نمر: ملك شندي الأخير (3) .. ترجمة وتلخيص : بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



نمر: ملك شندي الأخير (3)

Nimir, the Last King of Shendi (3)

إي روبنسون E. A. Robinson

ترجمة وتلخيص : بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذا هو الجزء الثالث والأخير من ترجمة مختصرة لمقال نشر في العدد الخامس من مجلة "السودان في رسائل ومدونات" الصادرة في عام 1925م، للكاتب اي روبنسون عن تاريخ "نمر" مك شندي. في الجزأين السابقين سجل الكاتب شجرة نسب المك نمر، وفي الجزء الثاني لخص تاريخ الحروب التي خاضها مع القبائل الأخرى، وعن استسلامه بادئ الأمر للجيش التركي الغازي، وعن أخذه، هو ومك المتمة كرهينتين إلى سنار مع الجيش التركي.
كاتب المقال هو إي روبنسون، الإداري البريطاني في حكومة السودان، وهو مؤرخ هاوي يكتب في جوانب مختلفة من تاريخ السودان. اعتمد الكاتب في مقاله على عدد من الكتب التاريخية، جلها كتب مذكرات رحالة غربيين زاروا السودان ومصر والحبشة في أو قبل فترة حكم المك نمر، وعلى ما ورد في كتب شهيرة، مثل كتاب "تاريخ العرب في السودان" لماكمايكل. كذلك استمع الكاتب لشهادات أحفاد المك نمر، مثل شيخ حسن نمر، وأحمد ود نمر، وأعيان شندي، مثل شيخ أحمد المرضي، قاضي شندي،  وشيخ إبراهيم الحاج فرح، وعدد من شيوخ قبيلة الجوامعة.
لا يهدف المترجم من نشر هذا المقالات عن المك نمر إلا إلى تبيان ما يحاول البعض التغطية عليه من تاريخنا الدموي، وثأراتنا القبلية القديمة، ومن محاولة تصوير العلاقات القبلية والإثنية في البلاد وكأنها كانت "سمنا على عسل"، وأن الحروب الحالية أمر طارئ، و"الاستعانة بالأجنبي" ما هي إلا "حالة مستحدثة"، وأن علينا الآن أن نعيد تلك العلاقات "سيرتها الأولى"، وهل كانت" سيرتها الأولى" إلا حروبا ودماء؟ أظن أن علينا قبل نسيان أو تناسي الماضي أن نعترف به، وأن نشرح أسبابه ونوازعه، وأن ندرك أن غالب مشاكلنا الراهنة لها جذور تاريخية، وأن علينا نأخذ منها الدروس والعبر، وأن نعلم أن الجرح لا يبرأ على صديد كما تقول العرب.   
المترجم 

جاء في وصف المك نمر بأنه كان في الأربعين من عمره (في حوالي 1822م. المترجم)، وطوله نحو ستة أقدام، وكان أسمر اللون وذا شخصية آسرة طاغية. وصفه البعض بأنه من أصول زنجية، بيد أنه في الحقيقة من أصل عربي.
في رحلة عودته شمالا إلى مصر، خالف إسماعيل باشا نصيحة مستشاره، وأصر على ترك جيشه، والتقدم – مع نحو إثني عشر من حرسه- إلى شندي. عند وصوله للمدينة أمر بإحضار المك نمر وعمه ومستشاره مساعد للمثول أمامه. كان إسماعيل باشا حينها في الحادي والعشرين من العمر، وكان الابن الوحيد الذي بقي على قيد الحياة لمحمد علي باشا. ولد إسماعيل في كافالا (Cavalla) (مدينة ساحلية بتركيا. المترجم)، وعاش مع والدته هنالك بضع سنين. اشتهر إسماعيل بالتهذيب ودماثة الخلق، إلا أنه في مقابلته تلك مع المك نمر ومساعد، أظهر صلفا وغطرسة شديدتين، وطالب المك بأن يجمع له من الجعليين – وعلى الفور – من المال والأبقار والخيول والإبل ما قيمته نحو 20000 جنيها إسترلينيا.
لم يكن بمقدور أهالي تلك القبيلة المستقرة أن يعطوا جزية ضخمة كهذه التي طلبها إسماعيل، لا سيما وأن غالب ممتلكاتهم كانت قد سلبها الجيش التركي الغازي  إبان مرروه جنوبا، عدا ما تمكن البعض من إخفائه من أعينهم، مثل الذهب. كان المك نمر قد نجح في دفن ما يعادل نحو 5000 جنيه إسترليني في داره، وكان هذا هو كل ما كان بمقدوره أن يقدمه لإسماعيل.  رد المك نمر – بسرعة وبعض من عدم اكتراث- على الأمر الشفهي لإسماعيل باشا بأنه من المستحيل عليه جمع مثل تلك الجزية الضخمة من أفراد قبيلته. كان إسماعيل يستمع لرد المك نمر وهو يجذب أنفاسا من غليونه التركي الخشبي الطويل، فغلي الدم في عروقه لوقاحة ذلك "الزنجي"، فرمي بالغليون في وجهه. استل المك نمر سيفه ليرد الاهانة، بيد أن يد المك مساعد امتدت ومنعت المك نمر من ذلك النوع من الرد السريع. تلى ذلك الموقف اعتذار المك نمر ومساعد للباشا، مع الوعد بأن يقوما بجمع ما طلبه الباشا في نهار اليوم التالي. كان المك نمر مصمما على الانتقام من إسماعيل وجنده للاهانة التي ألحقها به، فأستدعى معاونيه للمشاورة.
كان إسماعيل باشا قد أنزل في أحد بيوت الضيافة الكبيرة التي اشتهرت بها مدينة شندي. تقرر أن تقام في مساء ذلك اليوم مأدبة للباشا، مع حفل بالدلوكة على شرفه. أثناء الحفل، أحاط الجعليون المسلحون بمخارج الدار بعد أن وضعوا كثيرا من الحطب والمواد القابلة للاشتعال حولها، ثم أشعلوا المكان بالنار. هلك في ذلك الحريق إسماعيل باشا والخازندار (مصطلح تركي يعنى وكيل الخزانة، أو وكيل المال. المترجم) وآخرون ممن كانوا معه. نجا طبيب الباشا الخاص من الحريق، بيد أنه لم ينج من قبضه الجعليين، الذين عذبوه ووضعوا في جسده "الخوازيق"، انتقاما من أعمال عدائية مستفزة قام بها من قبل ضدهم. قيل أن بعض التجار نقلوا فيما بعد جسد إسماعيل المتفحم إلى القاهرة.
سرعان ما سرت لبربر أنباء مقتل الباشا، فأرسل المك نصر الدين (والذي كان المك نمر قد عزله  قبل سنوات من ذلك التاريخ من ملك بربر) أحد أقربائه لمحاو بك، والذي نقل بدوره لمحمد علي باشا الخبر الأليم. قوبل نبأ حريق الباشا بكثير من الذعر والغضب الشديد والرغبة في التشفي من الفاعلين: قبيلة الجعليين.
خير من وصف حملات الدفتردار الانتقامية هو ماكمايكل في كتابه الشامل "تاريخ العرب في السودان" ، وذلك في الفصل الموسوم "تاريخ سنار".  توسع ماكمايكل كذلك في مقاله عن "الفتح التركي للسودان" المنشور في مجلة "تاريخ المجتمع الأفريقي" في وصف تلك الحملات الانتقامية وصفا دقيقا. أحتج القناصل في القاهرة على كثرة أعداد النساء العربيات اللواتي أحضرن كسبايا، مما دعا محمد علي باشا لإعادتهن لموطنهن (لم يحدد الكاتب من هم هؤلاء القناصل، ولا ريب أنه كان يقصد قناصل الدول الغربية... ( "عبء الرجل الأبيض" مجددا. المترجم).
فر المك نمر نحو منطقة البطانة، وبعد معركة "نسيب" في البطانة اتجه  نحو منطقة نهر ستيت، بينما توجه المك مساعد نحو الدندر.  قيل أن المك مساعد وولده قتلا على يد جماعة من الجنود الأتراك. بدأ الشكرية (أعداء المك نمر التاريخيون) في تعقب البطاحين الهاربين من حملة الدفتردار الانتقامية، وقام الشايقية بتعقب الجعليين، تسوية لحسابات وثأرات قبلية قديمة. جازى الأتراك الشكرية على خدماتهم لهم بجعلهم مسئولين عن كامل منطقة البطانة، وجعلوا لهم المدينة القديمة القريبة من القضارف "تيوة Tewawa" عاصمة لهم، وكان تسمى من قبل" سوق أبو سن".
أنشأ الأتراك قاعدة لهم في "دوكا" وعينوا لها كاشفا منهم، وقاموا، على سبيل المكافأة، بمنح حلفائهم الشايقية أراضاً كانت للجعليين في مناطق كثيرة، منها "حلفاية الملوك" و"الجزيرة" وغيرهما،. لا يزال أحفاد هؤلاء يقيمون في تلك الأراضي إلى يومنا هذا.
نشط "بشير ود عقيد" الجعلي من فرع المسلماب (وهو المتزوج من ابنة المك نمر "برة") في تعقب واصطياد "النمراب"، فقد نجح الدفتردار في استقطابه وتعيينه كحاكم محلي لشندي تحت إمرة كاشف تركي في المتمة (غرب شندي). ورث بشير ود عقيد كذلك  دار المك نمر في شندي.
تقاطر آلاف من الجعليين إلى الحدود الحبشية حيث أنشأ المك نمر دولة حاجزة (buffer state) أطلق عليها "دار ولكيت Dar Wolkait"، واضعا نفسه تحت حماية "راس يوبي Ras Ubie" والذي غدا في عام 1831م  ملكا للتقراي، وزوج ابن للمك نمر اسمه محمد إحدى بناته. عرفت المنطقة التي حكمها المك نمر بدار نمر، وكانت المدينة الرئيسة فيها هي "صوفي".
أصدر  حاكم عام السودان خورشيد باشا، (وهو ابن أخت/أخ محمد علي باشا) في عام 1829م  عفوا عاما  عن من شارك في قتال الأتراك بين عامي 1821 و 1824م، واستثنى من ذلك العفو المك نمر وأفراد عائلته، وطالب كل من سواهم بالعودة للبلاد. استجاب الكثيرون من العرب الذين هاجروا مع المك نمر لذلك العفو، إذ أن المقام في أرض الحبشة لم يرق لهم، ولم يصلح لبهائمهم. بعد ذلك تدهورت شعبية المك نمر، وقل مناصروه، فتحرك نحو مكان يسمى "غابات" على بحر السلام من بعد معارك مع قبيلة الدبانية Dabaina. كانت قوات المك نمر حينها تضم نحو 400 – 500 من الخارجين على القانون من المجرمين والفارين من خدمة الجيش، وكان يغير بهم على الأحباش ويسبي نسائهم.  للرد على تلك الغارات حاول "راس يوبي" خيانة المك نمر، والإيقاع به لتسليمه للأتراك للحصول على الثمن الذي وضعه الأتراك لرأسه.
قطع المك نمر وجماعته الطريق التجاري بين قوندار وواد مدني وسنار، مما عطل التجارة تماما،  فقرر محمد على باشا قطع دابر النمراب جميعا،  واستئصال شأفتهم، فغزا الجيش التركي في عام 1832م القلابات واحتلها، وعين حاكما تركيا عليها. أعتبر الأحباش ذلك تعديا على أراضيهم،  فقاموا بقتال الأتراك وطردوهم من القلابات.
في ذلك الأثناء كان البريطانيون والفرنسيون يراقبون باهتمام ما يفعله الأتراك في المنطقة، خاصة وقد كان ملك التقراي لابا قادس قد أرسل مستشاره البريطاني، السيد كوفن، لطلب عون بريطاني ضد الاعتداءات التركية. رفضت الحكومة البريطانية في حينها التدخل في ذلك الصراع.
في عام 1834م هاجم النمراب (جماعة المك نمر)، ومعهم الأحباش مدينة سنار، بيد أنهم صدوا عنها. وكرد انتقامي على تلك المحاولة قام كاشف القضارف التركي، واسمه أحمد، بقيادة جيش من آلاف العرب السودانيين دخل القلابات؛ ثم غزا قوندار وساواها بالأرض حرقا. في طريق عودتهم أوقع الأحباش الجيش التركي الغازي في كمين، وقتل أو قبض على معظمهم. بعد تلك المعارك اعترفت الحكومة الفرنسية بالملك يوبي ملكا على التقراي، والذي قبل أن يبيعهم قرية حبشية اسمها "اتيت " في عام 1836م.  في العام التالي (1837م) حاول الأتراك استعادة القلابات، فسير خورشيد باشا جيشا عبر كسلا إلى الحدود مع القلابات، وأعاد احتلالها.
بعد رحيل الأتراك من السودان في عام 1839م آب محمد ود نمر لمدينة شندي لاسترداد بعضا من ثروة أبيه التي كان قد خبأها تحت الأرض في دارهم (والتي استولى عليها صهره ود عقيد). كان المك نمر يحتاج إلى المال كي يشتري به أسلحة وذخائر لتجابه أسلحة الأحباش التي زودهم بها الفرنسيون. خاب ظن ولد المك نمر، فلم يجد في دارهم شيئا، إذ كان قد سبقه إليها خورشيد باشا، والذي كان قد حبس حليف الأتراك بشير ود عقيد وأخوته. هرب محمد ود نمر من شندي بعد أن حاول حاكم دنقلا التركي محمد أبو ودان الوصول إليه واعتقاله.
زار أحد الغربيين (وهو د/ ديليسبس) في عام 1844م القلعة التي كان يتحصن بها المك نمر، فوجده قد كبر في السن، وأشتعل رأسه شيبا، وفقد البصر. كان محمد ولده قد توفي قبل ذلك اللقاء بنحو عام. توفي المك نمر بعد ذلك بعام (في عام 1845م) وحل محله في القيادة ولده عمارة، والذي تحالف مع الأحباش ضد القوات التركية، والتي دخلت معها في مناوشات وحروب صغيرة أهلكت خلقا كثيرا من الجانبين. في عام 1850م غزا  عمارة ابن المك نمر، وبمساعدة الأحباش، مدينة كسلا ، وحارب الهدندوة فيها، ثم واصل اندفاعه في المنطقة فاستولى على القضارف، وأعلن المنطقة أراضي تتبع للحبشة (مملكة التقراي). سبق لحاكم كسلا التركي الياس باشا التعامل التجاري مع عمارة ود المك نمر، فقد كان الأخير يبيع لذلك الباشا الفتيات ليضمهن لحريمه، مقابل إعطائه أسلحة وذخائر حكومية. كان الياس باشا رجلا فاسدا يستخدم ما يحصل عليه من نساء الأحباش في تسيير أموره الشخصية، والحصول على الأموال والترقيات.
في عام 1857م أصدر الخديوي سعيد باشا عفوا عاما عن كل من حمل السلاح ضد الغزو التركي، وشمل ذلك كل أفراد عائلة المك نمر. لم يثن ذلك عمارة ود المك نمر عن مواصلة حربه ضد الأتراك، حتى عام 1862م حين هاجم الأتراك مواقعه وأصابوه بجروح في إحدى المعارك، بيد أنه تمكن من الهرب والنجاة منهم. قابله السير بنجامين بيكر في يوم 21 مارس من عام 1862م، وقدم بالإنابة عنه طلبا للعفو لحاكم الخرطوم التركي موسى باشا، ولكن تم رفض الطلب.
توفي عمارة ود المك نمر في عام 1862م متأثرا بجراحه. بعد ذلك صدر عفو عام عن النمراب المحاربين.
مع ظهور المهدي، انضم إليه عدد كبير من نسل المك نمر. وبعد أن استولى كتشنر على السودان، طالب أفراد من عائلة المك نمر بقيادة قبيلة الجعليين. رفض البريطانيون طلبهم، إذ أن أراضيهم كانت قد صودرت منذ عام 1822م، وتم إدارة شئون الجعليين على أساس أنهم مجموعة اجتماعية واحدة، وليسوا قبيلة واحدة.
نقلا عن ”الاحداث"

 

آراء