ثورة الزنج

 


 

 



حين استبيحت حروف الكلام المباح
هو الجوع يأكل خضر الضفاف
هو البقرات العجاف
هو الخوف من عسس القصر والامن، لا أمن في ظل هذي المحنْ
أيا ضاحك البرق حي نزيل الخباء
ورو مضارب عزة بالغيث دوماً وحدث عن الراحلين وعن شجرات الخلاء
هاأنا في المدائن منتشر أبتغيك تجيئين بالطيبات ودفء العشيرة وقت الحصاد
أحبك نيلاً ونيماً، وعهداً قديماً، وعشقاً مقيماً تمدد ما بين خاصرتي والفؤاد
ومالي إذا كنت أعشق هذي البلاد؟!
وأشتاق عزة، لا الجند يمنعني الشوق جهراً وهذا النهار والرغائب دون إنتهاء
أيا طائراً من رماد الحرائق منبعثاً يرفض الموت قبل الوفاء
(عزة قصيدتي، الشاعر محجوب البيلي)
نجح نظام الإنقاذ في تفعيل التناقضات الأثنية في هذا البلد بدرجة لم يعد أهلها يرون إلاَّ الشئ ونقيضه، الجنس وخصيمه، المالك وغريمه، إلي آخره من أصناف الأجناس والطباق التي إن انطبقت علي الكائنات لايمكن ان تُسْقَط علي حركة المجتمع الذي لا نفترض فيه التاضديه وما يتبعها من محصلة صفرية. مثلاً، إن ما نقدمه من نقد لا يفترض ان يكون خصما إنما إضافة يقصد منها ترقية الأداء الحكومي او المؤسسي. وهذا هو التدافع بمعناه القرآني (فهدي الله الذين امنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم). أمَّا المدافعة التي يقصد منها رمي الخصم في الهاوية، فقد درجت علي اتباعها المعارضة السياسية السودانية عبر العقود. فلم يزالوا بالنميري حتي اوقعوه في خانة التطرف مما جعله يتنكب لكافة إنجازته، وهم اي نفس الليغ السياسي لم يزالوا يكيدون للإنقاذ (من صنوف الكيد غير المبدئي) حتي اردوها في خانة نيفاشا مما مهد لإنفصال الجنوب ولم يزل يهئ لتقطيع اوصال اخري دونما أدني مبرر. أكثر من معارضة الإنقاذ أو نقدها، المطلوب نقض الأسس البنيوية التي هيئت لمجموعة إثنية بعينها الإمساك بمقالد الأمور دون المجموعات الأخري. بوضوح أكثر المطلوب نقض نظم النظام، حتي يتسني لنا الآتيان بأطر جديدة وليست المطلوب القيام بحركات بهلوانية توهم العامة بمعارضة إنما هي مساجلة (أو مساحرة) القصد منها الابقاء علي اطر النظام القديم. إن المعارضة، من احس منها بزحف قوي الريف السوداني، فهرع إلي الوقوع في احضان العصابة، لهو أكثر صدقاً من اولئك الذين ما زالوا يقومون بدور المشاكس أو المناكف. 
ليست المقصود من هذا الزحف استئصال مجموعة إثنية بعينها (وإن كان أفراداً منها قد إستاثروا بالسلطة، الفعلية وليست المظهرية) كما يروج لذلك بعض المبطلين، وليست المقصود منه التخلص من قبيلة معينة (وإن كانت بعض القبائل النيلية قد أعانتها "بصارتها" في التغلغل في جهاز الدولة فوصلت بعد تدرج دام مائة عام إلي قمة الهرم)، وليست المقصود حتماً من هذا الزحف الإستحواذ علي مقتنيات الأخرين كما يتصور بعض الهلعين، إنما المقصود تفكيك دولة المركز (مفاهيمياً وليس فقط عسكرياً) بطريقة تسهل إنصاف السودانيين من بعضهم البعض. مخطئ من يقدح في اريحية الشوايقة او يتشكك في وطنيتهم، لكنني لا أجد مبرراً لوجود عشرة منهم في مناصب سيادية بالمركز خاصة أنهم لم ياتوا بصفة حزبية (أو أيدولوجية) إنما تأمرية أبعدت الأخرين وقربتهم مما جعل الكل يظن أنهم خيارها دون أن ينظر إلي أنهم فقوسها. فالانقاذ لم تتردد في قتل أب رنات في جبل المرة وقد كان منضوياً للواء العدل والمساواة وهو شايقي، ولم تترد في إبعاد الحاج وراق او إبعاد حيدر إبراهيم وكلاهما من الشوايقة. وما محمد حسن سالم (حميد) منا ببعيد فقد عذبه ذويه في شان قصائد كتبها وأخري نسبت إليه. إن الإنقاذ وبأساليبها المريبة قد أدخلتنا في هذا المطب الأثني، فلم يجرؤ احدنا  ان يسئل يوماً عن قبيلة جمال محمد احمد، وإذا سئل فإن إجابته حتماً ستكون: قبيلتة إتحاد الكتاب، وّإذا سئل عن اداته، فسيقول اليراع! فهل تصلح اي الإجابتين مع وزير الخارجية الحالي؟ كيف يكون رجل الدبلوماسية الأول قائداً سابقاً في الدفاع الشعبي؟
(ولننتقل إلي خانة آخري، هل العرب (رزيقات، جوامعة، مسيرية، بني هلبة، أو أخري) متواطئون في قتل الزرقة أكثر من الزرقة في قتل ذويهم في دارفور وكردفان؟ الإجابة لا. إن قيادات من كلا الفصلين قد برزت في زمن الإنحطاط الأخلاقي والفكري مما جعلها تستسهل إزهاق الأرواح وصولاً إلي مجد زائف لم يكن ليتحقق بقتل الأبرياء والضعفاء. وإذا زئر أهل دارفور من جور المركز، فليتذكروا بأنهم قد إستخدموا يوماً في مقاومة الجنوبيين، الذين لم يحقدوا عليهم بل آووهم وساندوهم في محنتهم. لا ننسي بأن 85% من القوات النظامية التي تقاوم "التمرد" اليوم هم من الزرقة الذين تحذر الحكومة من إقتحامهم للخرطوم، فلتحذر السلطة من التلاعب بالكرت الأثني/العرقي هذا، لأنه خطر خطورة العويل في زنجبار! الأن، وقد شارفت الدولة علي الإنهيار ما الذي سيفعله الجنجويد؟ حتي لا ندع مجالاً للتوهان، أود أن أقول أن هنالك ثلاث خيارات لا رابع لها (ولكل واحداً منهم ما يستتبعه) :-
أ‌.    أن يظلوا مردودين للإنقاذ حتي يقع جوادها في الهاوية،
ب‌.    أن ينضموا إلي مشروع الخلاص الوطني.
ج.  أن يعتزلوا المعركة حتي ينجلي الأمر، فأما أن يكونوا شركاء إستراتيجيين أو شرفاء غالبين.
لقد توصل الكثيرون بعد تمحيص إلي أن النظام ليست له عصبية مذهبية أو إثنية، إنما ميكافيلية موروثة من "الشيخ الأكبر" تقتضي تحقق المصلحة من خلال التلاعب الإنتقائي بكافة مقومات الهوية. هذا الأمر مع بداهته، لا يدركه كبار المفكرين الذين قرروا بعد وصولهم "طور النضج" الإصطفاف خلف الرجعية (وإذا شئت الإمبرالية الإسلامية) لمقاومة المشاريع التقدمية التي اصبح الزرقة من كبار ممثليها أو ممتشقيها. بل هم يحذرون جهرة من "ثورة الزنج"! ما هي جريرة الزنج إذا كان أدعياء الصفاء العرقي لا يملكون الجراءة علي تحديد موقف أخلاقي وإنساني من الملهاة القديمة والحادثة؟ إن من لم يملك الشجاعة علي تحديد موقفه ووضع بصمته في فُسيفساء السودان المتشكل جديداً، فإنه حتماً سيكنس مع حرافيش السودان القديم. أما زعمهم بأنه يلزمنا مساندة هذا النظام لان بإنهياره سيؤول الحكم إلي الزرقة، فمردود لأنه يشرفنا أن يحكم هذا البلد أهله الأصليين، فقد كان السودان ولم يزل منذ الإستقلال في ذمة النخب المستعربة التي إستخدمت الدين بشقيه الطائفي والأيدولوجي وسيلة لإلهاء الريف وحرمانه من حقه في الثراء المعنوي والإكتفاء الذاتي.
شهدناك في خضرة الحقل: لون السلامة
وتحت ظلال الرماح: الكرامة
ألفناك، كان غناؤك في في هدأة يسري
وفي أعين المتعبين، البنين، البنات، الشتات المهاجر خلف السراب
وفي أدمع الأمهات اللواتي يسائلن من ليس يدري
وفي القمر القروي الجميل
وفي كلمات رواها فتي حالم كان يدعي الخليل
لقد إستنفدت نخب المركز كل الحيل ولم يبق لها غير العنصرية وسيلة لإستمداد الشرعية، وقد ماتت من قبلها الإيدولوجية الدينية. إنني أستخدم مصطلح نخب لأن المؤامرة لا تختصر علي السياسيين إنما أيضاً المفكرين الذين يقاومون بشدة ولوج مثقف الريف أو المثقف الريفي (ذاك المنفلت الذي لا يخضع فكرة للأطر الكلاسيكية في التفكير والتعبير) إلي وسط الدائرة يعينهم في ذلك غرابة راسماليين وآخرين إغتنوا فلما أن سنحت لهم الفرصة إشتروا صحفاً وتركوا إدارتها "للجلابة". من هنا نفهم كيف أن الجلبنة قد أصبحت ديدناً وليست مذهباً (عرقياً).
لا تُغرنَّك منابر التنوير المنتشرة يمنة ويسرة، فهي تنشد من الإصلاح ما تحقق به غاية الإبقاء علي مركزيتها في إتخاذ القرار، إن إستطاعت إلي ذلك سبيل! مثلاً، إن فوز الروائي عبد العزيز بركة ساكن بجائزة الطيب صالح للأدآب بروائيته (الجنقو مسامير الأرض) لم يؤهله للإستضافة عند اي من المنتديات الأدبية، في الخرطوم، رغم تشدقها بالحرية والليبرالية. بل ان الدكتور عبدالله علي إبراهيم  رئيس إتحاد الكتاب اليوم، يكاد يقول "جنت علي نفسها براقش" في وصفه لمحنة دارفور (تلك الازمة التي أعتبرها الكل وصمة في جبين الإنسانية جمعاء). إذا كان بعض المثقفين يعتقدون أن عبدالله يستخدم براعته الفكرية في التخندق من أفكاره فأنا أخالفهم الرآي لأنني أعتقد علي النقيض ان عبدالله ممن يشاد لهم بالوضوح، أحياناً أكثر من اللزوم. يلام غيره من المثقفين الذين ينكرون وقوع جرائم ضد الإنسانية في دارفور، النيل الأزرق وكردفان وهم لا يستنكرونها في مساحة (اللا)وعي أي يرتضونها في عقلهم الباطني. هؤلاء أشد خطراً علي المجتمعات لانهم كالعثة التي لا ينتبه إليها أحد إلا بعد أن يري أثر التآكل في السقف والحوائط. من حق عبدالله علي ابراهيم ان يعتقد فيما يشاء، لكن من حق اتحاد الكتاب ان يسند برئاسته الي "أزرق" لا يخشي من زحف "الزرقة" ولا يساند غيرها متعذراً بقوله "جناً تعرفو ولا جناً ما تعرفو"!
الذي أعرفه أنا هو أن العنصرية يجب أن لا تقابل بعنصرية مضادة (إذا جيز لنا أن نستعمل تعبير الأستاذ كمال الجزولي)، كما أن البندقية قد تضمن الوصول إلي سلطة أو علي أقل تقدير إحداث فجوة أمنية، لكنها لايمكن أن تكون بديلاً لمشروع سياسي حيوي يقطع الطريق علي الليغ السياسي القديم من خلال إستيعابه لكافة مكونات الشعب السوداني الإثنية والقبلية، ومقوماته الفكرية الروحية وسنداته العمرية والنوعية/ الجندرية.
لعزة مجد الجدود الأوائل
لعزة درع التقي والفضائل
لعزة من شمس هذ النهار بريق
من صارمات النواهل
وعزة تعرف من خانها في الخفاء
ومن باعها للقبائل
وتعرف أن القصاص قريب
وشمس المهانة لابد زائل
فيا من شَهِدناكِ في خُضرة الحقل سلماً
وفي ذهبي السنابل
سنأتي إليك بضُعَفِ المحبِ
وبأسُ المقاتل


auwaab@gmail.com

 

آراء