ستة وخمسون عاماً من التيه .. ألا تكفي!
خالد التيجاني النور
10 January, 2012
10 January, 2012
khalidtigani@gmail.com
عام آخر أضيف لسنوات استقلال السودان, ذكرى ظلت تتعاقب لستة وخمسين عاماً, تحتفل بها الطبقة السياسية بخطابات باردة الحس وفاقدة للمعنى لا تكاد تعي حجم مآزقنا, وتتغنى بأناشيد تجتر الحنين لماضي لم تتعظ ولم تتعلم ولم تنس شيئاً من حوادث دهره, وقد عجزت أن تنبني وطناً نفتخر بحاضره, أو نتطلع بأمل لمستقبله, كيف نحتفل وقد صادف احتفال هذا العام والسودان ليس هو السودان الذي طالما احتفلنا شكلاً باستقلاله وفقدنا معناه, صار السودان سودانين فبأيهما نحتفي, انحتفل بخيبتنا الوطنية الكبرى تقسيم البلاد في خطوة لم تكن قدراً مقدوراً ولا قضاءً محتوماً لا سبيل لدفعه, وبلا مسوغات مقبولة ولا مبررات منطقية في سباحة رعناء عكس تيار التاريخ, وخارج سياق العصر في عالم تغير فيه حدود الدول ويعاد رسمها خرائطها من أجل خلق كيانات أكبر, وليس توليد كيانات أصغر, كما ذهب إلى ذلك المفكر الاستراتيجي ووزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو وهو يشخص الحالة السودانية.
تأتي ذكرى الاستقلال هذا العام وقد بلغت أزمتنا الوطنية ذروة سنامها, لم تصب وحدة البلاد في مقتل فحسب بل باتت مرشحة للمزيد من التمزق والتشرذم وقد تهدد نسيجها الاجتماعي إذ إرتدت إلى أتون الصراعات القبلية والعنصرية البغيضة وتاهت في النزعات الجهوية والإقليمية وحروب لا تنتهي يخبأ أوار أحدها فتنشب محله حروب وحروب عبثية لا طائل وراءها, لتصبح هذه الصورة المأساوية القاتمة عنواناً لعجز الطبقة السياسية بعد أكثر من نصف قرن عن بناء مشروع وطني حقيقي لا يحفظ وحدة البلاد فحسب بل يحقق لها الأمن من خوف والإطعام من جوع والتطلع للتنافس على مكانة رفيعة بين الأمم يستحقها الشعب السوداني الذي حباه الله تعالى بموارد بشرية وطبيعية وإمكانات كامنة هائلة مما قل نظيرها بين الدول كانت قمينة بأن ترفع ذكره بين الشعوب وتمنحه مجداً وشأناً لو قيض له من بين طبقته السياسية قيادة صالحة فالحة عالية الهمة على قدر الوطن وفي مقامه.
ليس السودان بدعاً بين الأمم حتى نركن لتبريرات بائسة وساذجة تحاول هذه الطبقة السياسية المأزومة عبثاً أن تغطي بها عورة فشلها وعدم قدرتها على التصدي لمهمة بناء وطن يملك كل مقومات النهوض, ولننظر لعشرات الدول في أركان الدنيا الأربعة التي تشابه ظروفها السياسية وتنوع تركيبتها الاجتماعية المتعددة ما يشابه واقعنا لولا أن السودان كان حظه عاثراً لم يحظ بما حظيت به تلك الدول من قادة ذوي بصيرة نافذة ورؤية ثاقبة وبعد نظر وإرادة سياسية قوية وعزيمة لا تلين وتخطيط سليم وأهم من ذلك كله سلموا من شح النفس وتمتعوا بعلو الهمة فصنعوا من بلاد ليس لها ما للسودان من نصيب وافر في كل مقومات النهوض, ومع ذلك صنعوا أوطاناً آمنة مستقرة وبلداناً ناهضة ارتقت لمصاف تنافس أرقى الدول وكبرياتها, ودوننا نماذج الهند, وكوريا, وماليزيا. نهض بها قادة نجحوا أن يحولوا واقع بلدانهم المعقد وتناقضاتها الاجتماعية إلى روافع للبناء وهندسوا أنظمة سياسية خلاقة ومشروعات وطنية فعالة إئتلفت حولها العقول والقلوب واستجابت بوعي وتضحية ومسؤولية لتلك التحديات خلقت فرصاً سانحة أمام شعوبهم للتطلع إلى المستقبل بأمل لا الركون إلى الماضي والغرق في وحله.
لقد كان حرياً بالطبقة السياسية على امتداد طيفها أن تصحو اخيراً على هول ما انتهى إليه حالنا, فحدث تقسيم السودان أمر جلل, إن لم نقل كارثة وطنية بكل المقاييس, لم يمر وقت طويل حتى استبنا حدود ومعالم التوازنات والتغييرات الاستراتيجية التي خلفها على الصعد كافة جيوسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وطالت آثاره السلبية العميقة الطرفين المنقسمين, ولا تزال تنذر بالمزيد.
وكانت دواعي المنطق والحكمة تفترض أن حدثاً بهذا الحجم والتأثير الجذري العميق والمحتوم على مستقبل أوضاع البلاد أن تتداعى له الجماعة الوطنية إلى حراك سياسي غير مسبوق يسبر أغوار أسباب الأزمة الحقيقية في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السوداني التي أدت بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال إلى هذه النتيجة المفجعة تقسيم البلاد وفتح الطرق أمام تفتيتها بالكامل, والاستفادة من عظات وعبرات هذا الدرس القاسي في استعادة الوعي والضمير الحي والتضحية الجسورة للعبور إلى مشروع وطني جديد جامع لا يقي البلاد من المزيد من التشرذم فحسب, بل يفتح كوة أمل أمام إنطلاقة جديدة.
بيد أن ما يجري على المسرح السياسي في الخرطوم لا يشي بأن أي شيئاً من هذا يحدث على الإطلاق, لقد كان الظن أن صدمة التقسيم ستكون صاعقة بدرجة تكفي لأن تقتنع الطبقة السياسية على امتداد طيفها بأن الوقت قد حان, ولو متأخراً وبعد أن دفعت البلاد هذا الثمن الباهظ, لأن تتواضع بعض الشئ وتعكف على مراجعة جذرية لمواقفها وحساباتها وتقدم بشجاعة على إطلاق بداية جديدة حقيقية وفعلية لمشروع وطني, ظل مفقوداً, قادر على مخاطبة التحديات الراهنة ويضع أسس متينة لنظام سياسي ديمقراطي سداته الحرية, والعدالة, واحترام التنوع وكفالة حقوق الإنسان, والنزاهة وتكافوء الفرص والمساءلة والمحاسبة.
ولكن نظرة واحدة على المشهد السياسي السوداني خلال الأشهر الماضية منذ الإعلان رسمياً عن قبر حقبة "السودان الموحد" تكفي ليرتد إليك بصرك حسيراً, لا شئ مما تظن أن الشروع فيه عاجلاً بحسبانه أمر بدهي يحدث على الإطلاق, فالطبقة السياسية, في الحكم والمعارضة, تعاطت ببرود تحسد عليه مع هذه الكارثة الوطنية ولم يتعد تفاعلها معه أكثر من تعليقات سطحية عابرة مما درج أن يتداوله غمار الناس في مجالس المدينة, لا تصح ولا تصلح أن تكون هي سقف مواقف من يتحملون مسؤولية الحكم أوالمعارضة في مثل هذه اللحظة التاريخية الحاسمة ويعول عليهم أن يكونوا الطليعة التي تأخذ بيد مواطنيها إلى بر الأمان.
إن أكبر خطر يهدد البلاد في هذه اللحظة التاريخية الفارقة, وينذر بذهاب ريحها وتشرذم وتفتت ما تبقى منها, حالة الفراغ العريض السائدة حالياً بسبب عجز الطبقة السياسية المستشري, وهي حالة فريدة من العجز السياسي والفراغ القيادي غير مسبوقة, فلا حزب المؤتمر الوطني الممسك بسدة السلطة قادر على تحمل مسؤولية الحكم والقيام بواجباته, ولا أحزاب المعارضة بشتى أشكالها قادرة على تحمل أعباء المعارضة والنهوض بدورها والعمل بجدية لتكون بديلاً موضوعياً جاهزاً لحزب حاكم شاخ في السلطة وترهل وأرهق ولم يعد لديه ما يقدمه, ولا سبب يبقيه ممسكاً بتلابيب الحكم إلا ضعف معارضيه وهزال دورهم.
ما يحتاجه السودان لينهض من تحت براثن هذه السقطة والخيبة الوطنية الكبرى أعظم شأناً, وأعمق بعداً, وأوسع مدى بكثير مما تحاول الطبقة السياسية, في الحكم والمعارضة, الإيحاء بأنها تزمع الإقدام عليه من أجل الخروج من هذا الوضع المأزقي, وكلا الطرفين لا يبدو أنه معني بأكثر من الفوز في معركة التشبث بالسلطة بأي ثمن, أو الوصول إليها بأية وسيلة.
فالمؤتمر الوطني الحاكم, الذي اجتهدت نخبته لدفع الأمور بإتجاه تقسيم البلاد ظناً منها أن ذلك سيخلي لها جو السلطة صافياً من عنت من ينازعونها الشراكة فيها, وقف حمارها في العقبة فلم تحر ما تفعل بما حل بالبلاد من كوارث سياسية واقتصادية وعودة الحرب بعد أن ذهب الجنوب في حال سبيله, مكتفية بإطلاق شعار هلامي "الجمهورية الثانية" التي لا يعرف لها أحد معنى ولا مبنى غير وعود مبهمة بتغييرات شكلية, وفي الحقيقة لا يعني أكثر من أن تمضي الأمور كالمعتاد لا يمضي خطوة أكثر من أن تردف في مركب السلطة بعض من ينازعونها من معارضيها. ولم يعد من بيدهم السلطة يملكون مشروعاً سياسياً للحكم اللهم إلا إذا كانوا يحسبون التشبث بكراسي السلطة بأي وسيلة وبغض النظر عن التبعات مشروعاً سياسياً في حد ذاته.
لقد حان الوقت لتدرك الطبقة السياسية, في الحكم والمعارضة, وقوى المجتمع المدني والأهلي الحية, أن نواميس الكون لا تعرف الفراغ, واستمرار الحلقة المفرغة الحالية لن تورث إلا فوضى لن تبقي ولا تذر, وما من سبيل للخروج من ذلك إلا بتغيير حقيقي يقدم عليه الجميع, ومسؤوليته لا تعفي أحداً, فلا الحكم يستطيع الاستمرار في سلطته وهو في هذه الحالة المنكرة من انعدام الرؤية والفاعلية السياسية وعدم القدرة على تحمل مسؤولية الحكم بحقها, ولا المعارضة تستطيع الزعم أنها تمثل بديلاً ناجعاً وحالها ليس أقل بؤساً ممن بيدهم الأمر, وقوى المجتمع الأهلي لا تستطيع الوقوف متفرجة تنتظر أن تمطر السماء تغييراً وسلاماً واستقراراً.
وحان الوقت لأن تنهض الأغلبية الصامتة من قوى المجتمع السوداني من غفوتها الطويلة لتصنع مستقبلاً أفضل لأبنائها, وواقعنا الذي وصلت حالته المرضية مداها لا يمكن أن يعالج بغير تشخيص صحيح لجذور أزمتنا الوطنية, لقد ارتهنت البلاد لنصف قرن لوهم أن هناك فروقاً حقيقية بين القوى السياسية التي ظلت تسيطر على السلطة فيما يعرف بهتاناً بالدورة الخبيثة بين أنظمة شمولية وآخرى ديمقراطية, والحقيقية الجلية أنه ليست هناك دورة خبيثة ولا يحزنون, بل هناك ذهنية سياسية واحدة معطوبة ظلت تدور في رحاها هذه القوى السياسية جميعاً غلى الرغم مما يبدو من خلافات ظاهرة بينها, فهي العقلية ذاتها تتشكل بأزياء متعددة ترتدي مرة لبوساً عسكرياً وتتعمعم في آخرى, فالأحزاب التي تتدعي الديمقراطية ليس لها من ممارستها شيئاً في ذاتها حتى تزعم تحقيقها في دست الحكم, وفاقد الشئ لا يعطيه, هل هي مصادفة ظاهرة الخلود في الزعامة حتى يأتي أمر الله لا تسلم من ذلك الأحزاب المؤدلجة ذات اليمين أو ذات اليسار, أو ما بينها من قوى تستند على طاعة المريدين العمياء يشرقون معها ويغربون. وهل هي مصادفة أن تمارس "أحزابنا الديمقراطية" التوريث السياسي جهاراً نهاراً لا تخشى عاقبة ولا تعبأ بلوم.
وهل هي مصادفة أن الحكم الديمقراطي الذي تذرف عليه هذه الأحزاب السياسية دموع التماسيح هي ذاتها التي ظلت تتآمر عليه, اختلفت في كل شئ إلا أنها اشتركت جميعاً وتفننت في قيادة الانقلابات العسكرية, حتى أنه للغرابة ومع أن العسكريين حكموا أغلب سني الاستقلال إلا أن انقلاباً عسكرياً صرفاً واحداً لم ينجح في الوصول إلى القصر الجمهوري. لقد كانت هذه الطبقة السياسية هي نفسها التي ظلت تحمل جواز مرور العسكريين إلى السلطة. وهل هي مصادفة أن الأحزاب السياسية الأعلى صوتاً في التنديد بالحكم الشمولي هم الأسرع دائماً في الانخراط في لعبته طمعاً فيما عنده من ذهب السلطة.
لا نحتاج إلى تسويد الصفحات بالمزيد من البراهين لتأكيد أن الشعب السوداني سيحصد وهماً كبيراً إن انتظر أن يخرجه من أزمته الوطنية هذه الطبقة السياسية التي ثبت أنها تنتمي إلى ذهن شمولي واحد تتعدد تمثلاته, ولذلك تتبدل الحكومات وتتغير الوجوه والأزمة باقية, بل وتزداد أزماتنا عمقاً, فقد ثار الشعب بدل المرة مرتين في غضون عقدين في سابقة لم يشهدها بلد آخر, وانتخب أربع حكومات حزبية, وخضع لحكم ثلاث انقلابات مدني-عسكرية, وفي كل مرة نرذل أكثر, ونفتن مرات ولا مرات فلا نتوب ولا نتذكر شيئاً. وليس صحيحاً أن الحكومات الحزبية لم تجد فرصة كافية لتحقق حكماً ديمقراطياً, بل الصحيح أنها لم تكن أحزاباً ديمقراطية حقاً ولا تمارسها فعلاً ولذلك عجزت أن تقيم نظاماً ديمقراطياً حقيقياً ذا جذور عميقة في وعي الشعب وبإرادته لأنها لو فعلت لما جرؤ أحد على الانقلاب عليها عسكرياً.
لقد كتب على بني إسرائيل التيه أربعين عاماً حتى يفنى الجيل الذي لم يستحق الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم وطناً, وها هم السودانيون وبعد ست وخمسين عاماً لا يزالون في تيه لأن الطبقة السياسية عجزت أن تبني الوطن الذي يستحقه الشعب السوداني, وما يزال هناك من يأمل أن تفعل ذلك, ست وخمسون عاماً من العجز.. ألا تكفي؟.
لقد آن الآوان لأن تتنادى القوى الحية في المجتمع من شرائحه المختلفة, لا سيما الشباب الذي يشكلون أغلبية السكان, وتنهض بدعوة لحوار جامع جدي جهير وعميق تتجاوز به الوقوف عند محطة الطبقة السياسية المأزومة التي هرمت وتكلست وليس لها ما تقدمه سوى المزيد من الفشل, وتتجاوز الجدل السطحي أو السعي المتحمس لتغيير الوجوه أو الأشكال وتبقى جرثومة الأزمة حية لتنتقل من جديد, وأن تؤسس لحراك اجتماعي وسياسي وحوار عميق بآفاق جديدة تفتح الأبواب لطريق ثالث يتوافق فيه على مشروع وطني جديد, يمنح بداية جديدة وأملاً جديداً يتساوى فيه السودانيون جميعاً بالعدل والقسط والحرية في رسم مستقبلهم.
عن صحيفة إيلاف
الأربعاء 4 يناير 2012