غياب الرؤية في مأزق العلاقة مع الجنوب
خالد التيجاني النور
3 May, 2012
3 May, 2012
khalidtigani@gmail.com
في غمرة الانشغال باحتفالات متواصلة باسترداد منطقة هجليج النفطية، يبدو أن الحكومة السودانية غفلت أو تناست أن الحرب شأن أوسع بكثير من أن يحصر في جبهات القتال العسكرية، وإعلان النصر في الحرب لا يتحقق فقط بإلحاق الهزيمة عسكرياً بالعدو وهو عامل مهم بالطبع، ولكنه ليس كافياً وحده ما لم يستثمر في حصد نتائج ذلك على الجبهات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية بتعديل موازين القوة بحيث تصب في خانة تحقيق المصالح الوطنية المرجوة، وليست هناك حرب من أجل الحرب ولكن من أجل تحقيق أهداف استراتيجية معلومة.
مثلت المعركة على هجليج، فرصة ذهبية للحكومة السودانية لإعادة ترتيب أوراقها المبعثرة، على الصعد كافة، منذ فصل جنوب السودان في نهاية عملية تسوية نيفاشا التي أوضحت تبعاتها وتداعياتها السياسية والاقتصادية المتسارعة وتأثيراتها الخطيرة على استقرار السودان أنها كانت أقرب إلى المغامرة المفضية إلى المقامرة بمستقبل البلاد منها إلى مبادرة سياسية مدروسة بعناية تستند على رؤية استراتيجية ثاقبة مدركة للفرص التي تتيحها التسوية وضرورة اغتنامها، أو متحسبة لعواقب ما قد يقود إليه الفشل في تحقيق مرامي الاتفاقية.
ولا أدل على ذلك من أن بتر الجنوب الذي كان يظن بعض المتنفذين وشيعتهم أنه آخر العلاج، سرعان ما تبين أنه أول الداء الأكثر خطراً، مما لا تزال آثاره تتفاقم ولما يمض على حدوثه إلا اشهرا معدودة. والاحتجاج في الخرطوم بسوء نية الحركة الشعبية وقلة وفائها للعطايا الثمينة التي ظفرت بها سلماً بالتسوية في رأي حزب المؤتمر الوطني الحاكم تبريرات عفوية لا تصلح لتفسير ظواهر عالم السياسة، والبكاء على اللبن المسكوب لا يجدي نفعاً، والحكم في الخرطوم يتهم نفسه حين يحاول إلقاء اللوم في مواجهة تبعات بتر الجنوب على سلوك قادة الحركة الشعبية فحسب دون أن يجري مراجعات جذرية لمواقفه، إذ طالما تباهى باتفاقية السلام واعتبرها أعظم إنجازاته ومضى إلى وصفها بالاستقلال الثاني للسودان، وهي بالطبع اتفاقية لم يبرمها مع نفسه بل أبرمها مع هذه الحركة نفسها التي يشكو منها اليوم، والأمر لا يعدو أن يكون واحداً من أمرين إما أنه كان يراهن على حسن النية ولا يعرف من يفاوضهم وغير مدرك لحساباتهم الاستراتيجية وفي ذلك اعتراف صريح بالغفلة، أو أنه كان يعرف مراهناً على قدرته في تجاوز الأمر ولكنه عجز عن القيام بما ظن أنه تحسب له.
ومن الخفة بمكان أن يظن مشتغل بالسياسة أن مجرد عقد صفقة بمقتضى اتفاقية السلام الشامل من أجل شراكة سياسية بين المؤتمر الوطني، الذي كان حريصاً على ذلك، وبين الحركة الشعبية لضمان احتكارهما للسلطة والثروة في الشمال والجنوب وفق صيغة فضفاضة ل»سودان موحد» كانت كافية لإنهاء النزاع ولوضع السطر الأخير في فصول الصراع على تشكيل مستقبل السودان.
كانت الاتفاقية ناجحة بامتياز في التفاهم الذي أقره الطرفان في برتوكول مجاكوس المؤسس للتسوية بأن الحرب في ميادين القتال لن تحسم النزاع، ولذلك وضعا أسسا للتسوية توقف النزاع المسلح وتفتح آفاقا لإدارة الصراع على رسم مستقبل السودان بوسائل سلمية بتأسيس نظام ديمقراطي للحكم يقوم على الإرادة الحرة للشعب، ويحقق المساءلة، والمساواة والاحترام، العدالة، ويأخذ في الحسبان حقائق التنوع الثقافي والعرقي والديني باعتباره مصدر إثراء لتأكيد وحدة البلاد الطوعية.
بدأ مأزق المؤتمر الوطني حين نظر لتسوية نيفاشا باعتبارها صفقة رابحة وأنها نهاية الصراع في السودان على السلطة والثروة، تضمن له الخلود في الحكم بإصراره على إقامة تحالف شراكة سياسية مع الحركة الشعبية التي كان يرى في حساباته الأمنية والسياسية انها المهدد والمنازع الوحيد له، وأثبت الواقع أن تلك الشراكة مستحيلة لسبب بسيط أن الحركة الشعبية اعتبرت أن الاتفاقية استراحة محارب أنهت فصلاً في النزاع، ولكنها لم تحسم الصراع على مستقبل السودان وأن جدلية تغيير معادلة هيمنة المركز مقابل تهميش الأطراف التي تغذي الأزمة الوطنية السودانية ستظل هي الاستراتيجية التي تسعى إلى أن تحقق عبرها رؤية «السودان الجديد» حتى وإن انفصل الجنوب، لأن الأزمة في دارفور التي اندلعت قبل ان تضع حرب الجنوب أوزارها لم تأت صدفة، كما أن بروز أزمة «الجنوب الجديد» لم تحدث اعتباطاً. ومشكلة المؤتمر الوطني أنه وجد نفسه بلا مشروع سياسي في خضم أزمات متلاحقة يقفز من أزمة إلى آخرى في عملية هروب إلى الأمام بلا أفق، وبدلاً عن البحث في أسباب هذا الإخفاق الاستراتيجي يجد العزاء في إلقاء اللوم على الحركة الشعبية لتمسكها بمشروعها.
كان أهم إنجاز لتسوية نيفاشا هو وقف النزاع المسلح، وتهيئة الساحة السودانية لتنافس سياسي سلمي وفق قواعد اللعبة الديمقراطية بين رؤى ومشاريع القوى السياسية المختلفة وتفاعلاتها من أجل تشكيل مستقبل السودان، وكان الظن أن قواعد اللعبة التي أرستها التفاهمات المؤسسة للتسوية بين المشروعين الأكثر تناقضاً في السودان، مشروعا الحركة الإسلامية والحركة الشعبية، ستحفز الساحة لتنافس سلمي جاد ربما يفضي إلى مشروع وطنى وعقد إجتماعي جديد.
ولكن ذلك لم يحدث لأن المؤتمر الوطني الحاكم، وريث الحركة الإسلامية السودانية، لم تكن لديه في الواقع رؤية استراتيجية أو مشروع سياسي محدد المعالم، صحيح أنه هناك شعارات ذات طابع إسلامي ينادي بها، لكنها تبقى مجرد شعارات فضفاضة لا ترقى لأن تعتبر مشروعاً وطنياً واضح الأجندة قادر على استيعاب ومخاطبة تحديات الواقع السوداني بكل تعقيداته المتجلية في أزماته المتطاولة، كما أن مجرد طموح الطبقة الحاكمة لربع قرن الراغبة بقوة في استطالة بقائها في السلطة لا يمكن أن يكون في حد ذاته تعبير عن مشروع سياسي، فضلاً عن أن السعي لتحقيق بعض الإنجازات هنا أو هناك أو تلبية مستلزمات الحكم لا يمكن أن تكون بديلاً عن وجود مشروع استراتيجي حقيقي جاد معلوم للبناء الوطني، فبناء الأمم ليست مسألة إدارية، أو مطاردة لحلحلة الأزمات المتلاحقة، بل بالنجاح في وضع الأمة على طريق نظام سياسي مستقر يمتلك مشروعية فعلية غير متنازع حولها يحقق الحرية والسلام المستدام والتنمية المضطردة.
والحقيقة أن مسألة غياب رؤية استراتيجية والافتقار إلى مشروع وطني ليست هي أزمة المؤتمر الوطني الراهنة بل هي وريثة مأزق الحركة الإسلامية التي قفزت إلى الحكم بإنقلاب عسكري مستعجلة الوصول إلى السلطة دون أن يكون لها مشروع سياسي للحكم يتعدى فكرة السيطرة على السلطة في حد ذاتها، مستعينة ببضع شعارات براقة، مستسهلة استحقاقات إدارة دولة في حجم السودان بكل تعقيداتها، بلا رؤية هادية ولا برامج ناجعة، ومن ثم أخضعت كل شيء للتجريب على طريقة «تعلم الحلاقة على رؤوس اليتامى» بلا علم ولا تجربة ولا خبرة وبلا استعانة ب»القوي الأمين» ممن لا تنقصهم كنانة البلاد، بل أبعد الكثيرون منهم من دولاب الدولة بلا مبررات سوى تمكين أهل الثقة على حساب أهل الكفاءة، والأدهى أن ربع قرن من ممارسة السلطة المطلقة لم تصنع رجال دولة ذوي شأن أو حتى أدنى من ذلك.
ولعل أبلغ دليل على غياب الرؤية السياسية أو الافتقار لمشروع وطني للحركة الإسلامية أن مسألة بالغة الأهمية الإستراتيجية في حجم قضية وحدة السودان لم يكن الموقف منها واضحاً محسوماً، يعتقد كثيرون من خصوم «الإسلاميين» أن تقسيم السودان وفصل الجنوب هي استراتيجية للحركة الإسلامية للتخلص من أعباء وجوده على حساب فرص سيطرتها على السلطة في الشمال، وبالطبع فإن حدوث التقسيم وفصل الجنوب ومسارعة الخطاب السياسي الرسمي إلى اعتبار ذلك سبيلاً إلى تحقيق النقاء الديني والعرقي والثقافي النافي للتنوع في الشمال، يعطي وجاهة للقائلين بذلك الافتراض.
ولكن مع ذلك في ظني فإن ما حدث من أمر التقسيم وفصل الجنوب لا يعدو أن يكون نتيجة لغياب الرؤية الاستراتيجية عند الحركة الإسلامية وحكومتها وافتقارها لموقف مبدئي مؤسسي حول مسألة وحدة السودان وليست سبباً في حدوثها، فقد اتفق لهذه القضية الخطيرة ما لحق بغيرها من آفة التجريب بلا هدى ولا كتاب منير، والحرص على توخي مظان التشبث بالسيطرة على السلطة دون نظر في العواقب الوخيمة. فقد شرق حكم الإسلاميين وغرب في مسألة الجنوب حسب مقتضى الظروف السياسية، فتارة اعتبرها أرض إسلام شرعت فيه الجهاد وقدم الآلاف أرواحهم في سبيل ذلك، وتارة اعتبرها عبءً على نقاء الإسلام في الشمال ولم ير بأساً في التخلص منه.
ولو كانت للحركة الإسلامية استراتيجية معلومة لفصل الجنوب لربما كان ذلك أفضل لها أن تتفاوض على ذلك منذ وقت مبكر ولكانت الكلفة أقل والعواقب أقل، ولكن الأمر كله لا يعدو أن يكون خبط عشواء، فقد كانت هي من بادرت من بين القوى السياسية الشمالية وأدخلت خيار تقرير المصير للجنوب في تفاهمات فرانكفورت في العام 1992 بين د. علي الحاج، ود. لام أكول بعد إنشقاق الناصر، وهو ما رفضه طائفة من قادة الحكم حينها، ثم رفضوا خيار الكونفدرالية الذي طرحه الراحل د. جون قرنق في أبوجا في العام 1993، ثم عادوا للقبول بخيار تقرير المصير في إعلان مبادئ إيقاد بعد ذلك بأشهر، قبل أن يعودوا مرة آخرى ليرفضوه بعد ذلك بفترة وجيزة، ثم عادوا مرة ثالثة ليقبلوا به في العام 1997، حتى ثبتته تسوية نيفاشا، وفي غضون ذلك أبرمت اتفاقية الخرطوم للسلام مع الفصائل الانفصالية وعادت لتنقلب عليها مع أنها كانت الاتفاق الوحيد الذي تم بحوار داخلي دون تدخل خارجي، وهكذا تقلبت المواقف تجاه مسألة وحدة السودان عند الحزب الحاكم في الخرطوم حسب مقتضى الحال السياسي.
يجادل قادة المؤتمر الوطني، في سبيل دفع تهمة التسبب في شرذمة البلاد، بأن اللائمة تقع على الحركة الشعبية وعلى الجنوبيين في التصويت بشبه اجماع على الانفصال، حسناً ولكن السؤال ماذا كانت رؤية الحزب الحاكم الاستراتيجية، هل هو مع الوحدة أم مع الانفصال، وما الذي فعله في الحالتين من أجل ضمان المصالح الوطنية؟ إذ لا يعقل لأي حزب حاكم مسؤول، ألا يكون له موقف استراتيجي حاسم من قضية مصيرية وينتظر فقط التفاعل مع ما يقرره طرف آخر، ولا يمكن لمصير بلد أن يترك للتكهنات أو نبوءات ضاربي الرمل. فإذا كان موقناً بوحدة البلاد ويمتلك رؤية استراتيجية إزاء ذلك فإن تحقيقها لا يتم بالتمنيات بل كان يتوجب عليه فعل المستحيل من أجل تحقيق هذا الهدف، مهما بلغت التضحيات لأن في ذلك تحقيق للمصلحة الوطنية استراتيجياً، والوحدة الجاذبة التي شدد عليها بروتكول مجاكوس الإطاري لم تكن شعاراً هلامياً بل شكلت خريطة طريق ذات استحقاقات محددة لضمان ذلك فهل تم الوفاء بها؟.
وإذا كان المؤتمر الوطني الحاكم مقتنعاً بتقسيم البلاد وفصل الجنوب، ألم تكن من الشجاعة أن يفصح عن هذا الموقف ويتحمل مسؤوليته التاريخية بدلاً من الاختباء وراء منابر تدعو لذلك بالنيابة عنه، ألم يكن أجدى إن كان التفاوض على الانفصال مباشرة وضمان ترتيباته؟.
هذه الاسئلة وغيرها ليست من باب التبكيت على أحد، ولكنها محورية في لب الموضوع، فالأزمات التي تلاحق البلاد منذ أشهر، وأعادت أجواء الحرب، وتنذر بالمزيد من الأوضاع المأزقية ليست سوى نتيجة منطقية لما أشرنا إليه من إدارة شأن البلاد بغير رؤية استراتيجية وفي غياب مشروع وطني، ولا سبيل للخروج منها بغير الإجابة على الأسئلة الصعبة ومواجهة الحقيقة، ومحاولة استدعاء أجواء الحماسة ليست كافية لتقديم الأجوبة المطلوبة، بل تبدو أقرب لعملية هروب إلى الأمام من مواجهة ساعة الحقيقة بسقوط الرهان على تكتيتكات البقاء، ولم يعد الخطر المحدق هي مسألة إسقاط النظام، بل الخشية من سقوط الدولة السودانية في براثن العجز.
والفرصة الذهبية التي أهدتها معركة هجليج ليس استدعاء أجواء الماضي، والغرق في البحث عن مشاجب لتعليق العجز والإخفاق الاستراتيجي، وعدم تحمل المسؤولية، على مؤامرات والاكتفاء بالشكوى، بل النظر في عبر وعواقب تحويل البلاد إلى حقل تجارب بلا بصيرة، لقد حان الوقت لتأسيس رؤية استراتيجية لمستقبل البلاد على هدى عقد اجتماعي جديد يسع كل السودانيين بخيارهم وإرادتهم الحرة.
والأفضل أن نبادر إلى تأسيس علاقة حسن جوار وثيقة مع الجنوب وفق رؤية وأولويات جديدة، وليس بعد الانفصال ذنب، لا لسبب إلا لأن عمق المصالح الاستراتيجية التي تربط بين شطرى السودان ستظل حقائق جغرافية وتاريخية واقتصادية واجتماعية لا يمكن تجاوزها، وتغذيها المصالح الحيوية المتبادلة، وما أكثر معطيات ذلك، والأمن على الحدود المشتركة الذي يبدو شاغلاً لا يحققه توقيع المزيد من الاتفاقيات، بل السعي إلى تجذير المصالح والمنافع لصالح الشعبين، وجود مصالح حقيقية متبادلة هي التي ستفرض الأمن وتقضي على الأزمات المفتعلة.
نقلاً عن صحيفة (إيلاف) السودانية
الأربعاء 2 مايو 2012