلاق تصنيف دولة جنوب السودان بأنها "المهدد الأمني الرئيسي للبلاد", واعتبارها جزءً من "مخطط إسرائيلي أمريكي" يستخدم تحالف المعارضة السياسية, وتحالف كاودا لشن حرب على السودان.
ونقلت الزميلة (السوداني) عن وزير الدفاع قوله أمام البرلمان "إن قوات يوغندية موجودة على الحدود مع إفريقيا الوسطى بحجة محاربة جيش الرب تتأهب للهجوم على الشمال ضمن مخطط تقوده الحركة الشعبية من عدة محاور بمناطق النيل الأزرق, وحدود بحر الغزال مع جنوب دارفور, بجانب قوات تحالف كاودا الموجودة في أعالي النيل وولاية الوحدة بجوار جنوب كردفان", وأعلن وزير الدفاع عن "مخطط إسرائيلي أمريكي ذي شقين لزعزعة استقرار البلاد متهماً أحزاب جوبا بقيادة المخطط السياسي, فيما تقود الجناح العسكري للمخطط الحركات المسلحة جناح عبد الواحد وناوي, بدعم إسرائيلي فني ولوجستي" واضافت الصحيفة أن وزير الدفاع "أقر بتحديات ومخاطر اقتصادية تجابه البلاد خلال العام القادم, وحذر من تحركها في آن واحد", وأن الوزير "طلب السند السياسي من البرلمان وتقوية الوحدة الوطنية بإشراك المعارضة".
وبعيداً عن التهويل فإن ما جرى في البرلمان بالأمس من مداولات النواب حول تقرير وتوصيات اللجنة الطارئة بشان الأوضاع الامنية في البلاد, وإفادات كبار المسؤولين عن الأجهزة الامنية والعسكرية, وعلى محدودية ما رشح من معلومات في التقارير الصحافية على ألسنة مصادر شاركت في هذه الجلسة السرية, يرسم صورة مخيفة ومثيرة للقلق بشأن المستقبل المنظور على خلفية خطورة التحديات المصيرية التي تواجه البلاد اليوم وليس غداً, أوضحها أن نذر حرب شاملة على وشك الإندلاع على أكثر من جبهة.

وهذه الصورة القاتمة ليست متوهمة أو يجري تهويلها مما تجري به أقلام المحللين السياسيين, أو الكتابات الصحافية, استناداً على قراءة وربط لقرائن الأحوال, مما يسهل دمغها عند قادة الحزب الحاكم بسوء النية, وحتى إنكار وجودها, بل هي نتاج وقائع أقر بها القادة الكبار المسؤولون عن الملفات العسكرية والأمنية, وهو ما يستدعي بالضرورة أن تؤخذ عند صناع القرار بما تستحقه من الجدية الكاملة والتعاطي معه بالمسؤولية الوطنية الكاملة وبالتحرك العاجل والناجع, وبعقل مفتوح وآفاق واسعة للمراجعات العميقة لتشخيص الجذور الحقيقية لأسباب أزمتنا الوطنية الراهنة الآخذة في تضييق الخناق وباتت تشكل مهدداً جدياً وشيكاً ومصيرياً لمستقبل البلاد والعباد, واجتراح حلول حاسمة لمعالجة جذور الأزمة بكل أبعادها الخطيرة. ودرهم وقاية خير من قنطار علاج, هذا إن أسعفنا الوقت لذلك.
مما من شك أن الأمور لم تنزلق إلى حافة الهاوية إلا جراء إصرار الطبقة السياسية في الحكم والمعارضة على التعاطي مع القضية الوطنية بقدر غير قليل من السطحية والشح السياسي وقلة المرؤة الوطنية والافتقار للعمق الاستراتيجي المدرك لمآلات الصراع على السلطة بغير سقوف وطنية تفرق بين أجندة تصفية الحسابات السياسية القصيرة النظر والولوغ في تصفية الوطن نفسه. ومما من شك أن المسؤولية في وصول الحال إلى ما عليه تقع على الأطراف جميعها بالطبع بأقدار مختلفة موزونة بقدرة التأثير على مجرى الأحداث, ومن المؤكد كذلك أن المسؤولية الأكبر تقع في المرتبة الأولى على الطرف الممسك بمقاليد الحكم فهو بطبيعة الحال الطرف الأكثر قدرة على نزع فتيل إشعال القنبلة الموقوتة التي تهدد بقاء الوطن ووجوده, إن أقدم على تدبير الامور بحسن سياسة ومبادرة رشيدة مبرأة من شح النفس وغلبة الإثرة, وهي مبادرة ليست ممكنة ولا وارد نجاعتها ما لم تكن سداتها هدف وحيد لا غير الحفاظ على الوطن, وليس المناورة من أجل المحافظة على بقاء النظام بأي ثمن.
والتنبيه والإنذار, للأسف غير المبكر, الذي أطلقته مداولات البرلمان بشأن الأوضاع الأمنية التي تجابه البلاد ليس كافياً في حد ذاته لدرء المخاطر الوشيكة من حرب شاملة شبه محتومة ما لم يتم تدارك هذه التحديات الخطيرة بحراك وطني عاجل وواسع, إذ أن كشف هذه المخططات والاكتفاء بتوصيفها وتأكيد العلم بها لا يقدم وصفة ذاتية فعالة لمواجهتها بمجرد المعرفة بها, بل تقتضي الحكمة ما هو أبعد من التعاطي بطريقة بروقراطية متثاقلة فاقدة للإحساس بعنصر الوقت وبجسامة اللحظة الوطنية الراهنة بكل تعقيداتها وتبعاتها المستقبلية.
وفي الواقع فإن خرج من كواليس البرلمان ومداولاته من نذر ليس بجديد تماماً ولا ينبغي أن يفاجأ به أحد فارهاصات ذلك كانت جلية لكل مراقب يتابع تطورات الأوضاع في السودان عن كثب, ليس الآن فقط بل منذ أن بدأت تتعثر اتفاقية السلام الشامل ووتبعثر أوراق تسوية نيفاشا التي كان من الممكن أن تكون فرصة تاريخية لوضع أسس جديدة لبناء وطني موحد يستوعب تطلعات وطموحات كل السودانيين لو تعاطعت معها الأطراف بذهنية استراتيجية واعية وعميقة وسعة أفق باعتبارها الفرصة الأخيرة والمخرج الوحيد لميلاد وضع جديد في السودان لا تضع الحرب فيه أوزارها فحسب, بل تفتح آفاقاً بلا حدود لبناء السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي, ولكن للأسف تقزمت تلك التسوية التاريخية على أيدي صانعيها لتتحول إلى مجرد صفقة سياسية بائرة وعلاقة عابرة ما كان لها أن تثمر سلاماً, بل بذرت بذور الردة لما هو أسوأ عاقبة, السيناريو الأسوأ خسارة وحدة البلاد وفقدان السلام وعودة الحرب بأجندة أكثر خطورة.
والاحتجاج بوجود مخططات خارجية واستهداف أجنبي لا تغني من الحق شيئاً, ولن تدفع غوائلها, فهذه هي طبيعة الأشياء, ونواميس الكون, وقواعد اللعبة الأمم, فليس لك أن تلوم الآخرين لسعيهم لتحقيق مصالحهم وإن كان على حسابك, ولم تلوم غيرك إذا كانت ليس لديك مصالح وطنية معلومة تعمل من أجل تحقيقها.
وتلك آفة النظام السياسي السوداني الذي فشل على مدى سني الاستقلال الست والخمسين عاماً من التوافق على المصالح الوطنية العليا, والاتفاق على نظرية لمحددات ومهددات الأمن القومي, وآثرت القوى الحزبية المختلفة تعاطي الهم السياسي بكثير من الخفة والعشوائية والسطحية وقصر النظر لا تلقي بالاً لعمق استراتيجي ولا أبعاداً للمسؤولية الوطنية تتجاوز الصراع المحموم على احتكار السلطة أو طلبها. وغياب الرؤية المبصرة والذهنية الاستراتيجية والافتقار لتخطيط استراتيجية حقيقي هو الذي أورثنا الورطة الكبرى التي نواجهها اليوم, ولو كانت هناك ثمة نظر في العواقب لما تعامل الحكم بكل هذه الخفة والاستخفاف بتبعات وتداعيات تقسيم البلاد, وظنه الكثيرون من علية القوم مجرد نزهة وتغيير لشكل الخريطة لا أكثر, وها نحن لم نتجاوز أشهر معدودة حتى أدركنا بعد فوات الآوان حجم المصائب والكوارث الاقتصادية والأمنية والعسكرية جراء الخضوع لخيار تقسيم البلاد بلا تدبر ولا دبارة الذي اكتشف الناس أنه تم للغرابة مجاناً بلا أي مقابل.
على أي حال لم يعد البكاء على اللبن المسكوب بذي نفع, والأزمة الوطنية التي بلغت قمة تجلياتها والمخاطر الوشيكة لا تحتاج إلى المزيد من تسويد الصحائف لإقامة الدلائل عليها, فما هو المخرج وما العمل؟.
اللافت في ما تسرب من مداولات البرلمان ما رشح من توصيات اللجنة الطارئة من أن العمل العسكري وحده غير كاف, والمطالبة بضرورة دعمه بالتفاوض مع قوى المعارضة السياسية والمسلحة, وتحسين وتعزيز العلاقات مع دول الجوار, لا سيما يوغندا, كما طالب وزير الدفاع بالسند السياسي وتقوية الوحدة الوطنية بإشراك المعارضة. ومن الواضح في هذا السياق أن طبيعة الأزمة سياسية, وأن التصعيد العسكري نتيجة وليس سبباً في تعميق المأزق الراهن. وبالتالي فإن الجاهزية العسكرية مهما بلغت لن تكون فعالة وحدها لمواجهة هذه التطورات الخطيرة وتوابعها.
وهذه رسائل بالغة الدلالة وواضحة العنوان إلى صناع القرار في الحزب الحاكم ان تعاطيها مع الأوضاع السياسية في البلاد يفتقر إلى القدرة الفاعلة في مخاطبة التحديات الخطيرة التي تجابه البلاد على الصعد كافة بما يقتضيه واقع الحال المأزقي, وبالطبع لا أحد يعتقد أن القيادة السياسية ليست على علم بحجم هذه المخاطر والتهديدات ونذرها الوشيكة, ولكن من الواضح أن استجابتها لهذه التطورات الخطيرة لا تحمل آفاق حلول ناجعة, إذ أنها مع معرفتها الأكيدة هذه تقدم حلولاً جزئية وانصرافية لا تعالج جذور الأزمة.
ومن ذلك أن مبادرتها إلى تشكيل حكومة عريضة لمجابهة هذه المخاطر التي تقر بها تقاصرت إلى درجة أنتجت جسم بالغ الترهل لم يضع حساباً لأية قيمة سياسية ذات جدوى لغياب مضمونه السياسي فحسب, وفضلاً عن قلة التعويل على كفاءته في إخراج البلاد من مأزقها الراهن, بل كشف عن افتقار مريع لمراعاة أزمة البلاد الاقتصادية وهزمت به أهم تعهدات برنامجها الاقتصادي الإسعافي بالتقشف في النفقات الحكومية مما أفقد البرامج مصداقيته.
وعندما يخرج البرلمان بتوصية لمعالجة سياسية لجذور الأزمة السياسية الراهنة لتلافي تبعاتها العسكرية والأمنية ومخاطرها على البلاد  فهو ينعي ضمناً الرهان الذي وضعه صناع القرار على الحكومة المترهلة الحالية, ويدعو لمقاربة أكثر جرأة وعمقاً وخطوات أوسع أفقاً في سبيل الحوار والتفاوض مع القوى المعارضة السياسية والمسلحة.
والمطلوب بصراحة من القيادة السياسية للحزب الحاكم أن تجري مراجعة جذرية وعاجلة لحساباتها ورهاناتها الحالية, وأن تتقدم بمبادرة جديدة أكثر جدية ذات أبعاد استراتيجية تتجاوز ذهنية المناورات المحدودة الأثر, وان تتواءم مبادرتها مع مطلوبات التحديات الراهنة, لا أن تقفز عليها, ولقد قدمت سلفاً تنازلاً كبيراً حين تجاوزت أو ألغت عملياً نتائج الانتخابات الأخيرة التي طالما تباهت بمشروعيتها والأغلبية التي حصلت عليها, بسعيها لضم العديد من الأطراف في الحكومة الجديدة لا وزن سياسي معلوم لها بدعوى أن في ذلك "إرضاء للناس", فإذا لم تسعف تلك الأغلبية المؤتمر الوطني في نيل رضا الناس, فما الذي يجلب لها وهي تسعى كحاطب ليل للبحث عنها خارج أسوار الانتخابات؟.
لقد مشى صناع القرار في الحزب الحاكم نصف خطوة حين اعترفوا ضمناً بأن الأغلبية الانتخابية التي استندوا عليها لم تحقق الاستقرار السياسي المطلوب, والحل يكمن في أن يمضوا إلى النصف المنطقي الآخر من هذه الخطوة ان يدعوا لانتخابات مبكرة عقب فترة انتقالية يتفق فيها من خلال مؤتمر شامل لكل القوى الحية في المجتمع على جوامع وطنية تشق طريقاً ثالثاً عسى أن نرى في نهاية النفق المظلم بصيص امل.     

Khalid Tigani [tigani60@hotmail.com]

 

آراء