محمد وردي وإعادة اختراع لغة الحياة اليومية: د. عبد الله جلاب .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



محمد وردي وإعادة اختراع لغة الحياة اليومية
Mohamed Wardi and the Reinvention of the Everyday Language
د/ عبد الله جلاب
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: قدم الأخ الصديق د/ عبد الله جلاب (الأستاذ بجامعة ولاية أريزونا بالولايات المتحدة الأمريكية) هذه الورقة عن الفنان محمد وردي لمؤتمر الدراسات السودانية (والذي تعقده سنويا جمعية الدراسات السودانية بأمريكا) في عام 2001م، وأنا شاكر له أن خصني بترجمة ورقته، ولتكرمه بمناقشتي في أجزاء منها. وأشكر كذلك الأستاذ عبد المنعم خليفة لقراءة ومراجعة المقال. اسجل هنا تحفظي على قليل جدا مما جاء في المقال من آراء تخص المؤلف في مواطن قليلة من النص. المترجم
---------------------
تنتج المجتمعات والثقافات والطبقات والحركات المختلفة دوما أشخاصاً متفردين يساهمون – بدرجات متفاوتة-  في التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي. إذ تنتج كل ثقافة أو مجتمع أو طبقة أنوعها المتفردة الخاصة بها، وتصوغها وتشكلها بحسب ديناميكياتها المعينة التي تميزها. وليس شرطا بالضرورة أن تأتي هذه الشخصيات المتفردة المتميزة مطابقة أو مماثلة لنظرة المجتمع أو نظمه المرعية. بل على العكس تماما، قد نجد في معظم تلك الشخصيات المتفردة المتميزة  تناقضا ومفارقة – كاملة أو جزئية- لبعض أو كل ما استقر في المجتمع من نظم اجتماعية وسياسية أو تنظيمية. كان محمد وردي أحد أولئك الأشخاص المتفردين المميزين، والذي استحق بشخصيته القوية، وبإنتاجه الفني الإبداعي الغزير إعجاب الملايين، وأثار في أوساطهم في بعض الأحايين لغطا وجدالا، واختلافا كبيرا، بل ومعارضة حادة. تأسست هوية الرجل الذاتية كموسيقي، ومطرب، وناشط في الحياة السياسية والاجتماعية السودانية، على أساس متين من جملة ما تمخض عن نتائج مساهماته عبر مسيرة  إبداعية خلاقة تواصلت لأكثر من نصف قرن.
نحاول في هذه الورقة التأكيد على ثلاثة محاور تتعلق بالمواقف الاجتماعية وأنماط  العمل التي ساهمت في تكوين هوية وردي.
1. في المحور الأول نجد أنه بجانب أنماط العمل تلك، وأدوات إنتاج الهوية السودانية، ظل وردي أحد القلائل الذين لعبوا دورا مزدوجا في نمط الإنتاج الاجتماعي: ذلك الدور الذي يمكن أن نسميه مجازا بدور البرجوازي، ودور البروليتاري في ذات الوقت. انتقد بعض الناس وردي عندما قال متفاخرا في معرض الحديث عن غزارة إنتاجه بأنه "ينافس نفسه". هنا يبدو الرجل وكأنه يماثل البرجوازي في المجتمع الحديث الذي كتب عنه أحد المفكرين بأنه " نجح في خلق وسائل عملاقة للإنتاج وتبادل الملكية، كصبي الساحر الذي لم يعد قادرا على لجم تلك القوى "الجهنمية" التي أيقظها بسحره من سباتها"  لذا بدا وردي وكأنه في حالة مطاردة دائمة لا تهدأ للبحث عن "أسواق جديدة وزبائن جدد" من أجل فائض إنتاجه ذلك.
في جانب آخر، هو كالبروليتاري في عالم تسوده علاقات إنتاج متخلفة، وتحولت فيه قوته المادية إلى أغلال تكبله. بيد أنه في خضم هذه الجدلية الملحمية على  وسائل اختيارنا الاجتماعي  أن تتحرر مؤقتا لنعيد اكتشاف لغتنا اليومية بإستيلاد (أو استنساخ) كلمات جديدة، واستعادة الصور والأحلام  التي نطمح لتحقيقها. يصح القول بأن كل شيء صلب يمكن أن يذوب. بيد أنه يصح أيضاً قول الكاتب باومان بأن "لا شيء يمكن أن ينجز مرة واحدة وبصورة نهائية؛ وإن كل ما يحدث، يحدث دون إعلان مسبق، وقد يذهب كذلك دون أن يلحظه أحد".
من خلال هذه اللغة التي أعيد اكتشافها يقوم سائقو اللواري في السودان باستعارة بعض الكلمات من أغاني محمد وردي لوصف علاقات حب مختلفة جدا، فتغدو المركبة هي "الحنينة السكرة"، وتصبح هي التي يستعطفها ذلك السائق (المحب) لتعبر له عن شعورها "لو بي همسة". وهنا أيضا يسكن المحبون الشباب في فيض تلك  اللغة الدافئة، والتي تترجم العواطف الجديدة التي تلمع في أعين محبوبة خجولة وضعها المجتمع في المقعد الخلفي المخصص لجنسها (بحسب الترتيب الجندري المعتاد). ولكن ذلك العاشق يشجعها في ذات الوقت بأن تبوح بقوله  "ما تخجلي". وعندما يأتي العزاء لقلب كسير—في موضع آخر—وكنوع  من نكران الذات، تأتي العبارة "ضيعوك...ودروك... إنت ما بتعرف صليحك من عدوك". وعلى مستوى غير مشابه لتينك الحالتين تغدو جامعة الخرطوم "جميلة ومستحيلة"، وتصير جامعة القاهرة فرع الخرطوم هي "الحنينة السكرة"، في إشارة لشدة المنافسة في جامعة الخرطوم وصعوبة القبول بها، مقارنة مع السهولة النسبية التي عرفت عن الجامعة الأخرى. ولكن – وككل شيء آخر- فإن اللواري وسائقيها يشيخون، ويوهن الحديد والعظم منهم، وينبت جيل جديد من العشاق الصغار، والذين قد يظفرون (أو يخيبون) في "أول غرام" لهم، وقد تبرأ قلوبهم المحطمة (أو لا تبرأ)، ولكن الشيء المؤكد الوحيد هو أن غالبيتهم ينجحون في التخرج من الجامعتين.
نهجر كلنا كلمات الأغنيات بعد حين، ليستعيرها جيل جديد من سائقي اللواري، والمحبين الصغار، والقلوب المحطمة، والذين يقومون بدورهم بإعارتها لجيل قادم، وهكذا دواليك. غير إنه، وكثيرا ما يصيبنا الشوق والحنين (والحماس أيضا) لذكري تلك الكلمات، فنسترجعها دون ملل، ونزور مشاهدها بخيالنا  بين الحين والآخر.
2. المحور الثاني: هنالك جانب آخر للعوامل التي ساهمت في تشكيل هوية وردي، والتي يمكن أن تندرج في باب "تحديد هوية المجموعة"، والتي يمكن أن تقدم مثالا جيدا على موقع آخر لميلاد هوية جديدة. فقد قام العهد الاستعماري بخلق قاعدة جديدة لمؤسسات اقتصادية واجتماعية وثقافية للدولة الجديدة في السودان. ونمت وتطورت من خلال تلك المؤسسات العصرية الجديدة، هوية سودانية جديدة تقوم على مبدأ "الوطنية" (ويفترض فيها العلمانية). رغم ذلك فإن جوانب معينة من تجليات "العروبة" و"الإسلام" ظلت في موقع المركز من هذه المؤسسات، ومن فكرة "الدولة السودانية الحديثة". ارتبط أصل تلك الهوية (السودانية) بلهجة أهل الخرطوم (على مستوى التخاطب الشعبي)، وباللغة العربية الفصحية (على مستويات الخطاب الأعلى). وقد ظل ذلك النهج يحتقر غيره من اللغات واللهجات المحلية الأخرى. هذا وقد إستبطن ذلك الاتجاه نمطا ثقافيا جمع ما بين الإسلام السني التقليدي، والإسلام الصوفي الشعبي السوداني، مع الاعتقاد في الحداثة، كمحرك ودافع  لقيام وتطور تلك الهوية السودانية الجديدة. في ذات الوقت لم تكن هذه الهوية الجديدة نتاجا فقط لهذه التطورات الجديدة التي انبثقت من الأجواء الجديدة التي صاحبت قيام الدولة الجديدة، بل كانت نتاجا أيضا لعوامل كثيرة، من بينها التاريخ المشترك، والفخر والاعتزاز والتقدير للغة العربية وتراثها، ولروابط الدم والعلاقات العرقية  للمجموعات الاجتماعية التي تؤمن إيمانا لا يتطرق إليه الشك في انتمائها القوي للجنس العربي القديم والحالي. تم استبدال التعبير القديم (أولاد البحر) الذي يرمز لهوية هؤلاء بكلمة "عرب". هذا وقد تمت قبل ذلك كتابة (وإعادة كتابة) "سلالات نسب" جديدة لإعادة تشكيل أنماط متسقة ومتناغمة من الأنساب، بعيدة عن "عبد الله جماع"، وأكثر قربا من مرامي "غردون" و"ونجت" و"سير جيمس روبرتسون" ( يشكل هؤلاء ثلاثة  من أهم الإداريين البريطانيين الذين عملوا بالسودان في الفترة من 1874– 1955م. المترجم) كي تناسب المصالح المتضاربة وتوجهات المستعمر والمستعمر (على حد سواء).
شهدت تلك الفترة الممتدة منذ أن نال السودان استقلاله، انضمام فئات مجتمعية جديدة آتية من المناطق الريفية والقطاعات شبه المدنية في البلاد إلى المنظومة الاجتماعية الجديدة، عبر الفرص الجديدة التي أتاحها توسع التعليم العام، وتطور وسائل المواصلات والاتصالات. كانت من أهم تلك المجموعات: الشايقية، والذين هجروا "الطورية" و"العسكرية"، والنوبيون في شمال البلاد، والذين هجروا المعالق والشوك والسكاكين والصحون والمقالي، وتدافعوا نحو الظفر بمناصب حكومية تضمن للمرء هيبة وحظوة. كانت إحدى شواهد الصعود الاجتماعي للفئة الأولى هي وصول الفريق عبود لرئاسة المجلس الأعلى للقوات المسلحة عبر انقلاب 17 نوفمبر 1958م، مع ثلة من الشايقية الآخرين بشلوخهم المميزة من أمثال حسن بشير نصر، وأحمد خير، وأبورنات، إضافة بالطبع لعبود نفسه (وهو شايقي ولكن يخلو وجهه من الشلوخ). كان الشاهد على صعود نجم الفريق الثاني من "البرابرة" هو خليط السخرية والحب الذي أظهرته قطاعات واسعة في البلاد لبعض مظاهر الشخصية النوبية. ومن أفراد جيل النوبيين من القدماء الذين ملأوا الساحة السودانية وشغلوا أناسها كان إبراهيم أحمد، ومحمد نور الدين، ومحمد أحمد علي، وجمال محمد أحمد، ومحمد توفيق. كما أعاد الناس اكتشاف "خليل فرح" كأحد قادة مركبة الهوية السودانية. وسرت بين السودانيين النكات والقفشات النوبية الدالة على اعتقاد أولئك بقدر من التميز، منها أنه "إندنا (عندنا) حسن طنون نبي عموم السودان، ومحمد وردي فنان أموم (عموم) السودان".
لقد فعل أفراد تلك الجماعات سنن هويتهم (الجديدة) وناقشوا أمر دخولهم  للمجتمع السوداني العام عبر دهاليز "النظام السوداني" بوسائل تصالحية، (أو استرضائية) ووسائل غير تصالحية كذلك. آثر محمد وردي وإسماعيل حسن الخيار الثاني في البداية؛  إذ قام المغني النوبي الشاب (حينها) محمد وردي والشاعر الغنائي الشايقي (المغمور آنذاك) إسماعيل حسن بتوجيه سياط نقد لاذع لحقيبة الفن، والتي كان يعتقد بأنها أحد أهم ركائز هوية السودان الثقافية في ذلك الحين. بالطبع لم يكن ذلك النقد مجانيا كاسحا شاملا لا يفرق ، ولم يكن بقصد هدم المعبد القديم، أو فراقا أبديا له، ومن أجل تأسيس ثقافة وهوية جديدتين. رغم ذلك فقد كانت من أهم  نتائج نقد ذلك التراث الفني القديم الممثل للهوية السودانية آنذاك هي إنبات أنواع جديدة من الرؤى الثقافية المعبرة عن روح عصرية، ترى في المحبوبة شريكا له صوت مسموع في العلاقة العاطفية. عبرت تلك الرؤية العصرية عن العلاقة بين الرجل والمرأة بصوت وروح جديدين. أتت تلك الروح العصرية كنتاج لثلاث عوامل رئيسة هي:
أ .نشوء وتطور حركة نسوية نشطة بدأت في تعريف وإظهار أجندتها النسوية (الهادفة للمساواة مع الرجل).
ب. زيادة عدد أفراد النخبة الصفوية المتعلمة، والتي بدأت فيما بينها نقاشا واسعا حول مختلف جوانب الخطاب الوطني، و
ج. ظهور مجموعات عرقية مهمشة، أظهرت تململا من عدم (أو قلة) تمثيلها في المجتمع، بل وحتى في إذاعة أم درمان (الإذاعة القومية).
ولكن الصراع الذي ميز علاقة وردي مع إسماعيل حسن وتعاونهما الفني (وأدى إلى إنهاء تلك العلاقة وإيقاف التعاون الفني) قد يعود إلى تبني كل منهما خيارات سياسية مختلفة، وآراء فكرية متباينة، واستراتيجيات ثقافية متناقضة. فبينما اتجه وردي بكلياته نحو هويته السودانية الجديدة، وجماعاتها التقدمية من الشعراء الذين بمقدورهم التعبير عن رغبته الجامحة في غزارة الإنتاج، وفي إشباع طموحاته للتعبير عن أفكاره الجديدة، قنع إسماعيل حسن بالقيام بدور "شاعر شعبي شايقي".
3. المحور الثالث: من خلال عملية ممارسة وردي لدور بارز في الأوساط التقدمية، ومحاوولته لخلق نمط جديد من الغناء  يعيده لداره (إن صح التعبير) من منافيه الثقافية والسياسية، عثر ذلك الفنان على "حريته" كأحد قادة الثقافة المدنية السودانية،  (في الأصل "الديانة المدنية السودانية" . المترجم). وبقبوله لهذا الدور آمن بأن لا توقف ولا رجعة بعد الآن. غنى وردي ": زمان قطر النضال ولى وغالي علي إتدلى".
يجب تذكر أن لتلك الثقافة (الديانة) المدنية السودانية أعيادا تقتضي الاحتفال بذكرى ثورة أكتوبر (21/10/1964م)  وانتفاضة إبريل 1985م، تجديدا للالتزام بتطلعات الشعب لحياة مدنية أفضل، ولتحقيق أحلام سياسية مثالية. ولتلك الثقافة (الديانة) المدنية السودانية "معابدها" (إن صح التعبير. المترجم)، ومن أهمها جامعة الخرطوم، حيث ولدت ثورة أكتوبر، وشهداؤها من أمثال أحمد القرشي طه، وبابكر عبد الحفيظ ، والتاية، وآخرين، ولها أيضا كتابها وشعراؤها وفنانوها من أمثال محمد المكي إبراهيم، وفضل الله محمد، وهاشم صديق، ومحجوب شريف، ومحمد الأمين، وعبد الكريم الكابلي؛ وبالطبع محمد وردي.
تتضح الطبيعة المزدوجة لـ "الخيال السياسي السوداني" في أن له قوة محفزة، وجاذبية طاغية في طول البلاد وعرضها. وفي ذات الوقت به خوف وقلق من حكم الأنظمة العسكرية التي تنقض عقودها الاجتماعية والسياسية والدستورية. وفي مسيرة هذه الملحمة الطويلة، وهذا السياق الاستثنائي، فإن الحالة الإنسانية لشخصية مثل محمد وردي تسمو على كل تقسيمات وأنواع الحدود والقيود.
قابلت محمد وردي للمرة الأولي وأنا تلميذ بمدرسة بارا الأولية. أخذني ابن محمد عبد الرحيم أبو كراب مع ثلة من أطفال آخرين بمركبته (اللوري) إلى الأبيض لحضور حفل غنائي كان سيغني فيه محمد وردي في سينما "عروس الرمال". وبعد مرور 11 عاما على ذلك الحفل، كان زميلي في إحدى غرف داخليات جامعة الخرطوم (بحر الجبل ب) علي عبد القيوم قد خطط لزيارة مفاجئة لمحمد وردي في داره بالامتداد. بعد تلك الزيارة صرت "زبونا" دائما لحلقة ضيقة من مجتمع ذاك الفنان. وعندما اعتقلت في عهد نميري، كان وردي قد دخل في عامه الثاني في سجن كوبر. في عصر اليوم الذي أدخلت فيه لسجن "الكرنتينة ج"، أرسل لي وردي خمس صناديق سجائر وقلم رصاص صغير، وأوصى من حمل تلك الهدية بأن يشرح لي طريقة الكتابة في الطبقة الداخلية لصندوق السجائر. لسوء الحظ، داهمني الحراس في اليوم التالي، وأنا أحاول تطبيق ذلك الابتكار الكتابي؛ وكان أن عوقبت بالسجن الانفرادي على تلك "الجريمة". أفلح وردي في "إقناع" ضابط السجن بنقلي لمستشفى السجن حيث كان يقيم وقتها مع زملاء آخرين. نعم كنت في السجن، بيد أن السجن مع وردي كان جائزة لا تقدر بثمن!
نعم يا صديقي. بالنسبة لنا الآن "كل الأرض منفى". رغما عن ذلك:
لن نتوقف عن البحث )
وعند نهاية رحلة بحثنا
سنعود إلى حيث بدأنا
ونتعرف على مكاننا للمرة الأولى)
تي إس إيليوت
نقلا عن الأحداث"

 

آراء