ذكريات مع الفيتوري: الشعراء لا يموتون

 


 

 

الي الصديقين كمال الجزولي وعمر جعفر السًوري .

في عام 1960  وصل محمد مفتاح الفيتوري لأول مرة إلي السودان منهيا غربة دامت ما يقارب الثلاثين عا ما , الفيتوري الذي بزغ نجمه الشعري في مصر والعالم العربي, واعتمدت  ثورة يوليو المصرية  قصيدته ( أغاني افريقيا)  في المنهج الدراسي الجديد للثورة,عاد  إلي السودان بدعوة من حكومة عبود, إلتقاه  اللواء طلعت فريد وزير الاستعلامات والعمل في احدي زياراته إلي القاهرة   وطلب منه المجيء إلي بلاده ليسهم في الحركة الأدبية , وصل الفيتوري إلي مطار الخرطوم  وكان في استقباله احمد إسماعيل شيلاب, وطه عبد الرحمن, وهما شاعران وموظفان في الوزارة , تسلم الفيتوري رئاسة تحرير مجلة هنا امدرمان التي  غير اسمها فيما  بعد الي مجلة الإذاعة والتلفزيون, كان ذلك حدثا كبيرا في الأوساط الأدبية إن يعود شاعر مثل الفيتوري إلي ارض الوطن.
عندما ذهبنا إليه في مكتبه بوزارة الإعلام, سعيد احمد خير,ومحمود محمد مدني  يرحمهما الله ويوسف عيدابي, وعثمان الحوري  , وصافحناه احسسنا  كأنما نصافح  مخلوق من كوكب أخر, كان السرور يملؤنا  ونحن امام هذا الرجل القصير قلق الحركة  , سريع  الكلام ,  تخرج الكلمات من فمه كنقاط المطر, قدمنا له أنفسنا كشعراء شباب معجبون به وبشعره وإنتهي اللقاء بدعوة منه  لنا في  مطعم فندق الشرق المشهور يومذاك , كان الفيتوري ولا يزال شديد الإعتداد بشاعريته , يجيد الإلقاء المرافق بالحركة  كأنه يقف علي خشبة مسرح, يحرك يديه ملوحا بها في الهواء ,متوعدا الطغاة منتهكا بلاطهم, وعروشهم ينازل إستبدادهم  بكلمات صاخبة وحارقة.
اختارالفيتوري حي بري  سكنا  له عندما وصلت زوجته الفلسطينية المصرية من غزة ,استأجر بيتا هناك, واشتري سيارة ايطالية ماركة فيات,  كان يطوف بنا شوارع الخرطوم ليلا ننتقل من حديقة إلي حديقة, ومن فندق إلي فندق, يغدق علينا بالمال في نهاية  كل سهرة عاصمية  ,  لم يدخل الفيتوري في معارك أدبية مع الحرس الشعري الذي كان يقوده الشاعر ضخم الجثة منير صالح عبد  القادر الذي أطلق عليه محمود ابوالعزائم اسم (ايفان الرهيب,) لم يدخل فى معارك كما فعل ذلك زميله محي الدين فارس , تعامل الفيتوري مع الساحة الأدبية باستعلاء شديد , ولم يكن يسهرمع الشلل الأدبية التي ميزت عصرالستينات, كانت معظم سهراته  تتم مع محمد احمد محجوب ,وتوفيق صالح جبريل,و قيلي احمد عمر, ومصطفي راشد كيشو ملك الفنادق الذي كان الفيتوري يسميه بتاجر النوم , ومع ذلك فانه كان يفضل دائما إن يكون معنا نحن الشباب حيث الاحترام  والإطراء المستمر, امتاز الفيتورى بدرجة جيد في تغيير مواقفه السياسية, والارجح  انه لم يكن سياسيا  اصلا,  , ولما كانت لا توجد  في البلاد أصلا مجلة  ثقافية  فان الفيتوري  خلق من مجلة الإذاعة والتلفزيون  ذلك المنبر الثقافي  الذي يلتقي فيه  الغناء  مع الشعر ,مع  المسرح ,مع  النقد,  وقد استمر الفيتوري   يرأس تحرير المجلة  حتي أسقطت  الثورة  الشعبية  العارمة  في الحادي  والعشرين من أكتوبر عام 1964نظام الرئيس عبود وعودة  الديمقراطية مجددا  إلي البلاد ,فعين  الفيتوري رئيسا  لتحرير صحيفة  النيل  لسان حزب الأمة  بالرغم  من انه  لم يكن  عضوا في هذا الحزب ,لكنه سرعان ما اختلف مع  حزب الامة  ليلتحق  بجريدة  الناس كمدير لتحريرها , وهنا ك  كتب رباعياته  المشهورة  سقوط دبشليم  التي يهاجم فيها  من طرف خفي الصادق  المهدي, بعد  إن تنكر  للشاعر حسب قوله عندما  صار رئيسا للوزراء
وهب دبشليم مغضباً
وقال بيدبا
- تنام يا مولاي مهموماً وتصحو متعباً
وأعجبا!!
تلبس تاجاً من ذهب
وجبة من الحرير والقصب
وحولك الحجاب والحراس بالآلاف
ثم تخاف؟
أهذه خاتمة المطاف؟
جريدة  الناس التي التحق  بها  الفيتوري  كان معروف  عن صاحبها محمد  مكي محمد بموالاته  للسياسة الأمريكية في المنطقة , وكانت تنشر مقالات  من مكتب الاتصال  الأمريكي  في الخرطوم  ضد  الثورة الفيتنامية باعتبارها  ثورة شيوعية يؤيدها الاتحاد  السوفييتي  وليس ثورة وطنية ضد محتل أجنبي , وكانت تكتب ضد  الثورة  في الجنوب اليمني علي  الاستعمار البريطاني .  ولمحمد مكي حكاية  غريبة مع  زميلنا الراحل  محمود مدني الذي  له صلة نسب  به, كان  مدني عليه  وردية السهرة  الأسبوعية في المطبعة  ,وراجع  الصحيفة صفحة  صفحة ليعطي  بعدها مدير المطبعة التوجيه بالطبع ,  ولاحظ  محمود إن من بين المواد  تقرير طويل يرقد علي  صفحة كاملة  يهاجم  الثورة الفيتنامية فلم يعره اهتماما لمعرفته بمواقف رئيس  تحريره من الشيوعية والشيوعيين, وغادر المطبعة مطمئنا علي  اكتمال الجريدة  , ولكنه فوجي صباح  اليوم  الثاني باسمه علي رأس التقرير مما احدث  ضجة  وسخطا  كبيرين  فى الوسط  الصحفي  خصوصا علي صعيد  اصدقاؤه الشيوعيين الذي يعادون مكي الناس , وعند  إستجلاء الأمر  اتضح ان مكي جاء إلي المطبعة بعد مغادرة محمود  ووضع اسمه علي التقرير ليحقق  شرط  مسئول الإتصال الأمريكي الذي اشترط  إن ينسب التقرير إلي إي كاتب سوداني حتي  تكون له قيمة
يحكي الفيتوري انه  بعد  تركه  جريدة الناس تعطل عن العمل , وكان  يجول علي  مكاتب الصحف بلا هدف, وفى هذه  الأثناء  اتصل به صديق  له يدعي كمال  عبد  الماجد كان يعمل  موظفا بالسفارة الأمريكية  وهو مقرب جدا  من محمد  مكي عارضا علي  وظيفة جديدة
ذهبنا معا حيث  التقانا  موظف  هام  لا ادري  ما وظيفته , ولكنه ذي نظرات غامضة تنم  عن  انه شخصية  خطيرة ,يستمرالفيتوري , قدم لى عقدا لأعمل  رئيسا  لتحرير  نشرة  صحفية يصدرها  المكتب الإعلامي  بالسفارة   تسمي ( الإتصال ) براتب قدره  ثلاثمائة جنيه , وهو راتب وزير في ذلك  الزمان, قلت  له  لكني  الان مسافر  الى القاهرة فأبدي  استعداده  فورا لأن  يشتري لي تذاكر السفر ذهابا  وايابا  مع نثريات  مريحة ,  وزاد , واذا  احتجت  لمزيد  من المال يمكن ان تتصل  بسفارتنا  هناك  وسأذودك  بأسم  شخص تلتقي معه  ,طرحت الموضوع  علي زوجتي التي نصحتني  بصرف  النظر عن  العرض كلية وان  عبد الماجد  يكون قد  باعك  للأمريكان وقبض مبلغا محترما , يقول الفيتوري  من أول  وهلة  اكتشفت ان الوظيفة لم تكن رئاسة تحرير نشرة ولكنها  كانت محاولة  شراء شاعر .
غادر الفيتوري السودان  في بداية السبعينات بعد   إن استولي النميري  علي  الحكم ,  وذهب إلي ليبيا  ليأمر له ألقذافي   بالجواز الليبي  و ليعينه ملحقا  إعلاميا  لليبيا  في عدد  من سفاراتها بالخارج, في المغرب ,وروما , والقاهرة , وبيروت  , والجامعة العربية,  وعندما كتب الفيتوري   مرثيته  الشهيرة  في عبد الخالق محجوب  سكرتير  الحزب الشيوعي  السوداني الذي أعدمه  النميري  طلب الأخير من السلطات اللبنانية  طرده من بيروت  ,  فخير الفيكتوري  بين  تسليمه  إلي السودان , أو الذهاب إلي دمشق  , فغادر إلي دمشق   ومنها جال في بلاد  العالم .
فى عام  1969توجهنا إلى القاهرة  إنا , ويوسف  السنبلي  والروائي الراحل محمود محمد  مدني بعد  زيارة  إلي  دمشق رتبها  لنا المفكر الراحل محمد  أبو القاسم احد  أهم  مؤسسي حزب البعث في السودان ,كان الهدف  الظاهر من الزيارة أنها  للتعريف  (بثورة مايو ) ولكن الهدف غير المعلن هو محاولة تجنيدنا كأعضاء فى حزب البعث , ذهبنا  إلى هناك  والتقينا ( بأهم  شخصية في الحزب  وهي  صلاح  جديد   الأمين العام للحزب  قبيل إن يطيح  به حافظ الأسد  فى انقلاب قصر عام 1970 في بداية السبعينات، تدخلت القوات البرية السورية في الأردن بأمر من صلاح جديد, لكنها تعرضت لهجمات الطيران الأردني والإسرائيلي فطلب صلاح جديد من حافظ الأسد إرسال مساندة جوية لكن الأخير رفض وبالنتيجة فشلت العملية، فدعا صلاح جديد إلى مؤتمر طارئ للقيادة القومية في 30 أكتوبر لمحاسبة وزير الدفاع حافظ الأسد، ولكن الأسد وفي 16 نوفمبر 1970 قام بما يسمى الحركة “التصحيحية”، فأعتقل صلاح جديد وكافة القيادات العبثية آنذاك.
تم سجنه في سجن المزه حوالي ثلاث وعشرون سنة، وتوفي في السجن في 19 أغسطس 1993. كان صلاح جديد رجل يساري الميول، وكان يطرح مشروع سياسي لسورية اشتراكية ومتقدمة, وعرف عنه نظافة الكف ورفضه للمحسوبية .)
فى دمشق  نظم  لنا  برنامج  سياسي وثقافي  للتعريف  بانجازات حزب البعث  الثورية كان من  بينها  لقاء  مع  رجل سوريا  القوي  حينذاك, سألنا أول  ما سألنا كم  عدد  الذين   (صفتهم ) واعتقلتهم   الثورة  قلنا حوالي  ثلاثمائة  لا أكثر نقصد  المعتقلين,  لم يصدق  الرجل  ما  قلنا , وقال  لم  تكن  هناك (رشيشة ) فسألناه  ماذا يعني  بالرشيشة, فضحك  ولم يجاوب  على سؤالنا  ,وعندما  غادرناه  شرح لنا المرافق  حكاية الرشيشة فعرفنا  ان الرجل  كان يقصد  كم عدد (الخونة  والرجعيين الذين قتلوا  بالرشاشات,  فتعجبنا  من الامر , وقلنا  للسائق  في السودان عندنا  وجبة اسمها  (الرشوشة ), وهي تختلف عن  وجبة الريشة التي  يقصدها  صلاح  جديد.
سهرنا فى دمشق فى  غرفة لزكريا تأمر  تحت  البدرون , شاركنا  في تلك  الجلسة  محمد  الماغوط  , وسعدالله  ونوس , وهاني الراهب ,شوقى بغدادى , واحمد  دحبور ,  كان الحديث  يدور عن الناقد  السوداني  محي الدين محمد , اعترف زكريا تأمر بانه   أول من قدمه  للقراء العرب عندما  كتب في مجلة الآداب عن  مجموعته  (صهيل الجواد الأبيض) , استمع  الجميع  للروائي الراحل  محمود  مدني  وهو  يستعرض  لهم  تطور الرواية فى السوداني,  فكانت  جلسة  مفعمة بالشعر, والنقد  يجمعنا فيها عصر المد  القومي العربي عندما كان الشعر يبشر بيوتوبيا الوحدة العربية من المحيط  الي الخليج .
غادرنا  دمشق  متوجهين  إلي القاهرة للاسترخاء  والراحة , ولإفراغ  أدمغتنا  من الحشو  الثوري  الذي لم  يفارقنا  حتي سلم  الطائرة  حيث  زودنا  بكراتين  من مؤلفات ميشيل عفلق ومنيف  الرزاز ,وصلاح  البيطار , وشبلي  العيسمي  الذى  اختفى في  بيروت هذا العام  فى ظروف  غامضة  رجح  إن تكون  ورائها  المخابرات السورية .
فى القاهرة  كان  الفيتوري أول من اتصل  بنا  عندما  علم   بوجودنا  زارنا  في شقتنا  بشارع  عبد  الخالق ثروت ووجه  لنا دعوة  عشاء  تسبقها  مشاهدة  اول عرض لمسرحيته  الجديدة  (سولارا ) التي  كانت بطلتها  النجمة  المسرحية  يومذاك  زوجته  أسيا عبد الماجد, جئنا  إلي المسرح  مبكرا  وسط  عدد  كبير  من المثقفين والكتاب والنقاد, شرفنا  الفيتوري  بأن أجلسنا  فى مقدمة  الصفوف  بعد  نهاية المسرحية  توجهنا  إلى شقته  الراقية في قاردن  سيتي التي تنبض بالفخامة  , أمضينا   معه ليلة  ساحرة في حضرة  أشهر نجوم  مصر , فريد شوقي , اشرف عبد  الغفور ,عبد  الرحمن  الابنودي  ,يوسف الشريف , وملك ظرفاء مصر  محمود  السعدني .كان الجميع  ينصت للفيتوري  وهو يحكي عن تجربة سولارا  وكيف إن النص الشعري  يمكن إن يملك  قوة  التعبير أكثر من  النثر , وروي  لنا كيف كان وهو طفل في الإسكندرية  يصغي  في الليل  لعزيف الريح  في البحر تزمجر وسط السفن السوداء  وهي  تمخر البحر المتوسط  كحيوانات خرافية , غاص  بنا الفيتوري  بعيدا فى أعماق البحر والشعر معا ,ينقلنا  من  زمن  إلي زمن  كأنه  قبطان عنيد  يتحدي  ظلمات  البحر   مشرعا أشرعته  يملؤها  الهواء مبحرا  فى غير هدي , يطارد  تجار الرقيق  والنخاسين  فى إفريقيا  شاهرا حرابه  يطعن بها  صانعي  الشرور  وأباطرة  الاستبداد  في كل مكان  .
فى عام 1975كان الفيتوري احد  أهم شعراء المربد  ذهبنا  إليه  حسن الطاهر وروق , وعوض برير , ومحمد  عبد الجواد يرحمهم الله  فى فندق  الرشيد  وسط العاصمة بغداد , كان لفيف من الشعراء  قادمون من كل إنحاء العالم  العربي  موزعون على طاولات الفندق  الفخيمة بأبسطها الخضراء  وجدرانها  المحلاة  بصورة ضخمة لصدام حسين  فيما   يمر رجال ذوى نظرات  مريبة  يرخون أذانهم  مثل  خفافيش  معلقة  فى خرائب , أنهم عيون صدام ترصد  الضيف والمواطن  علي السواء, صافحنا  الفيتوري  وهو ينهي  معركة  مع منظمي حفل الافتتاح كان متوترا بعض الشيء , ولكنه سرعان ما  حكي لنا سر توتره ,  كان الأمر  متعلقا  بترتيب الشعراء  قبل بداية حفل الافتتاح , لقد  وجد  الفيتوري  اسمه  الرابع فى برنامج الاحتفال  بعد  نزار قباني   و محمد  مهدي الجواهري   ومحمود  درويش  هاج   وماج الفيتوري  مهددا بمغادرة بغداد كلها وعدم  المشاركة  في المنتدى  الشعري  إذا لم يوضع  اسمه  بعد  الجواهري   مباشرة,  ودون  إن يجد  حرجا  من احد  اعلن الفيتوري  انه اشعر  شعراء العرب وإفريقيا  جمعيا وهو مؤسس مدرسة  كاملة  للافريقانية مع سينغور,  وايمي سيزار, بل هو رائدها  بلا منازع ولن يقبل بأي حال  من  ان يكون ترتيبه  الرابع  فوقف  منظمو المؤتمر حائرين  فى الأزمة التي  خلقها هذا  الشاعر القصير , ولما  انسدت  كل السبل  لعلاج  الموقف  تدخل  الرئيس  صدام   حسين شخصيا  وأمر إن  يكون  ترتيب الفيتوري  الثاني بعد  الجواهري,  وفى يوم الافتتاح  الذي حضره  صدام  أرسلت إليه  فى المنصة  التي كان يقف عليها ورقة صغيرة  اتضح   أنها  من الرئيس العراقي  نفسه يطلب  من الفيتورى  ان يستهل  قصائده  برثاء   زعيم   الحزب السوداني  عبد الخالق  محجوب الذي  أعدمه  النميري  شنقا  فشرع  الفيتورى صادحا  بصوت  جهوري أجش

حين يأخذك الصمت منا
فتبدو بعيداً..
كأنك راية قافلة غرقت
في الرمال
تعشب الكلمات القديمة فينا
وتشهق نار القرابين
فوق رؤوس الجبال
وتدور بنا أنت..
يا وجهنا المختفي خلف ألف سحابه
في زوايا الكهوف التي زخرفتها الكآبة
ويجر السؤال، السؤال
وتبدو الإجابةُ نفس الإجابة
***
ونناديك..
نغرس أصواتنا شجراً صندلياً حواليك
نركض خلف الجنائز..
عارين في غرف الموت..
نأتيك بالأوجه المطمئنه
والأوجه الخائفة
بتمائم أجدادنا..
بتعاويذهم حين يرتطم الدم بالدم..
بالصلوات المجوسية الخاطفة
بطقوس المرارات
بالمطر المتساقط في زمن القحط..
بالغاب، والنهر، والعاصفة!
***
قادماً من بعيد على صهوة الفرس..
الفارس الحلم ذو الحربة الذهبيه
يا فارس الحزن..
مرِّغ حوافر خيلك فوق مقابرنا الهمجيه
حرِّك ثراها..
انتزعها من الموت..
كل سحابة موت تنام على الأرض
تمتصها الأرض..
تخلقها ثورة في حشاها
انترعها من الموت يا فارس الحزن..
.. أخضر..
قوس من النار والعشب..
أخضر..
صوتك..
بيرق وجهك..
قبرك..
لا تحفروا لي قبراً
سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبرا
لقد وقفوا..
ووقفتَ..
- لماذا يظن الطغاة الصغار
- وتشحب ألوانهم –
إن موت المناضل موت القضية
أعلم سر احتكام الطغاة إلى البندقية
لا خائفاً..
إن صوتي مشنقة للطغاة جميعا
ولا نادماً..
إن روحي مثقلة بالغضب
كل طاغية صنم..دمية من خشب
..وتبسمت
كل الطغاة دُمىً
ربما حسب الصنم، الدمية المستبدة
وهو يعلق أوسمة الموت
فوق صدور الرجال
انه بطل ما يزال
- وخطوت على القيد..
- لا تحفروا لي قبرا
سأصعد مشنقتي
وسأغلق نافذة العصر خلفي
وأغسل بالدم رأسي
وأقطع كفي..
وأطبعها نجمة فوق واجهة العصر
فوق حوائط تاريخه المائلة
وسأبذر قمحي للطير والسابلة
***
قتلوني..
وأنكرني قاتلي
وهو يلتف بردات في كفني
وأنا من ؟
سوى رجل واقف خارج الزمن
كلما زيَّفوا بطلا
قلت : قلبي على وطني!
دوت  الأكف بالتصفيق , وقف  صدام  رافعا بندقيته  تعبيرا  عن الطرب    الثوري  الذي إشاعته  القصيدة  فى الحضور,  استمر التصفيق لأكثر من  دقيقة تخلل  هذا المشهد  نساء  بكين من   تأثير هذا الرثاء  المفعم  بالحزن  والبطولة والكبرياء  , استدعي الفيتوري مشاهد  الرعب التي  نشرها  النميري فى كل إنحاء  السودان  بحثا عن كل من ساند  انقلاب  التاسع عشر من يوليو , كانت صور  الشيوعيين فى كل مكان   علي الجدران , وأعمدة الكهرباء فى المدن  والأرياف , الإذاعة والتلفزيون  لا يكلان من  ترداد  نداءات  تطالب الناس  بالتبليغ  عنهم  , وتهدد من يؤونهم  بالعقاب  الشديد  الذي يصل الى درجة الإعدام  ,سطع  في سماء القاعة  صور  عبد الخالق  محجوب وهو محاط بثلة من العسكر  متجهمي الوجوه  شاكي السلاح يقودونه  إلى  قاعة المحكمة وهو رابط  الجأش يبتسم لجلاديه كأنما هو مدعو ليحاضر من فى المحكمة ليس ليحاكموه, كان النميري ممتلئا غضبا تضطرب دواخله بمشاعر شتي تظهر على وجهه المغضن المرهق من طول السهر, بجانب إستدعاء القصيدة لصورة عبد الخالق  وهو  يتحدى جلاديه برزت صور للشفيع  احمد  الشيخ  وجهه مثل ارض  قمرية  من كثرة  ما  ضربه  ابو  القاسم محمد  إبراهيم  وعسكره الجهلاء , وفجأة  يخرج  من  متن القصيدة  فاروق  حمد الله  وبابكر النور وهاشم العطا ,  وابوشيبة مكبلة أرجلهم  بالقيود الحديدية يرسفون فيها , يهتفون  بحياة  الوطن  وهم  يمشون بخطوات ثابتة  إلي ( دروات )  الموت الشاخص حيث يربطون,  وينهمر عليهم  مطر الرصاص يصب علي صدورهم  فتتدلى رقابهم إلي صدورهم  محدقين فى الأرض التي روا  ترابها  دما
دخل الفيتوري كصوفي منشدا  ياقوت العرش
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استحياء
والغافل من ظنّ الأشياء
هي الأشياء!
تاج السلطان الغاشم تفاحه
تتأرجح أعلى سارية الساحة
تاج الصوفي يضيء
على سجادة قش
صدقني يا ياقوت العرش
أن الموتى ليسوا هم
هاتيك الموتى
والراحة ليست
هاتيك الراحة
غادر الفيتوري  المنصة  والتصفيق  يتابعه  حتى جلس في مقعده  وسط معجبين يتحلقون حوله  مصافحا إياد  كثيرة   كولي  للشعر  والثورة.
في  شارع  السعدون بكهرمانته  التي تحمل  جرة تتدفق منها الماء  كنا  علي موعد مع  حفل غداء  أقامه  الراحل  العظيم بدر الدين مدثر عضو اللجنة القومية لحزب البعث  العربي الاشتراكي, كان الحضور  قامات من  المثقفين المصريين , عبد  الرحمن  الشرقاوي , وعبد الرحمن الخميسي , واحمد  حمروش , وحسين  فهمي ,  وعبد  الرحمن  الأبنودي,  وسليمان فياض  , ومحمود  السعدني ,  ومحمود  أمين العالم ,عتاة  مفكري اليسار المصري اليسار المصري فى ذلك الزمان, كان الفيتوري  نجم  الحفل بلا منازع ,كنا  نحن  السودانيون  حسن الطاهر زروق  وعوض برير وعبد الله ادم (عبود )  وصلاح  نوح  الخبير الزراعي  فى الامم المتحدة ,  روي  لنا  الفيتوري  انه  غادر  السودان   إلي بيروت   بعد  إن كتب قصيدته  في رثاء  عبد الخالق محجوب والتي  استفزت  النميري, قال الفيتوري  استدعيت  فى مكتب الامن للتحقيق  معي  فى القصيدة  ولكن  تدخل مأمون  عوض ابوزيد  وزير الداخلية حينذاك  فأخلى سبيلي  ثم  طلب مني  مغادرة البلاد, لم يكن  الفيتوري صادقا فى هذه  المعلومة  فالقصيدة كما  يعرف  الكثيرون  كتبت  فى الخارج وبعد  شهور  من إعدام عبد الخالق, جال  الفيتوري  كما قلنا  فى العديد  من الدول  وفي عام1980  شرف الفيتوري  مهرجانا للشعر  فى الدوحة  كان نجمه  بلا منازع , وفى  منزل الصديق القاص الدكتور مصطفي مبارك  كنا علي دعوة عشاء  التقينا هناك, البروفسور صالح عريفي , وصالح  دفع الله , والراحل محمد السيد الذي كان يعمل  رئيسا لقسم الترجمة بوزارة الإعلام  القطرية  , كانت أمسية  جميلة تبادل  فيها  محمد  السيد  والفيتوري  الذكريات في وزارة  الاستعلامات والعمل  في سنوات حكم  الرئيس إبراهيم عبود, حكي الفيتوري  عن عدم  إستلطاف  فوراوي  وكيل الوزارة له , ورد عليه  محمد  السيد إن فوراوي  فعل ذلك  لان الفيتوري كان مقربا من  الوزير طلعت فريد  وهو  الذي  قابله  فى القاهرة  أيام   مباحثات  مياه  النيل وأقنعه بالعودة  إلي السودان .
قبل  إن يغادر الفيتوري الدوحة متوجها  إلي ايطاليا   كنت معه في غرفته  بالفندق,  ولما هم  بترتيب ملابسه وأشياؤه  أشار  إلى كرتونة  فى ركن  الغرفة , وطلب مني  إن أخذها  كهدية  منه  إلي  فأستفسرت ما بداخلها  فعلمت منه أنها  لشعراء  وأشباه  شعراء  لا يريد  إن يزيد  وزن  الطائرة بهم , فحملت  الكرتونة  وهي لا تزال  في مكتبتي  دون  إن أفضها.
مثلما كان الفيتوري شاعرا متقلب المزاج  حاد  التعامل مع  الذين لا يستلطفهم,  كان أيضا  متقلب المواقف السياسية  أو أصلا  لايمارس  السياسية , فهو قبل إن يعمل  مع أول نظام  ديكتاوري فى السودان  ,وقبل إن يعمل  رئيسا  لتحرير  صحيفة النيل  لحزب الأمة,   وان يعمل  مع محمد مكي  صاحب جريدة الناس المتهم  بالتعامل  مع  المخابرات الأمريكية, كان الفيتوري  سودانيا  وليبيا  معا,  اشتراكيا ,ورأسماليا. معا  ,كان ضد الطغاة , وفي بلاط الطغاة , كتب شعرا  فى زعيم الحزب الشيوعي السوداني , وفى سقوط  تشاشيسكو  وفي صدام  حسين, وفي غسان كنفاني,  وجميله بوحيرد , ومع  كل ذلك  كان الفيتوري  شاعرا  مثلما كان  المتنبي شاعرا.



sedig meheasi [s.meheasi@hotmail.com]

 

آراء