وباء الاكتئاب الصامت عند المرأة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا .. عرض وتلخيض: بدرالدين حامد الهاشمي

 


 

 




وباء الاكتئاب الصامت عند المرأة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: أزمة حقيقية أم مفتعلة؟
عرض وتلخيص لورقة علمية بقلم: بروفيسور/ سمير عدوي (وآخرين)
بدر الدين حامد الهاشمي
هذا عرض مختصر لورقة نشرت باللغة الإنجليزية في المجلة الطبية لجامعة السلطان قابوس للبروفيسور سمير عدوي مع زميلتيه، ليام الول، وآمال البوسعيدي (وجميعهم من قسم الطب السلوكي بكلية الطب بتلك الجامعة) في العدد التاسع، والصادر في 2009م. وتدور الورقة حول حقيقة ما يقال عن احتمالية أن تكون النساء في منطقة الشرق الأوسط  وشمال أفريقيا أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب النفسي، مقارنة بمثيلاتهن في باقي دول العالم، وذلك من خلال استعراض الأوراق العلمية المتاحة.
بدأ المؤلفون في بداية ورقتهم العلمية بذكر ما جاءت به منظمة الصحة العالمية في عام 1948م من تعريف للصحة بأنها حالة من صلاح كامل في الحالة الجسدية والعقلية والاجتماعية، وليس فقط مجرد الخلو من الأمراض. رغم ذلك تجاهل الكثيرون – وإلى وقت قريب- أوضاع الحالة العقلية (والنفسية) عند الحديث عن الصحة، ولم يخصص المخططون لسياسات الصحة في كثير من البلدان ميزانيات محددة لبحث الأمراض النفسية، بل ظلت كل الجهود توجه نحو الأمراض الجسدية، خاصة الأمراض المعدية. تركزت الجهود في دول العالم النامية نحو تحسين صحة الأم والطفل، بينما اتجهت في العالم المتقدم نحو مكافحة "أمراض العصر" مثل السرطان والسكري وأمراض القلب.
ما أن أتى القرن الحادي والعشرون، حتى بدأت تظهر مطالع اهتمام بالأمراض النفسية، ودراسة آثارها على صحة الفرد والمجتمع في كل أرجاء العالم. من أهم تلك الأمراض النفسية بالطبع هو مرض الاكتئاب (الدبرشن). في هذا المرض – كما هو معلوم للكثيرين الآن- يكون عند المريض حزن عميق وتشاؤم وفقدان للأمل وشعور غامر بقلة الحيلة. يتطور المرض حتى يؤدي إلى تدهور وظائف الجسم المختلفة، وتسوء نوعية الحياة، وقد يفكر المرء في التخلص من حياته، وقد ينفذ عملية الانتحار فعليا (ويحدث هذا غالبا عندما لا يلقى المريض العلاج المناسب). أثبتت كثير من الدراسات المسحية أن مرض الاكتئاب قد غدا "وباء صامتا" يسبب الكثير من الإعاقة النفسية والجسدية، وفقدان الأرواح أيضا. معلوم أيضا أن الاكتئاب يتداخل مع كثير من الأمراض الأخرى (وقد يحدث العكس كذلك)، بل ويقدر الخبراء أنه بحلول عام 2020م سيغدو الاكتئاب السبب الرئيس للإعاقة.
كان فلاسفة القرون الماضية يعتقدون أن الاكتئاب مرض يصاحب "الحضارة"، وأن "الهمج النبلاء" في أفريقيا وآسيا وغيرها من المناطق "المتوحشة" في مأمن من الإصابة به وبكل الأمراض النفسية الأخرى أيضا،  بل كان الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو يمجد ويعظم من شأن من يعيشون خارج العالم الأوروبي "المتحضر" لبساطة حياتهم، ولخلوها من تعقيدات وإجهاد الحضارة! تبنى ذلك الرأي كبار علماء علم النفس قديما، فقال بعضهم أن الأمراض العقلية بين "المتوحشين" نادرة الحدوث مقارنة بما هو مشاهد عند "المتحضرين"، بل وقال آخر إن آثار المرض العقلي عند "المتوحش" في استراليا تختلف عن تلك التي تحدث عند الأوروبي "المتحضر"، تماما مثلما تختلف بقايا حطام "قصر منيف" عن بقايا حطام "عشة صغيرة"!      
وجد بعض الباحثين في كثير من أقطار العالم أن المرأة أكثر عرضة للإصابة بمرض الاكتئاب من الرجل. واختلف العلماء في تفسير هذه النتيجة، فهنالك من عزاها لأسباب نفسية أو هرمونية خاصة بالمرأة (مثلا عند الحيض أو بعد النفاس)، أو للضغوط الاجتماعية الكثيرة التي تقع عليها من جانب الذكور (والإناث أيضا!)، أو لتعرضها لإساءة معاملة (جنسية كانت أو نفسية)، أو لضعف تعليمها وثقافتها، أو قد تكون لطبيعتها التي تحرص على المسارعة في طلب العلاج عند حدوث المرض، بينما يتأخر الرجال في الاعتراف بحقيقة مرضهم! درس كثير من الغربيين سبب زيادة معدلات حدوث الاكتئاب عند النساء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وعزوها لأسباب نفسية، وقال بعضهم أن للإسلام وممارساته دورا في ذلك (أنظر مثلا كتاب شيسلر ب. والمعنون: النساء والجنون، والصادر في نيويورك عام 2005م).
نشرت في عام 2002م دراسة من مدينة العين الإماراتية أوضحت أنه من بين 1390 فردا تمت دراسة حالتهم، تبين أن نسبة حدوث الاكتئاب بين الرجال كانت 2.5%، بينما بلغت تلك النسبة 9.5% بين النساء، وهذه أقل من النسبة العالمية المعروفة للاكتئاب بين الرجال والنساء، وهي نسبة 1 إلى 4. كانت معظم النساء في العين اللواتي صنفن على أنهن من المكتئبات من المطلقات أو ممن بلغت أعمارهن 55 عاما، أو كانت لديهن تجارب مريرة مع آخرين، أو تعرضن لحوادث حياتية مؤلمة (مثل فقدان قريب عزيز أو غير ذلك).
قبل ذلك، وفي عام 1988م كان البروفيسور السوداني/ أحمد الرفاعي وآخرون قد نشروا دراسة  في السعودية حول معدلات القلق والاكتئاب عند المرضي في العيادات الطبية في الأحياء، وبلغت نسبة الاكتئاب عند النساء في تلك الدراسة 17%.
في بحث موسع نشر عام 2006م  شمل 16 دولة مسلمة، درس الأنصاري نسبة حدوث حالات اكتئاب بين طلاب وطالبات الجامعات، ووجد أن الإناث أكثر عرضة للإصابة بذلك المرض في 9 من تلك الدول السبعة عشر (هي مصر والجزائر والمغرب والعراق وسوريا وعمان وقطر والكويت وباكستان)، بينما تساوت نسبة حدوث الاكتئاب عند الذكور والإناث في 7  دول مسلمة (هي تونس ولبنان وفلسطين والأردن والأمارات المتحدة واليمن والسودان). يعاب على هذه الدراسة أنها أجريت على شريحة واحدة (تعد صغيرة نسبيا بالنسبة لكامل المجتمع)، وأفراد هذه الشريحة معظمهم من عائلات تعد من الطبقات الاجتماعية –الاقتصادية العالية نسبيا، ويحمل كثير منهم آراء لبرالية عن حقوق المرأة وحريتها، وكلهم تقريبا  في مرحلة عمرية واحدة، وليس لديهم (لديهن) أطفال. أكدت دراسات لاحقة عديدة هذه النتائج في دول العالم الإسلامي، فعلي سبيل المثال، أكد بحث صادر من الباكستان أن نسبة حدوث الاكتئاب والقلق بين الرجال كانت 15%، بينما وصلت تلك النسبة عند النساء إلى 46%. (وهذه تقارب النسبة المعتادة في كثير من دول العالم 1:4). في هذا البحث تم تفسير المعدل العالي للمكتئبات بأن النساء فيهن نسب عالية من غير المتعلمات (الجاهلات) والمطلقات وغير المتزوجات (ولا أقول "العوانس"!) والأرامل؛ وفيهن أمهات عدد كبير من الأطفال (أكثر من 4)، وفيهن من فقدت طفلا أو أكثر، أو فقدت أحد الأبوين في مرحلة طفولتهن، وبينهن من يعشن حياة تعيسة مع أزواجهن.
في بحث آخر زعم أحد الباحثين أن نسبة النساء المصابات بالاكتئاب في إيران تبلغ أقل من 10%، وبحسب قول الباحثين، فإن ذلك الاكتئاب كان من النوع القليل أو متوسط الشدة، وكان في الغالب بين فقراء النساء. ينبغي القول بأن الفروقات الكبيرة بين نسب الاكتئاب عند النساء في العالم الإسلامي قد يكون مردها الاختلافات في مدي "صدقية" ما تدلي به النساء في مناطق العالم الإسلامي المتباينة التعليم والثقافة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية عند السؤال عن أعراض الاكتئاب، وبحسب فهم المرأة الموضوعي والذاتي لتلك الأعراض في مختلف البلدان، خاصة في البلدان ذات التقاليد القبلية والدينية والعرقية الصارمة، بل وحسب الاختلافات في فهم الدين الإسلامي وممارساته في مختلف البلدان، وصعوبة تطبيق المعايير الغربية التي تستخدم في تحديد من هو المكتئب على نساء (ورجال) هذه البلدان الإسلامية.
أثبتت كثير من الدراسات أن الحروب من أكبر الأسباب المؤدية لحدوث الاكتئاب. فقد تزايدت نسبة حدوث الاكتئاب بين نساء لبنان بعد الحرب الأهلية هنالك. كذلك من أسباب تزايد حالات القلق والاكتئاب عند المرأة في العالم الإسلامي هي حدوث هزات اجتماعية وثقافية هائلة في وقت وجيز نسبيا، مثل تلك التي أحدثها اكتشاف النفط في الخليج العربي، والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي صاحبته، وحدوث حالات فقر وتفاوت طبقي، وعدم استقرار سياسي واجتماعي وسياسي في كثير من البلدان الإسلامية، مع تحولات واهتزاز في كثير من التقاليد والقيم القديمة. ينبغي تذكر أن ما ذكر لا ينطبق على العالم الإسلامي وحده، بل هو يصدق على غالب بلدان العالم المختلفة.
من الموضوعات المثيرة للاهتمام في هذا البحث العماني، ما جاء به من عرض لنتائج دراسة أجريت في الأردن عن تأثير الزواج على حدوث الاكتئاب عند النساء. جاء في تلك الدراسة أن نسبة الاكتئاب بين النساء المتزوجات كانت أكبر من نسبتها بين المطلقات أو الأرامل. عزا الباحثون الأردنيون تلك النتيجة (غير المتوقعة) إلى أن الأرامل – خاصة في وسط الأسر الممتدة-  يجدن من التعاطف والعون الاجتماعي ما يساعدهن على الصمود أمام ضغوط الحياة، وأن المطلقات لا تسوء أحوالهن (النفسية والاجتماعية) كثيرا مقارنة بالمتزوجات. يقول أولئك الباحثون إن كثيراً من المتزوجات (خاصة المستقلات اقتصاديا) يعتبرن الزوج (وربما الزواج نفسه) سببا من أسباب الكآبة والكدر!   
خلص الباحثون (سمير عدوي وآخرون) إلى أنه لم تسجل – حتى الآن- أي إحصائيات تثبت حدوث حالات اكتئاب في دول العالم الإسلامي تفوق المعدلات العالمية المعروفة، وأن معدلات حدوث نسبة عالية للاكتئاب بين النساء مقارنة بالرجال في العالم الإسلامي، لا تختلف كثيرا عن المعدلات التي تحدث في دول العالم الأخرى. هذه النتيجة الأخيرة تتسق مع التحولات التي مرت بها مسيرة المرأة في العالم الإسلامي في سعيها لنيل حريتها وحقوقها تحت ظروف ثقافية واجتماعية غير مواتية في كثير من الأحيان، ومحاولتها خلق نوع من التوازن بين نيلها لحقوقها (المشروعة) وبين مراعاة قيم المجتمع التقليدي المحافظة، ودورها فيه كزوجة وأم وعضو فاعل مشارك في المجتمع. إن محاولة خلق ذلك التوازن (العسير في غالب الأحايين) بين أدوار قد تبدو  متناقضة، هو من أسباب حدوث إجهاد عصبي للمرأة التي تحاول أن تجد لها دورا ومكانا في المجتمع. يؤدي كل ذلك الإجهاد إلى قلق وكآبة ناتجة  بسبب الخوف من عدم القيام – على الوجه الأكمل- بأي من الأدوار المختلفة (والمتناقضة في الظاهر، على الأقل) الملقاة على كاهلها. كذلك  - كما يقول بحث صادر من عمان بقلم أ. اللمكي- نجد أن التحديث المفاجئ، والتطورات السريعة، والنقلات المتلاحقة التي حدثت في بعض دول العالم الإسلامي (مثل دول الخليج العربي الغنية نسبيا) لم تصاحبها كبير تغييرات في القيم الثقافية الخاصة بأدوار أفراد العائلة، فظلت العائلة – على وجه العموم-  كبيرة ممتدة، وذات ترتيب هرمي (حسب الأهمية)، وتفصل بين الجنسين، والرأي فيها للرجل، مما ألقى على عاتق المرأة الحديثة مزيدا من الضغوط، إذ ترى المرأة الحديثة أن لها دورا مهما (ومقدرا) تؤديه خارج البيت (كطالبة أو مهنية أو غير ذلك)، بينما تعود للبيت فلا تجد ذات الدور ولا التقدير داخل الأسرة! ينبغي القول أيضا أن التحديث الذي حدث في كثير من البلدان الإسلامية قد أتاح للمرأة أيضا فرصاً عديدة. فبحسب إحصائيات البنك الدولي في عام 2003م ، فإن نسبة مساهمة النساء في القوى العاملة بالبلدان الإسلامية تبلغ 47%. لا شك إن تلك النسبة ستزداد مع التوسع في التعليم والتدريب، ومع ازدياد الحاجة الاقتصادية للفرد والمجتمع لولوج المرأة مجالات العمل المختلفة (خارج المنزل).ِ
هنالك حاجة لمزيد من الدراسة والتنقيب في المسائل المتعلقة بالأحوال النفسية والعقلية في العالم الإسلامي، وتحسين وتطوير أدوات هذه الضروب من الأبحاث، و"توطينها" بالعمل على صياغة استبيانات تراعي خصوصية المجتمعات في هذه المناطق من العالم، وعدم الاعتماد على صيغ جاهزة صممت لمجتمعات ذات طبيعة وتقاليد وعادات وثقافة مختلفة. كذلك ينبغي دراسة الأسباب التي تجعل النساء أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب من الرجال.
نقلا عن "الأحداث"  


badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء