مجاذيب الدامر The Megadhib of El Damer
ف. لوريمير F. Lorimer
ترجمة وتلخيص : بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة مختصرة لمقتطفات قليلة من مقال نشر في العدد التاسع عشر من مجلة "السودان في رسائل ومدونات" الصادرة في عام 1936م، للكاتب ف. لوريمير عن تاريخ المجاذيب في الدامر. بالطبع ليس من أغراض ترجمة هذا المقال (أو غيره) عن القبائل السودانية إذكاء روح قبيلة "عنصرية" بغيضة (من النوع الذي فشا هذه الأيام حتى في الأوراق الثبوتية الرسمية)، ولكن من أجل معرفة خصائص التنوع القبلي والإثني في البلاد، فالسودان يتكون بحسب أحد المصادر السودانية من 570 قبيلة تنقسم إلى 56 أو 57 فئة إثنية على أساس الخصائص اللغوية والثقافية والإثنوجرافية؛ وتتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة، ومن الضروري البحث في تاريخ وأصول كل هذه القبائل المتنوعة، فهي ينبغي أن تكون منبع قوة ومنعة، وليست سببا للفرقة والشتات. المترجم
يعد فرع المجاذيب واحدا من أكثر فروع قبيلة الجعليين شهرة، وذلك لما تميز به أفرادها من عظيم تدين، وشدة ورع، وسعة علم شرعي. انحدر من فرع قبيلة المجاذيب عدد مقدر من العلماء، مما أكسب ذلك الفرع احتراما ومهابة وهيبة، بل ظن البعض أن لديهم من خارق القدرات ما يجعلهم يلجأون إليهم لكشف الحجب والأستار، وفك عقد السحر، والتداوي بالقرآن والرقية الشرعية، ومعرفة ما استغلق عليهم من أمور غيبية عديدة.
لا يختلف تاريخ المجاذيب عن تاريخ بقية قبيلة الجعليين ككل. تسلل المجاذيب لداخل البلاد من الشمال والشرق مع غزو العرب للسودان (هكذا! المترجم)، واستقروا في وادي النيل. يعد المجاذيب أنفسهم – كبقية فروع الجعليين- من نسل العباس عم الرسول (مباشرة).
ينحدر المجاذيب من جدهم الكبير "عبد العال بن عرمان"، وهو ابن دواب Duab بن غانم بن حمدان، والذي يعد كبير قبيلة الجعليين. ومن ذات الأصل انحدر الجندلاب والكبوشاب والراشداب والتابراب والبدواب والحمداب والرزقلاب والزاكياب والعوازم والعامراب والجباراب والبرياب والحجراب والحسناب والحسبلاب والخليلاب والبلاب والقنديلاب والنقراب والقمرديناب واللميناب والبشراب والبرسياب والحريراب والبليلاب والفخرياب والمزيناب وغيرهم كثر.
ينتسب المجاذيب للفكي حمد بن محمد المجذوب (والذي يسمون باسمه)، ويبلغ عدد أفرادهم 3000 – 4000 ينتشرون في مختلف بقاع شمال السودان. استقر بعض هؤلاء في طوكر وبورتسودان وسواكن (حيث أقاموا مسجدا) وكسلا والقضارف واتبرا (عطبرة) والزيداب والدامر وما حولها من القرى. يسكن الآن نصف المجاذيب في الدامر وما حولها، وهي مركزهم وقصبتهم، ويعد ساكنوها هم نخبة المجاذيب وصفوتها، نسبة لوضع الدامر التاريخي المميز في تاريخ المجاذيب، و"البركة" التي يعتقد أنها حالة ومتأصلة بها، وكذلك لنقاء أصل من يسكنها. ينتسب للدامر كذلك المجاذيب الذين يسكنون على ضفاف نهر اتبرا والبحر الأحمر، إذ كان هؤلاء قد طردوا من ديارهم في الدامر من قبل إسماعيل باشا وجنوده في بدايات القرن التاسع عشر. ينتمي كثير من المجاذيب لطائفة الأنصار، وغير قليل منهم يعدون من العلماء المشهورين، الذين تتلمذ على أيديهم مئات "الحيران" من الرشايدة، وهم من أتباع الطريقة الشاذلية في الجزيرة العربية.
عندما أتى العرب لأول مرة للسودان، استقر أسلاف المجاذيب في قرية تقع بالقرب من مدية الدامر الحالية كانت تسمي درو Darru،واسمها الحالي " الشعديناب"، وقد سميت على اسم شاع الدين، وهو أخ لعبد العال، والذي بقي هو وعائلته ونسله من بعده في القرية بعد أن هجرها غالب المجاذيب). عندما كان المجاذيب يسكنون في درو، كانوا يزورون باستمرار ما يعرف الآن بالدامر من أجل أداء الصلوات، وقضاء بعض الواجبات الدينية الأخرى، ومن هنا جاء اسم "الدامر"، والتي غدت قصبة المجاذيب في السودان ] لعل الصحيح هو ما جاء في موسوعة الويكبيديا من أن أصل تسمية (الدامر) يعود كما تقول الرواية الأشهر في المنطقة إلى أن الفقيه (حمد) كان قد تلقى علوم القران الكريم على يد والده (الفقيه عبد الله راجل درو- المدفون بقوز الشعديناب-) ومن عادة المشايخ أن يعطوا الإذن لمن يأنسوا فيه الكفاءة والقدرة على نشر العلوم التي اكتسبها بعد حفظ القران وتجويده بالرحيل إلى منطقة أخرى وإقامة (تقابة قرآن)- مدرسة لتعليم وتحفيظ القران الكريم وعلومه- فرحل (الفقيه حمد) عن والده واستقر في المنطقة الحالية والمقام عليها مسجد السهيلى الحالي، وفي الشعديناب ذهب أقرانه يسألون عليه شيخهم (والده الفقيه عبد الله) ويجيبهم بأن :(حمد دامر) أي (أن حمد استقر في المكان الذي ذهب إليه) فأصبحوا يتناقلون هذه العبارة فيما بينهم بصيغة (دامر حمد) بمعنى (استقر حمد) ولذلك فحمد هذا وكما يدعى: (حمد ضمين الدامر). المترجم[.
يرجح المؤرخون إلى أن حمد بن عبد الله هو مؤسس الدامر قبل 450 عاما (كتب هذا الكلام في 1936م. المترجم) في عهد مملكة الفونج. نشأ فيها سوق، قيل إنه حظي ببركات الشيخ حمد، وكان هذا سبب تقاطر العرب عليه من كل حدب وصوب. صارت المدينة محط أنظار الكثير من الناس، يزورنها طلبا للعلم والشفاء والبركة والفتاوى والتجارة ومختلف الحاجات. مع مرور سنوات ذلك العهد ازدهرت سمعة المجاذيب الدينية، وتقاطر علي مدينتهم (الدامر) المريدون، فكبرت المدينة وغدت مركزا تجاريا كبيرا وهاما. انتزعت الدامر أيضا إعجاب واحترام من مروا خلالها من الرحالة الغربيين، فكتبوا مشيدين بالمجاذيب ومدينتهم. كان لسمعتهم الممتازة جانبا عمليا أيضا، إذ كان سكان المدينة وزوارها أيضا يحترمون "قدسيتها"، فاختفت فيها الجريمة تماما أو كادت. ذكر بعض المؤرخين أنه بينما كان شائعا في تلك الأيام أن يقطع المجرمون والسراق طريق قوافل الحج، فلم يحدث أبدا أن هاجم هؤلاء قافلة واحدة إن علموا أن فيها واحدا من المجاذيب.
اشتهر المجاذيب كذلك بمسارعتهم بالتوسط في فض النزاعات التي تنشب بين القبائل المحيطة بهم، بل بلغ من احترام الفئات المتصارعة لشيوخ المجاذيب، أن الشيخ قد يرسل عكازه أو عصاه (كصولجان للمجاذيب) للفرقاء إن لم يتمكن لسبب ما من أن يحضر بنفسه، ويحترم المتصارعون ذلك الرمز للشيخ، وكأن الشيخ قد حضر بنفسه لفض النزاع (سبق أن ذكر في مقال سابق عن المك نمر أن شيوخ المجاذيب توسطوا بين الشكرية والجعليين في شندي، وقد كان الشكرية على وشك الانقضاض على شندي ومساواتها بالأرض، لولا نجاح وساطة المجاذيب. المترجم).
زعم الرحالة بيركهاردت (المترجم) أن "عائلة" المجاذيب مشهورة بقدرات خارقة للعادة، مثل استحضار الأرواح، وكشف الغيب، وعمل "أعمال سحر" لا يمكن مقاومتها! فيلجأ مثلا من تعرض للسرقة للشيخ (أو حتى لفكي دونه في المرتبة) لمعرفة السارق ولاسترداد ما فقده، ويخشى الجميع قدرات الفكي اللامحدودة، فيسهل عليه السيطرة عليهم، ويجعلهم يؤمنون بقوة سحره.
يتبع المجاذيب على وجه العموم الطريقة الشاذلية، والتي دخلت عقيدتها وممارساتها للسودان عن طريق الشيخ حمد بن محمد المجذوب (1693م – 1776م)، والذي درس العلوم الشرعية في مكة على يد سيدي علي الديراوي الشاذلي إبان وجوده هنالك في الحج. يجب أن نتذكر أن طريقة والد الشيخ حمد كانت هي الطريقة القادرية.
توجد في الدامر وما حولها من القرى قباب لشيوخ كثر، منهم "عرمان" في المكابراب، و"عبد العال" وجندل والحاج عيسى في الشعديناب، وكبوش (شقيق جندل) في الكبوشاب. وفي الدامر نفسها تجد قباب الشيخ حمد بن عبد الله، و الشيخ حمد بن محمد المجذوب، والشيخ محمد المجذوب، والفكي عبد الله النقر، بينما دفن الفكي مدني والفكي أحمد في كسلا والقضارف، على التوالي.
يتميز المجاذيب بتلاحمهم وتوحدهم، وعدم ظهور أي انشقاق في صفوفهم، رغم الخلافات السياسية التي تطفو من حين لآخر. ولكن في عهد المهدية اختلف المجاذيب مع الحاكم لفترة وجيزة حول قيادة الجماعة، بيد أن ذلك الخلاف تم احتواؤه سريعا. أما قبل ذلك التاريخ، وعند غزو إسماعيل باشا للسودان عام 1820م بعث حليفهم كبير الميرفاب (نصر الدين الصادق) من بربر بمبعوث للمجاذيب ينصحهم بتقديم الولاء لإسماعيل باشا حاكم البلاد الجديد. خشي المجاذيب على دينهم وعقيدتهم وممارساتهم فرفضوا تقديم البيعة لإسماعيل باشا بل وهددوا بمحاربته إن دخل مدينتهم.
تحرك إسماعيل باشا وجيشه من بربر إلى "المقرن" على نهر اتبرا حيث التقوا بالمجاذيب في "الكويب" (حيث بني كبري اتبرا الحالي). نشب بين الفريقين قتال عنيف هلكت فيه أرواح كثيرة من الجانبين، ثم استعان الجيش الغازي بمدد عظيم من الجنود استطاع أن يلحق بالمجاذيب هزيمة ماحقة في معركة "أبو سليم". تفرق بعض من تبقى من المجاذيب إلى أنحاء نهر اتبرا ، بينما توجه آخرون إلى البطانة. تعقبهم الأتراك، وأثخنوهم قتلا وأسرا، وفر من نجا منهم إلى كسلا والقضارف. هجرت الدامر، ولم يعد إليها المجاذيب إلا بعد أن أصدر محمد علي باشا عفوا عاما عنهم. بقي بعض المجاذيب الذين هجروا بلادهم واستقروا في القضارف وكسلا في هاتين المدينتين، حيث لقوا كل احترام وتبجيل من أهاليهما.
عند وصول غردون باشا، قابله المجاذيب بالترحاب ومظاهر التأييد. رد غردون على التحية بمثلها فأصدر أمرا بإعفاء الفكي أحمد بن جلال الدين من الضرائب والعشور، وأجرى عليه منحة سنوية قدرها عشرة جنيهات، وعشرة أرادب من العيش.
لم يرغب المجاذيب حقيقة في المشاركة في الثورة المهدية، ولكن الظروف أجبرتهم على المشاركة فيها. عينت المهدية خمسة من رجال المجاذيب البارزين كأمراء في حكمها هم: أحمد بن جلال الدين، والحاج حامد، والفكي الطيب محمد، و مجدوب بن الفكي عبد الله النقر، وشيخ محمد مجدوب بن الشيخ الطاهر (شيخ طوكر). مثل الشيخ البشير أمام الخليفة عبد الله التعايشي، وقدم له فروض الولاء والطاعة، وبايعه باسم كل المجاذيب. أوفى المجاذيب بتلك البيعة حتى بعد أن رفض الجعليون إطاعة أوامر الخليفة، مما دعاه لارتكاب مجزرة ضدهم بقيادة الأمير محمود ود أحمد التعايشي في المتمة في عام 1897م.
قيل أن محمود ود أحمد، بعد أن فرغ من أمر الجعليين في المتمة توجه نحو الدامر ليسقي أهلها المجاذيب من ذات الكأس، بيد أنه حلم في منامه بحلم يثنيه عن ما كان يعتزم تنفيذه (لا ريب بفعل بركات شيوخ المجاذيب!)، فتوجه نحو "النخيلة" حيث لقي الجيش البريطاني في معركة اتبرا، وهناك تلقى جيشه هزيمة ماحقة، وتم أسره.
بعد شهور رست على ضفاف النيل في الدامر بواخر نيلية كان على إحداها كتشنر ووينجت وماكدونالاد وهنتر وسلاطين. قابل أهالي الدامر البواخر القادمة بفرح واستبشار، وقدموا لها كل ما كان بإمكانهم من عون. ظلت الصداقة والإخلاص هي ديدن العلاقة بين المجاذيب والحكومة حتى يومنا هذا (1936م. المترجم)، وقدمت الحكومة (البريطانية) للشيخ بشير أحمد جلال الدين كسوة شرف ووساما من الطبقة الأولى، وكذلك لأخيه الأكبر الشيخ عبد الله النقر، والذي توفي في عام 1935م.
********************
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]