بأية حال ستأتي يا سلام؟!!
مقال نشر قبل تسع سنوات
tigani60@hotmail.com
توطئة:
قبل تسع سنوات كتبتُ مقالاً بعنوان (بأية حال ستأتي يا سلام؟) نشرته جريدة الصحافة في منتصف سبتمبر عام 2003م, قبل نحو اسبوع من التوقيع على بروتوكول الترتيبات الأمنية والعسكرية إبان الجولة الأولى من المفاوضات المباشرة التي جمعت الاستاذ علي عثمان والراحل الدكتور جون قرنق بنيفاشا, وقد حفل المقال بالكثير من التحذيرات من عواقب التسوية الجزئية القائمة على صفقة ثنائية, وتنبأ بأنها ستفضي إلى استراحة محاربين, وليس إلى سلام مستدام. وتكتسب إعادة قراءة هذا المقال أهمية في ظل تحقق السيناريو الاسوأ الذي يهيمن على البلاد حالياً بحدوث تقسيم البلاد وعودة الحرب.
وإلى نص المقال:
بالأمس فقط عاد إلى صحافتنا بعض وعيها بمسؤوليتها تجاه قرائها فنقلت في أخبارها وقائع ما يحدث بالفعل في محادثات نيفاشا، البلدة الجميلة الواقعة في أحضان الأخدود الإفريقي العظيم، وليتبين القارئ أن الطرفين لا يزالان يتبادلان المذكرات بشان مواقفهما التفاوضية من قضية الترتيبات الأمنية والعسكرية وأنه لم يحدث بعد اختراق مفصلي بخصوصها، وما لم يحدث اتفاق نهائي في الجانب العسكري فإن الاتفاق على الجوانب السياسية والاقتصادية وغيرهما سيظل معلقا ورهنا لها، وليتضح أن ترويج الصحافة لحدوث اتفاق سلام نهائي، وهو ما لم يحدث حتى كتابة هذه السطور أمس، لم يكن إلا من باب تفاءلوا بالخير تجدوه، فالطبخة لا تزال على النار ولا تزال تحتاج لإضافة العديد من المكونات الاساسية والبهارات لها حتى تنضج.
يأخذ بعض الناس، وأنا منهم، على صحافتنا زهدها البين في الإلتزام بمسؤوليتها المهنية تجاه قارئها فالمطلوب منها أن تمده في أبوابها الإخبارية بوقائع أي حدث كما يحدث بالفعل،لا كما تتمناه أن يحدث، ولا يعيب الصحافة أن تتبنى موقفا سياسيا معينا وتروج له، ولكن محل الترويج لهذه المواقف، وبغض النظر عن نبلها، ينبغي أن يكون في أبواب الرأي بالصحيفة، فللخبر قدسيته ولا يجوز أخلاقيا أن تلون الصحافة الأخبار، حتى ولو كان مقصدها نبيلا، فللقارئ الحق أن يشكل رأيه الخاص في أي حدث وفق معلومات دقيقة ومستقصاة، وهذه هي مهمة الصحيفة، عن الوقائع لا التمنيات، وللصحيفة أن تجنده لموقفها ولكن ليكن الخبر محل الخبر والرأي محل الرأي.
وقضية وقف الحرب وتحقيق السلام هي أم معارك السودانيين اليوم، وليس سويا أو يمتلك ذرة من وطنية من يرى مبررا لاستمرار نزيف الدماء، إلا أن حدثا سياسيا بهذا الخطر ليس مما ينفع أو يصلح التعامل معه من باب التشاؤم أو التفاؤل، بل الوصول إليه وتحقيقه وضمان استدامته هو محصلة ونتيجة موضوعية لمخاطبة جذور الأزمة وتشخيص عللها ووصف الدواء اللازم لعلاجها، أما المسكنات أو المهدئات فلن تعطي سوى فترات عابرة من الإحساس الكاذب بنجاعة الدواء المسكن في استئصال الداء.
ودور الصحافة في قضية بهذه الخطورة ينبغي أن يتجاوز تهييج العواطف ونشر التفاؤل أو وهم الخلاص الوشيك بغير حساب وبغير سند من الواقع مما يدخل في باب تغييب الوعي، فالخروج من أتون الحرب الأهلية في السودان التي فاقت سنوات مأساتها الأربعة عقود من الزمان أكثر تعقيدا مما يستسهله البعض ويحتاج لتضحية النخب بمكاسبها ولوعيها بأسس الحل الناجع والشامل، فلسنا في حاجة لاستراحة محاربين ولكننا في حاجة لإراحة مواطني هذه البلاد بحل يتجاوز التسوية المنقوصة المرتهنة للحسابات الحزبية الضيقة، سيتحقق السلام فعلا عندما نجد حلا بحجم قضية الوطن لا حلا على مقاس جماعات أو شخصيات لأنه مهما علا شأنها فهي ليست أخلد من الوطن ولا أرفع شأنا منه.
ودور الصحافة الوطني المنشود هو إشاعة الوعي وإدارة الحوار حول الاسس السليمة للتسوية المرجوة حتى يأتي السلام عادلا وشاملا وقادرا على الاستدامة، وليس من شأن الصحافة الاكتفاء بدور المتفرج أو الانشغال بالهتاف للاعبين احتفاءً بمهاراتهم والترديد الببغاوي لمقولاتهم وكأنها مما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالصحافة شريك أصيل، وقد عرفت بوصف السلطة الرابعة، في تقييم أخطاء الماضي وتشكيل الحاضر ورسم خطى المستقبل، وتخطئ الصحافة السودانية خطأ مميتا إن هي رضيت أن تظل ظلا باهتا للسياسيين يستخدمونها لصالح أجندتهم وتتنازل عن طواعية وبغير إكراه عن دورها في قيادة عملية الإصلاح وتبني أجندة الوطن لا أجندة السياسيين.
لقد سارعت بعض الصحف، ومنها صحيفتنا العزيزة هذه (إشارة لجريدة الصحافة)، تنصب اشرعة الأمل وتقيم سرادق الفرح ولما تمضي أكثر من بضعة أيام على المحادثات، وهي على أية حال فرحة مشروعة ولو جاءت قبل أوانها، إلا أنه لم يكن لائقا خلط الأوراق وتشويش الرأي العام، فالسودانيون مشهورون بعاطفيتهم وهذه خصلة مقبولة في الشأن الاجتماعي ولكنها عندما تنسحب على السياسة لا تعدو أن تكون سذاجة، وقد اكتوى السودانيون بنيران هذه السذاجة حين انتفضوا في 21 أكتوبر 64 لإزاحة الحكم العسكري وأحسنوا الظن في الطبقة السياسية أنها ستحسن التصرف وتتعلم من التجربة وتهدي للشعب الثائر نظام حكم ديمقراطي حقيقي ومسؤول، وخاب الفأل حين عاد العسكريون للسلطة بعد خمسة أعوام فقط بسبب الفشل الذريع للطبقة السياسية وعجزها عن إقامة نظام قادر على الاستدامة، وانتظر السودانيون واحداً وعشرين عاما أخرى لينسوا سذاجتهم السياسية الأولى لينتفضوا ثانيا في أبرل 1985 ، وأحسنوا الظن بسياسييهم مجددا، ولكنهم خيبوه مرة أخرى بعد أربع سنوات أخرى. ويبدو أن السودانيين تعلموا من التجربتين المريرتين ولذلك يترددون في تكرارها للمرة الثالثة من أجل طبقة سياسية لا تتعلم أبدا.
وعلى كل حال فالتفاؤل مطلوب ولكن ليكن في محله وبغير قفز على الحقائق، والتشاؤم ليس مما يستحب وقد قال حاتم حسن الدابي الشاعر العذب ابن شاعر الشايقية الكبير (المتشائم العصفور يشوفو غراب)، وهذا صحيح غير أن العكس أسوأ فالكوارث تأتي عندما يرى المتفائل الغراب ويصر على أنه عصفور.
ولنعد إلى محادثات طه قرنق بنيفاشا ما الذي يمكن توقعه مردودا لهذه المفاوضات وقد كرت أيامها من ثلاثة لتبلغ خمسة عشر وقد تزيد، كنت أرى منذ بدء هذه المحادثات ولا يزال إنه لا يمكن التكهن بنتائجها أو مردودها ما لم يصدر بيان مكتوب عن حصيلتها، فشروط التسوية التي يطلبها كل طرف فيها أكثر تعقيدا مما هو ظاهر من التصريحات المتفائلة، وقد قالت تصريحات طه وقرنق لرؤساء التحرير الصحف لمن قرأ بين السطور أكثر مما قالته صراحة، وصحيح أن التوصل إلى تسوية ممكن بالفعل ولكن بتنازلات كبيرة، غير أن تقديم هذه التنازلات تستتبعه بالضرورة تبعات وتداعيات قد تكلف من يقدم عليها غاليا، ولذلك يحجم كل طرف عن تقديم هذه التنازلات ويناور حولها ما أمكن له ذلك وتتطاول فترة المحادثات لأن لا أحد منهما،كل بحساباته،سيتحمل نتيجة المبادرة إلى رفع ماراثون التفاوض بغير التوصل إلى اتفاق، فالاستاذ علي عثمان يغامر بكل رصيده ومستقبله السياسي بإقدامه على هذه المحادثات المباشرة مع قرنق، وقد وصفها السيد الصادق المهدي بحق أنها مفاوضات (صاحبي الفيتو) في الطرفين، ولأنها تفاوض بين مرجعيتين فلا مكان فيها للفشل، إذ لا معقب لحكمهما، وإلا كانت العواقب وخيمة على أكثر من صعيد على من يرمى بتهمة التسبب في إنهيارها.
ولأن مشروع التسوية المنتظر محتكر لطرفي الحكومة والحركة الشعبية، مع مجال محدود لاستيعاب الأخرين بحسب قواعد لعبتها،فإن حساباتها أكثر تعقيدا مما لو كانت تجري في فضاء أوسع وجامع، فالإنقاذ بالتأكيد لم تدخل هذه المفاوضات لتفكك نفسها ولكنها تبحث عن تحالف جديد مع الحركة الشعبية تطيل به عمرها وتركز به وجودها وفق معادلة جديدة، ومطالبة الحكومة بالشراكة مع الحركة هو شرطها الرئيس للتوصل إلى تسوية،غير أن المعضلة تكمن في أن الحركة الشعبية تطالب بثمن باهظ لهذا الشراكة وتريد أن تقبضها تنازلات مؤلمة وقاسية في الترتيبات الأمنية والعسكرية بوجه خاص، وتدرك الحكومة أنها إذا أقدمت على تقديم هذه التنازلات تكون كمن يتجرع السم الزعاف، فالمغامرة قد تستحق ولكن حين تكون بأصل ومشروعية الوجود فالنتيجة بلا شك خاسرة.
والحق فإن وضع الإنقاذ في هذه المفاوضات بين أمرين أحلاهما مر في مواجهة خصم شره حصل على حقوقه كاملة سلفا ولكنه يدرك، وقد أحسن قراءة المشهد السياسي الداخلي، أنه أمام فرصة تاريخية للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب، ولذلك فإن الإنقاذ بين مطرقة تقديم تنازلات لتمهيد السبيل إلى تسوية وهذه غير مأمونة العواقب على صعيدها الداخلي، وإما التمسك بمواقفها ولو أدى ذلك إنسداد أفق التسوية المنتظرة، ولأن قرنق لا يقف على صفيح ساخن ولا يتعرض لضغوط حقيقية من الراعي الأميركي أو الوسطاء الإقليميين، هذا مع العلم أنهم عرفوا بنصرته دائما، ولا تتهدده أية عواقب جراء التشدد في مطالبه، وهو على أية حال يسوقها باعتبارها ضمانات وليست تغولا على حقوق الأخرين، فإنه لا يبدو في عجلة من أمره ولذلك يقول إنه مستعد للبقاء في نيفاشا إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق مدرك أن الزمن يضغط على الطرف الحكومي وليس عليه، ويراهن على كسب لعبة الزمن فإن حصل على ما يريد فقد فاز، وإن لم يحصل عليه فقد برأ ذمته أمام حلفائه الأميركيين والوسطاء الإقليميين من أية ملامة، وجائزته جاهزة بتفعيل قانون سلام السودان الشهر المقبل بحق الحكومة.
لربما كانت الإنقاذ ستكون في موقف أفضل من المأزق الحالي لو أنها لم تصر على المضي وحيدة في هذا الطريق إلى نهاية الشوط، مترفعة عن الاستنصار بقوى سياسية معارضة مهمة مدفوعة بإغراء ضعف هذه القوى السياسية المعارضة وأنها في حالة يرثى لها ولا تشكل تهديدا جديا لها بالمعطيات الراهنة، كما فشلت في تحريك الشارع ضدها، والشارع نفسه يبدو زاهدا في الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة على حد سواء ولا يلوح له في الأفق بديل أفضل، ولكن حسن السياسة كان يقتضي أن توسع الإنقاذ مواعينها فهي لا تفاوض متمردين معزولين، بل حركة متمرسة تدرك أن لحظتها التاريخية قد حانت، لها من التحالفات الداخلية والرصيد الخارجي مما لا يجعلها لقمة سائغة للإنقاذيين، وما كانت الإنقاذ لتكون مطالبة بتقديم تنازلات كبيرة حتى تؤمن اتفاق تسوية غير مأمونة العواقب لو أنها تسلحت بصف مرصوص البنيان.
يرى كثير من الناس ممن يؤمنون بالحل الأميركي ويثقون في مقدرته وضغوطه أن السلام قادم لا محالة وأن الأمر ليس سوى مسألة زمن لا أكثر، ربما يقصد هؤلاء أن توقيع اتفاق تسوية بين الطرفين هو أمر حتمي، بيد أن ذلك لا يعني بالضرورة تحقيق السلام، فالسلام أوسع معنى وأكثر تعقيدا من قدرة طرفين على تحقيقه، وإن استندت فرضية تشكيل الحل على مقاسهما بحسبانهما الأكثر امتلاكا للسلاح أو القوة العسكرية،
فسلام لا يقوم على أسس عادلة ومتوازنة ومعادلة غير مختلة ويحفظ حقوق جميع أطراف الوطن ومكوناته لن يكتب له الصمود ولا الاستدامة، وإرث الولايات المتحدة المعلوم والمشهود يؤكد قدرتها على فرض توقيع التسويات على خلفية الصور المليئة بالابتسامات، ولكن هذا لن يقود بالضرورة إلى سلام ما لم يكن شاملا وعادلا.
وللمصادفة مرت هذا الشهر الذكرى العاشرة لاتفاق أسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل فأنظر إلى نتائجه المشهودة، وتمر اليوم الذكرى الخامسة والعشرين لاتفاقية كامب ديفيد فأين هو السلام في الشرق الأوسط وقد كانت أصلا اتفاقا إطاريا لتحقيق السلام في المنطقة وليس فقط بين القاهرة وتل أبيب، براعة الولايات المتحدة في فرض الضغوط وإشعال الحروب لا ينكرها أحد، ولكن لم تعرف واشنطن المتحيزة بالنجاح في رفع رايات السلام.
ولذلك فإن تعديل مسار التسوية وتوسيع مواعينها وتأسيسها على قواعد عادلة ومنصفة هو الضمانة الحقيقية للسلام الحقيقي والمستدام الذي ينتظره الشعب السوداني الذي لا يزال بعد نصف قرن من الحكم الوطني يحلم بدولة مستقرة يستحقها تحترم حقوقه الإنسانية وتكفل حرية يسودها العدل والقانون وتلبي تطلعاته في غد افضل،ومخاطر وتبعات التوصل إلى اتفاق سئ ليست أقل من مخاطر وتبعات عدم التوصل إلى اتفاق.