بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق.. عثراته ومآلاته (8-11)

 


 

 


shurkiano@yahoo.co.uk


الانتخابات التكميليَّة العام 2011م.. تزويرها ووأد المشورة الشعبيَّة


لا مريَّة في أنَّ الديمقراطية حق، وليست هبة من السماء؛ وكذلك يقولون إنَّ الديمقراطية كالجمال، وإنَّها لتبدو جميلة في عيون ممارسيها.  ولكن كيف نجعل الديمقراطيَّة إيجابية وفعَّالة لما نريد؟  في سبيل إصدار القرارات في الخلافات الجوهريَّة عند التعامل مع الآليَّة الديمقراطيَّة يتغاضى القائمون بالأمر أشراطاً ينبغي أخذها في الاعتبار، برغم من أنَّها مرغوبة الرغبة كلها قبل كل شيء، حتى تسير الإجراءات الديمقراطيَّة على نحو سليم.  ودوماً ينسى الناس أنَّ العمليَّة الديمقراطيَّة تعمل ك"آلية لفض النِّزاعات" فقط حين تتوافق الأطراف الرئيسة في العملية إيَّاها على أنَّهم مستعدُّون لقبول نتائج الخيار الشعبي، وأشكال التحكيم الأخرى – مثل أحكام المحاكم، أو قرارات المفوضيَّات ذات الصلاحيات – بدون تحفظ.  فإذا مالت المنظومة – أي جهاز السلطة – سراعاً إلى جهة معيَّنة، كحال الحكومة المنتخبة التي لا تحترم قوانين اللُعبة، أو تتجاهل المصالح الحيويَّة لمجموعات سكانيَّة مهمَّة، فإنَّ المنظومة لتنهار تماماً.  وكذلك يمكن أن يحدث هذا حين لم ترض المجموعات ذات النفوذ بنتائج العمليَّة الانتخابيَّة.  وفي هذه الحالات تنشب الحروب الأهليَّة، كما حدث في الحرب الأهليَّة الإنكليزيَّة (1642-1651م)، أو الأمريكيَّة (1861-1865م)، أو الأسبانيَّة (1936-1939م).  وفي حالات أخرى تنهار كل المنظومة، كما حدث في جمهوريَّة الفايمار في ألمانيا في الثلاثينيَّات، أو – بنتائج أكثر كارثيَّة – في الجمهوريَّة الرابعة في فرنسا في الخمسينيَّات، وفي السُّودان حينما فجَّرت – أو استفحلت – الخيارات الديمقراطيَّة الحرب الأهليَّة (1955-1972م)، أو حين تسبَّبت الخلافات العميقة في الجسم السياسي في انهيار الديمقراطيَّة في الأعوام 1958، 1969 و1989م.  إزاء هذا يشدِّد منظرو الديمقراطيَّة على ما أسموه "عهود الصفوة"، والتي تهدف إلى حل النِّزاعات على عدة مستويات كشرط انتقال فعلي إلى الديمقراطيَّة.  فالديمقراطيَّة تعمل فقط في الإطار الذي ينعته المنظِّرون ب"التعاقد على المجهول".  فلا ينبغي أن يعني هذا المجهول الضمني في العملية الديمقراطية – مثلاً، ترك تشكيل الحكومات والسياسات لتقلُّبات أصوات الشَّعب – أو الاستكانة إلى الأمر القائل بأنَّ كل شيء يجب أن يسير كما هو.  ولكن ينبغي أن تكون هناك ضمانات دستوريَّة، وأيَّة ضمانات أخرى لحماية المصالح الحيويَّة والحقوق الأساسيَّة للأفراد والجماعات، والتي ينبغي على الحكومة المنتخبة أن لا تعبث بها.  وإنَّ هاتين العمليتين لمرتبطتان: إذ أنَّ الضمانات الدستوريَّة تضع حدوداً فاصلة للديمقراطيَّة القائمة على الأغلبيَّة البسيطة، ولكن إنَّ التمسك باللوائح الديمقراطيَّة (احترام الدستور، وبخاصة الفصل بين السلطات التنفيذيَّة والشرعيَّة والقضائيَّة والصحافة) لضروري جداً لجعل الضمانات الدستوريَّة نافذة.(41)
فليس غريباً، إذن، والحال هذه أن تجدنَّ الذين لا يعشقون الديمقراطيَّة يبغضونها.  فعلى سبيل المثال نجد في سوازيلاند، التي يحكمها ملك عضوض، يتم تلقين الأطفال قصصاً عن قواه السحرية الخارقة، فمثلاً: الادِّعاء بأنَّ له المقدرة على إسقاط المطر، تحويل نفسه إلى قطة، أو تحويل نفسه إلى شبح غير مرئي لأعدائه.  ثمَّ لتجدنَّ مفردات لغوية كالشيخ، الملك والإله تحمل معنى واحداً سوياً في اللغة القوميَّة في سوازيلاند، مما يعنى أنَّ انتقاد الملك بمثابة ضلال مبين، وإنَّ الملك لهو الفم الذي لا ينطق بقول الزور، ولا يعرف الكذب منه إلى الناس سبيلاً، هكذا يعتقدون ويستطردون.(42)  والدولة حين تتمرَّغ في العجز السياسي والاقتصادي معاً، وتسودها البنى التحتية غير الملائمة، وتتحكَّم فيها بيروقراطية الدولة المترهلة والفساد المستشري في الخدمة المدنية والمال العام، ويتسيَّد فيها جهاز عدلي مجرَّد من المبادئ الخلقيَّة والأخلاقيَّة، وتتميَّز بنسبة بطالة عالية، وقطاع تعليمي مسيَّس، وتوكيدات مبالغة في الانتماء الديني والقومي، تبقى هناك فرصة ضئيلة أمام الذين يسعون إلى المصالحة الوطنيَّة والتقدم والرقي إلى مرام العيش الكريم والاستقرار.  وفوق ذلك كله، يكون الإخفاق من نصيب هؤلاء الذين يحاولون تأسيس أحزاب سياسيَّة تكد في الالتزام بحكم القانون والحياة الديمقراطية والتعايش السلمي بين الأثنيات المتعددة، وذلك – أيضاً – لأنَّ خطاب رافعي رايات التطرف متوغل في جميع أوجه الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة في الآن نفسه.  وفي هذه الأثناء يمسي أهل الكهنوت قد بلغوا حالاً نفسيَّة هي تلكم التي تسمى  (Pareidolia)، حيث فيها يرى البعض منهم أو جلهم أشياءاً ليس لها وجود في حقيقة الأمر، أي كمن يقول لك: "إنِّي لتراني أرى وجه المسيح على قطعة الخبز،" بدلاً من أن يكون قد رأى التَّشْنيَّات (Pachyderms) على الكواكب، والتَّشْنيَّات هي رتبة من الحيوانات الثدية ذات الحافر غير المجترَّة (كالفيل والخيل) تتميَّز عادة بجلدها الصفيق.
ولعلَّ واحداً من النقاط الساطعة لمخاطبة إرث الحرب الأهلية اليوغسلافيَّة التي استعرت العام 1992م قد جاء من ركن غير متوقع.  فالرجال الذين امتشقوا السلاح لمحاربة بعضهم بعضاً قد أصبحوا أمثلة يُقتدى بهم في التعاون بين خط التقسيم الأثني بين البوسنة والكروات.  ففي العام 2010م أصدر البرلمان قراراً بإحالة كل الجنود الذين تبلغ أعمارهم فوق 35 عاماً إلى المعاش على جانبي الخط الأثني.  وما أن شرع القائمون بالأمر في تنفيذ القرار إيَّاه حتى نشب شجار حول أيَّة أثنية تُؤول إليها أمر هذه المعاشات، وأيَّة وزارة أعاقت تشكيل الحكومة لمدة عامين.  إذ أقرَّت الحكومة الفيديراليَّة للبوسنة والكروات ما يعادل مبلغ 150 جنيهاً إسترلينيَّاً شهريَّاً لجنودهم السَّابقين، غير أنَّ الصرب رفضوا أن يحذوا حذوهم، تاركين جنودهم السَّابقين معوزين طالما افتخروا بهم في الماضي بأنَّهم مقاتلون مقدَّسون يذودون عن حمى وطنهم.  وكان الذين هبوا لإعانتهم هم أعداؤهم السَّابقين – أي محاربي البوسنة – حيث قادوا حملة لجمع التبرعات لدعم خصومهم السابقين من الصرب.  تلكم هي قمة المصالحة الوطنيَّة.
هذه تجارب ماضويَّة لدول خرجت لتوها من أتون حرب أهليَّة طاحنة، وكان أجدر لأهل الحكم في السُّودان أن يقتدوا بها، ويأخذوا ما تيسَّر منها.  ومع ذلك، كان ينظر المراقبون لانتخابات الولاية بأنَّها طوق نجاة وسفينة نوح التي ستخرج جنوب كردفان بصورة نهائية من دوامة الصراع المسلح، وتستقر بها في مجالات التنمية والتطوّر، ولكن حمى الحملات الدعائية أقلقت البعض من خلال التهديدات والتحذيرات من عودة المنطقة إلى المربع الأول مجدداً، وهذا ما نجده في أحداث منطقة الفيض أم عبد الله التي فعلها أشياع المؤتمر الوطني، والتي راح ضحيتها العشرات من المواطنين وجرح الآخرين وحرق المنازل والقطاطي.(43)  وفي خطاب له منقول عبر وسائل الإعلام المصوَّرة والمسموعة والمقروءة، قال البشير – فيما قال – في الحملة الانتخابيَّة في مدينة المجلد بغرب كردفان: "إن ولَّعت النَّار، العمم والجلاليب بتروح، وبرجع الكاكي، وتاني اتفاقيَّة مافي."  مستخدماً الإستراتيجيَّة المعروفة ب"إستراتيجيَّة تلذذ المرء باضطهاد الآخر" (Masochism)، والتي يستخدمها الشخص لوضع نفسه أمام الجماهير الغاضبة لتبديد تضجرهم ضد سياساته الممقوتة، أكَّد البشير أنَّه في حال العودة إلى الحرب فإنَّ صناديق الذخيرة ستحسم الأمر، وأضاف: "نحن إذا دايرين انتخابات سنكسبها، وإذا دايرين حرب سنكسبها، نتلاقي قدام،" وأشار إلى تدريبهم للخيول والدبابات على صعود الجبال، في إيحاء منه أنَّ الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان احتمت بها في أيام الحرب السابقة (1983-2005م).  والإيحاء هو مجموعة من الكلمات أو العبارات المنسَّقة، والتي لها مدلولاتها التأثيريَّة على النفس، فقد ورد معنى كلمة "الإيحاء" في قاموس المعاني بأنَّه: "الإيعاز له دون إقناع أو أمر أو نهي."  فما جاء في إيعاز الرئيس البشير ورد دون إقناع لأحد.  أفلم يكن من الأجدر على حزب المؤتمر الوطني أن يعتمد على حملة انتخابية سياسيَّة خالية من الغلواء والشعواء، وبخاصة كان للحزب موارد اقتصاديَّة وبشريَّة وأمنيَّة وإعلاميَّة يسيرها رغاءاً حيث أراد؟!
ومما سبق نطرح التساؤل الآتي: هل يفكر الرئيس البشير ويقدِّر قبل أن يطلق تصريحاته الهوجاء في الهواء، والتي تعرضها التلفزة السُّودانيَّة مباشرة أو مداورة؟  هناك أمران في الرَّد على هذا التساؤل: إذ ربما لا يفكر البشير قطعاً قبل التفوه بعباراته التي لا تحمل في أحايين كثيرة شيئاً محموداً سوى الاحتقار الأكثر إثارة للاشمئزاز، والذي يمكن أن تُجابه به الطبيعة البشريَّة.  أو إنَّه ليفكر، لكن تفكيره يقوده إلى نتائج مأسوية، وبخاصة حين يختزل الفكر إلى الفعل، وذلك لأنَّ الفكر يشكل مرحلة ضرورية للفعل عندما يكون تركيبياً ويسير على درب التوافق والتقدم والمعقولية.  أما إذا انتهى التفكير إلى الخطأ المستميت، فإنَّ المحصلة النهائية لتمسي كارثيَّة.  وإنا لنقف مع الشاعر الذي رأى في خطبة أحد الحمقاء الخطوب والحوادث – أي المصائب والكوارث – التي أخذت تُضاف إلى كوارثهم ومحنهم العظيمة ولات حين مناص، وهو ذلكم الشاعر الذي طفق ينشد:
خطبت فكنت خطباً لا خطيباً
يُضاف إلى حوادثنا العظام

لا شك في أنَّ ذاك الخطاب الدموي الذي اختاره الرئيس البشير لكي يكون رمزاً للحملة الانتخابية لمرشحي المؤتمر الوطني في الانتخابات التكميليَّة في ولاية جنوب كردفان قد فطن له أبناء النُّوبة في داخل السُّودان وخارجه، حتى خرج أبناء النُّوبة في مسيرات هادرة منددة بالحكومة السُّودانيَّة في كندا (ملحق رقم (6))، وأخرى في الولايات المتحدة الأمريكيَّة (ملحق رقم (7)) تطالب بحق النُّوبة في ممارسة موجباتهم واستحقاقاتهم في المشورة الشعبيَّة كما أقرها بروتوكول وقف العدائيات الذي جاء في اتفاقيَّة السَّلام الشامل للعام 2005م، وذلك لمصلحة الخير العام والرفاه الاجتماعي لأناس خرجوا لتوهم من محرقة حرب أهليَّة ضروس قضت على ذويهم وممتلكاتهم.
بالقياس إلى حزب المؤتمر الوطني الذي ظلَّ في الحكم أكثر من حقبتين، نجد أنَّ الحركة الشعبيَّة كانت قد تفوَّقت على شريكها في الخطاب السياسي برغم من مواردها الشحيحة، وكان ذلك التفوُّق واضحاً في الجوانب المضيئة في الحملة الانتخابيَّة التي خاضتها في جنوب كردفان، وكانت حملة سياسيَّة حضاريَّة ناضجة لا غبار عليها.  فقد احترمت الحركة وجدان وتفكير الشعب السُّوداني عموماً وشعب جنوب كردفان خصوصاً، حيث خاطبتهم عن استحقاقات عمليَّة السلام المتضمنة في بروتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق، ووعدتهم بالتنمية التي طال انتظارها، وعن قضايا الحياة الملحة وحقوق الزراع والرعاة (ملحق رقم (8)) والطلاب والمرأة، ثم بشَّرت الناس بكيفيَّة استغلال عائدات البترول في جنوب كردفان، وذلك بعد رفع نصيب الولاية من الحصة المخصصة لها يومذاك.  ومن هذه القضايا الملحة التي تمس حيوات المواطنين في السُّودان، نذكر منها ما يلي: ضرورة إجراء إصلاحات دستوريَّة تتيح حرية التعبير، إيجاد حل لمشكلات التعليم المتمثلة في عدم وجود فصول دراسيَّة كافية، وضرورة توفير مجانيَّة التَّعليم والعلاج، وإنشاء مستشفيات وتأهيلها بالكادر الصحي المدرَّب وتوفير المعدات الطبيَّة اللازمة في الولاية، ومحاربة الفساد والمحسوبيَّة.
ففي ندوة سياسية كبرى قلما شهدت مدينة الدلنج لها مثيلاً في كثافة الحضور وإيجابيَّة تناول القضايا السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، والتي أُقيمت في يوم الخميس 28 نيسان (أبريل) 2011م وخاطبها قادة الحركة الشعبية مالك عقار وعبد العزيز الحلو وياسر عرمان، وجاءت بعد ساعات من إعلان المشير عمر البشير منح وسام الإنجاز السياسي لكل من أحمد هارون وعبد العزيز الحلو، أعلن القائد عبد العزيز الحلو في معرض حديثه اعتذاره عن قبول الوسام وشكر المشير البشير عليه، وقال إنَّه اعتذر عن قبول الوسام للأسباب الآتية:
(1)    حديث المشير عمر البشير بلغة الحرب والوعيد في مدينة المجلد في يوم الأربعاء 27 نيسان (أبريل) 2011م كان انتهاكاً لاتفاقية السلام والدستور نصاً وروحاً، وهو نفس الشخص الذي يعطي الأوسمة للإنجاز السياسي؛ فأي إنجاز سياسي يتم الحديث عنه بعد التبشير بالحرب جبل جبل، وولاية ولاية!!
(2)    استخدام موارد الدولة في الحملة الانتخابية لمصلحة مرشح المؤتمر الوطني، والتي نقلت على الهواء مباشرة من أجهزة الإعلام المسماة "قوميَّة" من تلفزيون وإذاعة، يُعد خرقاً كاملاً لقانون الانتخابات والمنافسة الشريفة والديمقراطيَّة.
وقال القائد الحلو – فيما قال – في  تعميم صحافي في مدينة كادقلي: "إنَّ رئيس الدولة (عمر حسن البشير) الذي يدعو للحرب، ويبشر بشرها، عليه أن يحل أزمة دارفور أولاً، وأكد أنَّ خطاب البشير يؤكد أنَّ المؤتمر الوطني يريد أنَّ يحوِّل ولاية جنوب كردفان إلى ساحة للحرب ضد الجنوب باستخدام أبناء الولاية وقوداً للحرب، وبخاصة إنَّ الوفد الذي رافق البشير في جولته في القطاع الغربي كان يضم زعماء ميليشيات من دارفور علي رأسهم صديق مرشح المؤتمر الوطني لمنصب الوالي ورفيق دربه في حرب الإبادة  بدارفور، وهو المتهم المطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية علي كوشيب، وموسي هلال – الزعيم القبلي الذي خاض الحرب في دارفور مع الحكومة وهو على قيادة ميليشيات قبليَّة.   وأكد الحلو أنَّ المؤتمر الوطني لا يمثل الإسلام والعروبة في شيء، بل إنَّ الإسلام والعروبة يعانيان الأمرين من متاجرة المؤتمر الوطني بهما، ودعا كافة المسلمين والمسيحيين وأصحاب الديانات الإفريقيَّة الكريمة بالعمل معاً لتخليص الإسلام والعروبة، اللذين اختطفهما المؤتمر الوطني، تاجر وباع بهما كثيراً.  كما اتهم الحلو المؤتمر الوطني باستغلال موارد الدولة في حملته الانتخابية، وذلك باستخدام  الطائرات الحكومية في التنقل أثناء الحملة الانتخابية لمرشحه، بالإضافة إلى استغلال الأجهزة الإعلامية الحكومية القومية مثل الإذاعة والتلفزيون، التي تعمل بأموال دافعي الضرائب لبث برامجه للمشاهدين، مما يعتبر خرقاً لقانون الانتخابات، كما ورد في المادة (96) والمعاقب عليها في المادة (110) من القانون نفسه.
وفي السياق نفسه، قال الحلو إنَّ  برنامجه الانتخابي  برنامج للسلام والتنمية، والاعتراف بالتنوع والتعدد وحق الآخرين في أن يكونوا آخرين.  وأكد الحلو التزامه بتصحيح علاقة الولاية بالمركز، وطالب ب 50% من عائدات النفط المنتج في الولاية ليُصرف على التنمية في جنوب كردفان، وتخصيص 10% من نصيب الولاية في عائدات البترول المنتج في الولاية للصرف على الرعاة لتحديث أسلوب الرعي في الولاية لتسهيل حياة الرعاة جنوباً وشمالاً، وتكوين حكومة قومية من كافة القوى السياسية الراغبة في تنفيذ برنامج مشترك لتعزيز الديمقراطية والتنمية والتعايش والمصالحة، ومخاطبة قضايا الفقراء والمهمشين، وتحقيق الإجماع الكافي.  وأشار الحلو في رسالته إلى بداية مرحلة جديدة من التعايش والتصالح بين كافة شعوب وقبائل الولاية، لا سيما النُّوبة والعرب، وعقد مؤتمر للاتفاق على دستور الولاية وكيفية إدارتها والتعايش بين جميع القبائل في توافق مع دستور دولة شمال السُّودان.  وشدد علي  ضمان المشورة الشعبية على أن تحقق تطلعات أبناء الولاية وتصحيح العلاقة مع المركز، وأن تكون نموذجاً لكل ولايات السُّودان، وتعزز وحدة دولة شمال السُّودان.  وأعلن التزامه بضمان علاقات جوار جاذب وآمن وسلمي بين الجنوب والشمال، والقضاء على كل عمل يجلب التوتر بين الجنوب والشمال، واستخدام كل رصيد علاقاتي للوصول لجوار جاذب وحسن وسلمي.  وشدَّد المرشح الحلو على ضمان الحريات وحقوق الإنسان في الولاية، والمحاسبة والشفافية، ومكافحة الفساد وإشراك المواطنين في برامج التنمية، وإحياء مجالس الحكماء لضمان التعايش والجوار بين القبائل، وأن تعكس تركيبة مؤسسات الحكومة وجود كافة القبائل وتوازن المصالح.  ودعم القائد سلفا كير ميارديت – رئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية والقائد العام للجيش الشعبي لتحرير السُّودان – المرشح الحلو في حملته الانتخابية بالقول: "اتعهد بأن أعمل مع عبد العزيز الحلو لصيانة والحفاظ على مصالح الرعاة من جميع القبائل، وبالأخص القبائل العربيَّة، وهم تسع ملايين من الحدود الإثيوبية إلى حدود (جمهوريَّة) إفريقيا الوسطى، وسأضمن مصالح الرعاة في الجنوب في الرعي، وتبادل المنافع والمصالح مع الجنوب، وإحتاج لقادة مثل عبد العزيز الحلو."
ومع ذلك كله، قامت الانتخابات في حال طوارئ غير معلنة.  ففي حديث صحافي مع الناطق الرَّسمي باسم الحركة الشعبية، محمدين إبراهيم، قال – فيما قال: "هناك حالة طوارئ غير معلنة في بعض الدوائر من قبل السلطات الأمنيَّة والحشود العسكريَّة، وأشار إلى الانتشار الكثيف لتلك القوات، بجانب التهديدات من قبل قيادات المؤتمر الوطني لمرشحي الحركة الشعبيَّة."  ومن الذين تمَّ تهديدهم معتمد محافظة أبو جبيهة ورئيس لجنة الأمن موسي كجو، حيث تم تهديده ومحاصرة منزله، وكذلك تمَّ التحرش بالمرشحة عائشة الصافي نواي.  إذ تُعتبر هذه الإجراءات القمعيَّة مؤشرات خطيرة في العملية الديمقراطية.  وبرغم من ذلك، جرت الانتخابات التكميليَّة في ولاية جنوب كردفان في جو شهد السُّودان تراجعاً كبيراً في مسألة حقوق الإنسان عما كانت عليه الحال عقب التوقيع على اتفاقية السَّلام الشَّامل العام 2005م، حيث ابتعدت الشرطة عن الدستور، حتى أخذت الحكومة لا تطيق التظاهرات السلميَّة.  فهناك مقتل الطالب محمد موسى عبد الله بحر الدين بكلية التربية في جامعة الخرطوم في يوم الأربعاء 10 شباط (فبراير) 2010م، الذي اختطفه رجال الأمن بعد خروجه من الامتحان وعُذِّب حتى قُتل، وهناك الصحافيَّة لبنى حسين التي أُدينت في محكمة النظام العام لأنَّها ارتدت بنطلوناً، ثم هناك الفتاة التي جلدتها شرطة النظام العام في العراء لأنَّها ارتدت بنطلوناً أيضاً تحت الجلباب، وأخذت تبكي وتستنجد بأمها في شريط "فيديو" شاهدها الناس في العالمين الشرقي والغربي.(44)  وهناك الاعتقالات التي طالت في حق قيادات الحركة الشعبية دون الالتفات إلى حصاناتهم القانونية كأعضاء في البرلمان منهم القائد ياسر سعيد عرمان والدكتور عبد الله تية جمعة وباقان أموم وماين دوت وسعدية عيسى وإحسان عبد العزيز، وما لا يقل عن مائة ناشط سياسي وحقوقي، بما فيهم قيادات من حزب الأمة والشباب في تظاهرة دعت إليها الحركة الشعبية العام 2008م ضد تعنت الحكومة في تطبيق اتفاقية السلام الشامل كما وردت في روحها ونصوصها.  كان ذلك بعد انسحاب الحركة من الحكومة قبل العودة إليها في إطار اتفاق المصفوفة، والذي شمل قانون استفتاء جنوب السودان، قانون استفتاء منطقة أبيي، قانون المشورة الشعبية لجنوب كردفان والنيل الأزرق، قانون التحول الديمقراطي، قانون الصحافة والمطبوعات، قانون الأمن الوطني، وقانون الأحزاب.  هذا، فقد تحدثت المصفوفة عن إطار زمني لتطبيق هذه القضايا، التي لم تكن الحكومة حريصة على تطبيقها من قبل، مما دفع الحركة الشعبية إلى الخروج إلى الشارع للتعبير عن رأيها وسخطها من تلكؤ المؤتمر الوطني.
على أيَّة حال، فقد أعلنت قوى الإجماع الوطني (المكوَّنة من 8 أحزاب سياسيَّة) رسمياً تحالفها لخوض الانتخابات التكميلية بجنوب كردفان وسلمت مذكرة للمفوضية القومية للانتخابات احتجاجاً على مخالفات السجل الانتخابي بالولاية، وطالبت المفوضية بمراجعة كافة الخروقات، وكشفت قوى الإجماع في ذات الوقت عن مضايقات من قبل أجهزة أمنية مختلفة للحيلولة دون تسليم المذكرة ومقابلة رئيس المفوضية.(45)  وكان حزب الأمة كما عاودنا واعتدنا عليه هو الحزب الذي اتخذ موقفاً متأرجحاً بين الأحزاب السياسيَّة، حيث أعلن الحزب أنَّ الظروف الحالية – مع وجود استقطاب حاد بين حزبي اتفاقيَّة السلام - غير مناسبة لإجراء الانتخابات لأنَّ الطرفين سوف يخوضانها بمنطق الفوز لنا أو الطوفان، واقترح حزب الأمة تأجيلها مع استمرار الالتزام بإجرائها في وقت لاحق، واستمرار الالتزام بالمشورة الشعبيَّة، واقترح الحزب كذلك ضرورة ضبط معنى المشورة الشعبيَّة لأن صياغتها الراهنة هي من بين ثغرات اتفاقيَّة السلام المحمَّلة بالفجوات، واقترح إدارة انتقاليَّة قوميَّة لجنوب كردفان تعني بالتنمية والتعايش بين مكونات المنطقة السكانيَّة.  واقترح حزب الأمة للحزبين المتنافسين برنامجاً مشتركاً مهما كانت نتائج الانتخابات، بما فيه الالتزام بميثاق شرف انتخابي.  وأن يتجه الجميع لصيغة تراض لحكم انتقالي تجري في ظله إدارة لمصلحة كل السكان، وتجري في ظله المشورة الشعبيَّة، وتضمن نتيجتها في الدستور الذي سوف يخلف دستور اتفاقيَّة السلام المنتهية مدته في التاسع من تموز (يوليو) 2011م.  ولكن لم يؤكد لنا حزب الأمة ما الجديد الذي سيأتي به تأجيل الانتخابات علماً بأنَّ هذه الانتخابات كانت قد أُجِّلت من قبل؟  وكيف يتم تفعيل المشورة الشعبيَّة دون عقد الانتخابات مع العلم أنَّ من أشراط تطبيق المشورة الشعبيَّة إجراء انتخابات حرَّة ونزيهة لاختيار أعضاء مجلس الولاية والوالي ليبتوا في هذا الأمر؟  وما معني ضبط المشورة الشعبيَّة الذي يوحي اقتراح حزب الأمة بأنَّها لم تكن منضبطة؟  وهل سيفيد حكومة انتقاليَّة أخرى قوميَّة أو ثنائيَّة؟  كل هذه الأسئلة لم يستطع موقف حزب الأمة أن يجاوب عليها.
مهما يكن من شيء، ففي يوم 4 شباط (فبراير) 2011م كتبت الحركة الشعبيَّة إلى رئيس اللجنة العليا للانتخابات بولاية جنوب كردفان تطالب بإفادتها عن المراقبين الدوليين والمحليين الذين تمَّت دعوتهم وقبلت طلباتهم، وكذلك أسماءهم وصفاتهم والجهات التي يمثلونها.  إذ لم ترد اللجنة العليا للانتخابات بالولاية على هذه الرسالة.  وفي نهاية الأمر جاء بعض المراقبين الدوليين، بما فيهم أعضاء من مركز كارتر، لمراقبة هذه الانتخابات التكميليَّة.  وبالطبع، إنكم لتعرفون مركز كارتر هذا الذي ظل يراقب الاستفتاءات والانتخابات التي أخذ حزب المؤتمر الوطني الحاكم يمارسها طيلة سنواته في الحكم.  بيد أنَّ دور كارتر في أزمة السودان عامة، وتهميش النُّوبة خاصة، لا يشرف أبداً.  ففي آذار (مارس) 1995م فاوض الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر نظام الخرطوم لوقف إطلاق النار في السُّودان لمدة شهرين، حتى يتسنَّى للمنظَّمات الإنسانيَّة الدوليَّة مكافحة دودة الغرنديد – التي  تسبِّب مرض عمى النهر – وتطعيم الأطفال ضد الحصبة والشَّلل والسل وأمراض أخرى.  ومع الحزن العميق وللأسف الشديد، لم يشمل قرار وقف إطلاق النار إيَّاه منطقتي جبال النُّوبة والنيل الأزرق، وكان هذا القرار تكراراً للسيناريو الذي حدث في اتفاقيَّتي وقف إطلاق النار العام 1989م و1993م.  ففيما ركَّزت الأمم المتحدة جهودها في جنوب السُّودان أصبحت جبال النُّوبة مكاناً "للطوارئ المهملة" (Neglected emergency).  وكل النداءات لإغاثة النُّوبة قد ذهبت هباءاً تذرها الرِّياح، تاركة أطفال النُّوبة ونساءهم وكهولهم يتضوَّرون جوعاً، ويعانون في أكثر ما تكون المعاناة من سوء التَّغذية والأمراض التي عجزوا عن مكافحتها.  وفوق ذلك كله، كان مرض الكلازار متفشياً في المناطق الجنوبيَّة من جبال النُّوبة.  وحسبما جاءت في دراسة قام بها صندوق رعاية الطفولة (اليونسيف) التابع للأمم المتحدة وُجِد أنَّ هناك 14,4% حالة إصابة بمرض عمى النهر في جبال النُّوبة، وكان من المتوقع أن يتضاعف هذا الرَّقم ليصل 34% بعد هدم الآبار بواسطة جنود حكومة السُّودان.  برغم من كل هذه الأدلة الدَّامغة لم يتسع برنامج كارتر لمكافحة مرض عمى النهر وتوصيل الإغاثة الإنسانيَّة ليشمل كل مناطق النِّزاع المسلح باستثناء الجنوب.(46)  لذلك لم يحظ قرار وقف إطلاق النار الذي فاوض حوله كارتر لظروف إنسانيَّة بنجاح شامل، لأنَّه فشل في إحقاق الأمل العظيم الذي بُني حوله.  وبالفعل نجد أنَّ ضمائر كثيرة في العالم سكتت عن أعمال رجال الإنقاذ لفترة من الزمن طويلة في ذلك الحين حتى طغوا وتجبروا في الأرض.  فلم يتوقف إزدراء أهل الإنقاذ بقوى المعارضة عند الاستهتار برموزها فحسب، بل ابتغوا أن يهبط الجميع والركوع إلى إملاءاتهم وما يتفضَّلون به لهم.  فعلى قادة الإنقاذ أن يتذكَّروا – "فإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين" (الذاريات 51/55) – ما حاق بنظام الرئيس العراقي صدام حسين وأبنائه، أو العقيد الليبي معمر القذافي وأسرته.  فلم يتوقف القذافي عند حد، ولم يعد يقبل بأي نقاش، صار فوق الجميع، وبات يحتقر الآخرين بلا استثناء، ويلبس ويمشي في خيلاء كالطاؤوس.  فحين جاء المبعوث الدولي عبد الإله الخطيب واقترح على ابنه سيف الإسلام القذافي محاورة المعارضين، سمع جواباً من نوع: كيف نحاورهم؟  إنَّهم خدم، وكانت مهمَّتهم أن يلعقوا أحذيتنا.
مهما يكن من أمر مركز كارتر، ففي خلال هذه الانتخابات التكميليَّة لم يتوقف حزب المؤتمر الوطني عن تلقيح المؤامرات، وتوليد الفتن ضد الحركة الشعبيَّة في جنوب كردفان.  ففي خطاب بعث به إبراهيم أحمد غندور من أمانة الاتصال التنظيمي لحزب المؤتمر الوطني إلى رئيس المؤتمر الوطني في جنوب كردفان في يوم 17 شباط (فبراير) 2011م قال: "(إنَّه) سيتم إن شاء الله قريباً تكوين حزب جاد الديمقراطي، وإنزاله على أرض الواقع للعمل السياسي في ولايتكم؛ الحزب الوليد يتكون من المفصولين تعسفيَّاً من الحركة الشعبيَّة والمنشقين عنها، بغرض زعزعتها سياسيَّاً وعسكريَّاً.  الحزب الوليد يضم جناح عسكري وميليشيات من أبناء النُّوبة والعرب، وسيعملون على مناهضة الحركة الشعبيَّة في الانتخابات، والدِّفاع عن الولاية تحسباً لأي هجمات من جيش الحركة الشعبيَّة في الولاية.  الآن قادة الحزب الجديد يقومون سراً بطواف على الإدارات الأهليَّة بالولاية، بغرض شرح برنامج الحزب تمهيداً للانسجام معهم؛ وقد بدأ عملهم الآن بالقطاع الشرقي بأبوجبيهة، وتمَّ دعمنا لهم عبر البنك الزراعي بمبلغ عشرة مليون جنيه لتسيير أعمالهم، والتركيز على مرشح الحركة الشعبيَّة في الدائرة (4)، بالتنسيق مع رئيس شباب الحركة الشعبيَّة أبوجبيهة لإسقاطه من داخل حزب الحركة، وتزكية المرشح الجديد بجمع توقيعات مؤيِّدة له من الشباب والإدارات الأهليَّة وإرسالها لسكرتاريَّة الحركة الشعبيَّة ومنسقيَّة الانتخابات، مع تأكيد رفضهم لترشح موسى كجو."  ويتضح من خلال هذه الرسالة أنَّ المؤتمر الوطني اعتمد على شيئين لإحداث ارتباك في هذه الدائرة الجغرافيَّة: المال الحزبي، والذي هو مال عام، والتنافس الداخلي وسط أعضاء الحركة في المنطقة، ولكن يبقى السؤال هل كانت لرئيس الحركة الشعبية بأبوجبيهة ميول "مؤتمرجيَّة"، أو نوايا الانسلاخ في المستقبل والانضمام إلى حزب المؤتمر الوطني؟  هذا تساؤل تصعب الإجابة عليه، إلا لمن كان له عهد لصيق بالحركة الشعبيَّة في المنطقة وما كان يدور داخلها من صراع حزبي، فضلاً عن الخلفية السياسيَّة لأعضائها الفاعلين والدور الخفي الذي كان يقوم به رجال الأمن في حكومة المؤتمر الوطني.
أيَّاً كان الأمر، ففي مذكرة رفعتها قوى الإجماع الوطني حول نشر السجل الانتخابي لولاية جنوب كردفان تلخَّصت الاعتراضات على النحو الآتي:
(1)    عدم تطابق في الأرقام في بعض الدوائر بالزيادة أو النقصان.
(2)    لجان الرحل تعمل منفردة دون إخطار وكلاء الأحزاب.
(3)    تعمُّد المفوضيَّة بعدم تقديم الدعوة للمراقبين الدوليين والمحليين لمراقبة العمليَّة الانتخابيَّة.
(4)    عدم سيطرة اللجنة العليا في مراقبة وتوجيه ضباط الدوائر وموظفي التسجيل.
وفي يوم الأحد 27 شباط (فبراير) 2011م رفعت قوى الإجماع الوطني مذكرة أخرى إلى المفوضيَّة القوميَّة للانتخابات معترضين على نشر السجل الانتخابي لولاية جنوب كردفان (ملحق رقم (9)).  إذا جاءت المذكرة تقول: "نشير إلى المذكرة التي رفعت لكم من قبل قوى الإجماع الوطنى بالولاية والخاص بالزيادات والنقصان في قوائم الناخبين.  لقد وضح من المذكرة أنَّ هناك فوارق كبيرة وزيادات لا مبرر لها في عدد المسجلين في حوالي (20) عشرين دائرة انتخابية ومفارقات تفضحها الأرقام التي سجلها مندوبو أحزابنا، وقد أقرَّت اللجنة العليا للانتخابات بالولاية بهذه المفارقات وفصلت أحد موظفيها مما يدل على صحة طعننا في السجل.  ثم مضت المذكرة تقول: "لقد وضح لنا أيضاً صحة النقصان في أرقام (12) دائرة أخرى، حيث بلغ السجل الانتخابي حسب النتيجة الأوليَّة (651,859) ناخب حسب إعلان اللجنة العليا للإنتخابات بالولاية، وبظهور هذه النتائج تجلت لنا المفارقات التالية: الفرق الشاسع بين سجل اللجنة العليا المبدئي وما سجله وكلاؤنا في عدد 1,463 مركزاً بلغت فيه الجملة بالسجل الرسمي الذي وقع عليه وكلاؤنا بالمراكز (613,485) ناخب، أي بفارق (58,888) ناخب، وبعد مراجعة سجل اللجنة العليا وجدنا زيادة بلغت (38,374) ناخب في عدد (20) دائرة جغرافية وبالمقابل نقصت أعداد (12) دائرة جغرافية أخرى بما جملته (20,044) ناخب ووضحنا ذلك للجنة العليا في خطابنا بتاريخ 16/2/2011م."  وخلصت المذكرة إلى القول: "إنَّ السجل الانتخابي ليشكل عظم الظهر لصحة الإنتخابات ويؤكد أحقيَّة المواطنين في الإدلاء بأصواتهم وصحة السجل الانتخابي أحد المؤشرات المهمة لصحة الانتخابات وشفافيتها وديمقراطيتها، وأي تغيير أو تبديل في السجل هو طعن أساس في صحة الانتخابات، وعليه نطلب من المفوضية أن تراجع كل الخروقات مع ممثلى أحزابنا بالولاية عبر لقاءات مباشرة لأنهم يمتلكون كل تفاصيل الخروقات في السجل لا عبر ردود من الخرطوم دون معرفة الوقائع على الأرض، إنَّ أوضاع جنوب كردفان إن لم تعالج بحكمة ربما تقود إلى زعزعة الإستقرار في كل السُّودان، وحرصاً على الأمن والسلام ومصالح المواطنين نطلب من مفوضيتكم المؤقرة وقف إجراءات نشر السجل الانتخابي ومراجعته مع الجهات المعنية بالولاية.  كذلك نطالب المفوضية بإعلان موقفها للشعب السُّوداني كمفوضية تتطلب مهامها الحياد والقومية من سلوك رجال الأجهزة الأمنيَّة الذين حولوا المفوضية إلى ثكنة عسكرية هذا الصباح وتدخلوا لمنع قيادة الاحزاب من مقابلتكم من داخل مكاتب المفوضية حتى يعزز ذلك الثقة ويبعد المفوضية من الأجهزة الأمنيَّة."(47)
وفي يوم 2 آذار (مارس) 2011م اعترضت الحركة الشعبيَّة على نشر السجل الانتخابي، وذلك بخطاب إلى المفوضيَّة القوميَّة.  إذ اعترضت الحركة – فيما اعترضت – على الآتي:
(1)    بلغت الزيادة في 11 دائرة انتخابيَّة 18,224 ناخباً.
(2)    بلغ النقصان في 11 دائرة انتخابيَّة 3,100 ناخباً.
(3)    بالإضافة إلى اعتراضات أخرى في سبيل العمليَّة الانتخابيَّة.
ففي 153 دفتر بلغ عدد المسجَّلين 30,800 وعدد الأسماء التالفة 4,093، وذلك في الدائرة (30) مدينة وريفي المجلد والمراكز التابعة لها.  وبعد أن قامت الحركة الشعبيَّة بمراجعة بعض دفاتر الدائرة (30) وجدت أنَّ عدد المسجلين بصورة غير صحيحة بلغ 2,810 شخصاً.  ومن ثم كوَّنت الحركة الشعبيَّة لجنتين للنظر في الخروقات في هذه الدائرة:
(1)    اللجنة الأولى نظرت في 6 مراكز و46 دفتراً، ووجدت أنَّ هناك 13 دفتراً مزوَّراً، وبلغ عدد الناخبين المزوَّرين 2,442 ناخب.
(2)    اللجنة الثانية نظرت في 15 مركزاً و60 دفتراً، حيث بلغ عدد الناخبين المزوَّرين 5,288 ناخب.
اعترضت الحركة الشعبيَّة على عدم مشروعيَّة دائرة القوز الجنوبيَّة، وأوردت الأسباب والمسوغ القانونيَّة على اعتراضها، ولكن لا حياة لمن تنادي.  كذلك اعترضت الحركة على قرار المفوضيَّة القوميَّة للانتخابات بإلغاء دائرة دلامي دون أي سبب، وإرجاع وحدة الأزرق إلى محليَّة هيبان، وإضافة سكان دلامي إلى كرتالا وإدماجهم في محليَّة أخرى هي هبيلا وهي دائرة انتخابيَّة ولائيَّة منفصلة.  ومن خلال الشكاوي والاعتراضات والتحرشات السياسيَّة والمشكلات الأمنيَّة وغيرها نخلص إلى الآتي:
(1)    تأخير إعلان نتائج التعداد السكاني الجديد عن سوء قصد، مما أدَّى إلى تأخير قيام الانتخابات المحددة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010م.
(2)    التداعيات التي صاحبت عمليَّة ترسيم الدوائر الجغرافيَّة.
(3)    إصرار المفوضيَّة على حرمان محليَّة دلامي من التمثيل في البرلمان.
(4)    بذلت اللجنة العليا للانتخابات جهداً كبيراً لاعتماد السجل المزور والمعيب.
(5)    نجحت الحركة الشعبيَّة من خلال موقفها الثابت والرَّافض للسجل المزوَّر أن تجبر المفوضيَّة القوميَّة للانتخابات على الاستجابة واعتماد سجل انتخابي جديد.
(6)    تضامن المفوضيَّة القوميَّة للانتخابات مع لجنتها العليا بالولاية، وذلك بإصرارهما على عدم معالجة الاعتراضات والشكاوي أثناء عمليَّة مطابقة وتجميع النتائج.
إزاء هذا الوضع انسحبت قيادة الحركة الشعبيَّة من لجان التجميع والمطابقة، واتخذت القرارات الآتية:
(1)    الانسحاب وعدم المشاركة في هذه المرحلة الخاصة بعمليَّة تجميع ومطابقة النتائج.
(2)    عدم اعترافنا بأيَّة نتيجة تعلنها اللجنة العليا للانتخابات مهما كانت.
(3)    عدم المشاركة في المؤسسات التشريعيَّة والتنفيذيَّة الناتجة من هذه الانتخابات.
(4)    دعوة القوى الديمقراطيَّة وجماهير ولاية جنوب كردفان والسُّودان عامة للتعاون معاً في عمل ديمقراطي سلمي لتصحيح هذه الأوضاع.
(5)    دعوة الضامنين لاتفاقيَّة السلام الشامل والمجتمع الدولي بإعادة تقييم العمليَّة والمساعدة في إيجاد معالجة لهذا الوضع الشاذ.
كانت القوى السياسيَّة واعية بخطورة التلاعب بالسجل الانتخابي ونتائج الانتخابات وما يمكن أن يفرزه هذا التلاعب الذي قد يهدد أمن وسلامة البلاد ويعرِّضها للخطر؛ لذلك بذلت الجهد الجهيد وحذرت الحكومة وحزبها الحاكم، مما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع السياسية في القطر من جراء هذا الفساد الانتخابي.  وفي هذه الأثناء اضطرَّت قوى الإجماع الوطني أن تجتمع في يوم 20 نيسان (أبريل) 2011م، وتطالب – فيما طلبت – بصيانة حقوق الإنسان، و"أدان الاجتماع الهجمة الشعواء والمستمرة والمصاعدة على الحريات العامة والمكفولة بموجب دستور السودان الانتقالي لـ2005م حيث شهدت هذه الفترة تراجعاً سريعاً وممنهجاً في كل ميادين الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والتنكيل والقمع، خاصة للشباب والطلاب والنساء، بجانب منع الأحزاب الوطنية من ممارسة نشاطها السياسي وعرقلة صدور الصحف بالمصادرة والرقابة وغير ذلك من صنوف القهر والاستبداد السياسي."  وكذلك "نبه الاجتماع للخطر الماثل في جنوب كردفان بالطريقة التي تجرى بها الحملة الانتخابية والاستقطاب الإثني الحاد بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية والتي تنذر بقيام حرب ضروس. علماً بأنَّ رؤساء الأحزاب أكَّدوا على ضرورة أن تلعب أحزابهم دوراً إيجابياً في الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي والاستقرار والسلام في المنطقة" (ملحق رقم (10)).
علاوة على ذلك، فلا شك في أنَّ منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان المحليَّة والدوليَّة قد بذلت جهداً جهيداً لمراقبة هذه الانتخابات حتى تُخرج للناس حرَّة ونزيهة.  ولكن هناك أموراً غابت عن هذه المنظمات، وبخاصة الأجنبية منها وهي أنَّها لم تكن لديها من الخبرة الكافية في معرفة أساليب المؤتمر الوطني الفاسدة وتعريتها، بما فيها التهديد والوعيد والابتزاز، واستخدام أموال البترول في الارتشاء.  أما منظمات المجتمع المدني السُّودانية فهي كانت واعية بكل هذه الأساليب، إلا أنَّها لم يكن لديها حول ولا قوة لمجابهة هذه الممارسات غير القانونيَّة.  فعلى سبيل المثال جاء في تقرير شبكة تنمية الديمقراطيَّة وحقوق الإنسان بولاية جنوب كردفان عن مرحلة العد والفرز والنتائج أنَّ هناك 4 نجاحات للجنة العليا للانتخابات و8 إخفاقات.  وفيما يلي نورد الإخفاقات الثماني:
(1)    وجود عدد من صناديق الاقتراع بديباجة التدريب في أماكن بالقرب من المراكز، وهي تحت مسؤوليَّة ضباط المراكز، وهم موظفين لدي المفوضيَّة، مثل الصناديق التي تمَّ ضبطها بمركز أم بطاح.
(2)    انحياز بعض موظفي المفوضيَّة لصالح حزب المؤتمر الوطني، ومساعدتهم لوكلاء حزب المؤتمر الوطني في تغيير إرادة الناخبين، وحثهم على التصويت لصالح حزب المؤتمر الوطني تحت رأي الشرطة، مثل ما حدث في مركز البرداب.
(3)    استبدال صناديق بعض المراكز بواسطة منسوبي الأحزاب، وهذه الصناديق تعتبر مستوياتها واحدة من مهام موظَّفي المفوضيَّة بالمراكز.
(4)    طرد بعض وكلاء الأحزاب من بعض المراكز من قبل موظفي المفوضيَّة دون أسباب مقنعة وواضحة، بل واعتقال البعض من هؤلاء الوكلاء، مما يعد مؤشر نحو الشروع في التزوير في تلك المراكز.
(5)    الإتلاف المتعمد لبطاقات الاقتراع من قبل رؤساء المراكز للحالات الخاصة، أو التصويت لهم في رمز غير الرمز الذي يرغبون في التصويت إليه.
(6)    في بعض المراكز فاق عدد المقترعين عدد المسجلين في السجل بالمركز.
(7)    استخراج البطاقات أكثر من مرة لأكثر من شخص.
(8)    لم تعلن المفوضيَّة النتيجة النهائيَّة، وهناك تصريحات في وسائل الإعلام المختلفة بنتائج الانتخابات ولم تتدخَّل المفوضيَّة لحسم هذه الشائعات.
من خلال هذا السَّرد والإيضاح نفضي إلى السؤال التالي: ما هي الأوضاع الانتخابية التي واجهها المرشح عبد العزيز آدم الحلو؟  واجه القائد الحلو والياً في المنصب، الذي هما فيه يتنافسان، وينتمي هذا الوالي إلى الحزب الشريك الذي ظل في الحكم لمدة 22 عاماً، والذي يحوز موارد الدولة، المال، تلفزيون الدولة، الصحف السيارة، الإدارة العامة على المستوى القومي والمحلي، وفوق ذلك كله إحجام أناس كثر عن التسجيل أو الإدلاء بأصواتهم، لأنَّهم فقدوا الثقة في العملية الانتخابية التي يقوم بها المؤتمر الوطني الحاكم بين الفينة وأخرى.  إذ رأوا أنَّ مشاركتهم في هذه العملية الانتخابية، التي لا تختلف كثيراً أو قليلاً عن سابقاتها، هي مشاركة في فوز مرشح المؤتمر الوطني، وإعطائهم الشرعية السياسية التي يفقدونها ويبحثون عنها.  وما أسموه المفوضيَّة القوميَّة للانتخابات كانت أداة طائعة لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، برغم من وجود بعض المنظمات المدنيَّة، وكانت مواردها شحيحة وأداؤها يشوبه نوع من الارتباك.  ومع ذلك كله، فاز عبد العزيز آدم الحلو (مرشح الحركة الشعبية) بمنصب الوالي، حيث أحرز 201,463 صوتاً بينما أحرز كل من أحمد محمد هارون (مرشح المؤتمر الوطني) 199,395 صوتاً، وأحرز المرشح المستقل تليفون كوكو أبو جلحة 9,043 صوتاً، لكن عكست المفوضيَّة أصوات كل من المنافسين الرئيسين بتوجيه من قيادة حزب المؤتمر الوطني بالخرطوم، وأعلنت المفوضيَّة فوز أحمد محمد هارون بمنصب والي ولاية جنوب كردفان.  كما أعلنت المفوضية كذلك فوز حزب المؤتمر الوطني ب32 عضواً (22 دائرة جغرافية و11 للقوائم الحزبيَّة) والحركة الشعبية ب 21 عضواً (10 دوائر جغرافية 11 للقوائم الحزبيَّة).
علاوة على هذا التزوير البائن، فهناك ثمة شيئان استخدمتهما حكومة المؤتمر الوطني لاستفزاز شعب ولاية جنوب كردفان في هذه الانتخابات التكميليَّة؛ وهما: ترشيح أحمد محمد هارون وتليفون كوكو أبو جلحة.  فالأول تهيم في حزمة من الجرائم غليظة اقترفها في دارفور، والتي كان قد بدأها في جنوب كردفان.  ومن هذه الجرائم انتهاكات حقوق النُّوبة من منطلقات عرقيَّة وسياسيَّة ودينيَّة، والمعاملة غير الإنسانيَّة في ترحيلهم قسراً من منازلهم إلى ما أسموه في ذلك العهد الأسيف ب"قرى السَّلام"، بالإضافة إلى ارتكابه جنايات إرهابيَّة أخرى تتمثَّل في الهجمات على القرى، وحرقها وتدمير محاصيلهم، واستياق حيواناتهم، والقتل خارج نطاق القضاء في البادية والحاضرة، وحبس المواطنين النُّوبة في قراهم، واغتصاب نسائهم.  ومع ذلك، تمَّت هذه الأفاعيل باسم الدين، وكان يقتضي وجوب التخلي عن ملابسة هذه المفسدات المزرية بالدين.  إذ تلخَّصت الجرائم إيَّاها في الإبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيَّة.  فرجل بهذا السجل الإجرامي السيء كان ينبغي عليه أن يذهب إلى لاهاي للمثول أمام القضاء النزيه الذي لم يوفِّره هو كقاضي مارس العمل السياسي في ولاية جنوب كردفان وإقليم دارفور.  أما المرشح الثاني تليفون كوكو أبو جلحة، فلم نسمع في حياتنا الدنيا بمرشح خاض الانتخابات أيَّة انتخابات وهو معتقل.  إذ كيف يصوِّت الناس لمرشح لم يقم بأيَّة دعاية انتخابيَّة، أو يخض حملة إعلاميَّة؛ ولم يكن له برنامج انتخابي مقنع أو غير مقنع لجمهور الناخبين.  كان أهل المؤتمر الوطني يعلمون أيما العلم أنَّ صاحبهم "المرشح المستقل" هذا لسوف لن يفوز، وكان هدفهم الأساس في الزج باسمه في قائمة المرشحين هو تشتيت الأصوات لا أكثر ولا أقل، وقد أفلحوا في تحقيق ما أرادوا بإقحام اسمه في سجل المرشحين.  تُرى لِمَ لم يستقدم أهل المؤتمر الوطني مرشحاً مستقلاً غير نوبوي وليس عضواً في الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السُودان؟  فالجواب هو إنَّهم ارتادوا أن يفتنوا النُّوبة في الحركة الشعبية ببعضهم بعضاً، أي ليس بسعد أو عمرو، بل بكوكو النُّوبوي والعضو في الحركة الشعبية ذاتها؛ هذا من جانب، وبين الحركة الشعبية وتنظيمات النُّوبة السياسيَّة الأخرى من جانب آخر، كما شهدنا في الحملات المسعورة التي خاضها بعض أبناء النُّوبة في العاصمة طلباً لإطلاق سراح تليفون كوكو.
على أيَّة حال، فالتغيير السياسي بواسطة الانتخابات في ظل أنظمة شموليَّة بات غير ذي جدوى في إفريقيا والوطن العربي، أو الدول النامية على وجه العموم.  فعلى سبيل المثال لتجدنَّ الانتخابات الرئاسية في كينيا العام 2007م قد فجَّرت عنفاً دموياً راح ضحيتها 1,200 شخصاً وهرب حوالي 50,000 من منازلهم، وذلك حين استحال النِّزاع إلى صراع اعتنافي-قبلي بين أنصار الرئيس مواي كيباكي والمرشح المنافس له رائيلا أودينغا.  وفي ساحل العاج لقي حوالي 3,000 شخصاً مصرعهم في أعمال العنف التي استمرَّت أربعة أشهر بواسطة أنصار كل من الرئيس لوران غباغبو والمرشح الرئاسي ألسان أوتارا، حتى استلم الأخير السلطة في أبيديجان بمعاونة قوات الأمم المتحدة في نيسان (أبريل) 2011م، واعتقال الأول، وإرساله في وقت لاحق إلى محكمة الجزاء الدولية في لاهاي لمواجهة أربعة تهم تتعلَّق بجرائم ضد الإنسانيَّة.(48)
وفي هذا الإطار أيضاً حسبنا أن نقرأ كيف تمت إعاداة انتخاب الرئيس الكميروني بول بيا إلى سدة الحكم حتى ندرك جوهر ما نقول.  ففي الانتخابات الرئاسية التي جرت في الكميرون العام 2011م فاز الرئيس بول بيا لفترة رئاسية سادسة، وهو الذي أمضى 30 عاماً في السلطة، حيث أعلنت المحمكة العليا في الكميرون في يوم 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2011م أنَّه أحرز 77.98% من جملة الأصوات ضد 22 مرشحاً.  فما هي الأساليب التي استخدمها الرئيس بيا في سبيل عودته إلى السلطة؟  وما هي الظروف السياسية التي جعلته يحتفظ بمنصبه كرئيس للكميرون للمرة السادسة؟  استخدم بيا كل موارد الدولة ومصادرها الاقتصاديَّة والسياسيَّة والأمنيَّة والإعلاميَّة لخوض معركة انتخابيَّة وحملة إعلاميَّة غير متكافئة ضد المرشحين المعارضين لحكمه وسياساته.  وأخيراً لكي يضمن الرئيس بيا نجاحه في الانتخابات أنشأ مفوضيَّة الانتخابات في العاصمة الكميرونيَّة ياوندي لمراقبة العملية الانتخابيَّة.  ومع ذلك، واجه نظامه انتقاداً لاذعاً بأنَّه تم تشكيل المفوضيَّة من أعضاء الحزب الحاكم والحكومة، مطعومة ببعض المراقبين غير المنحازين من منظمات المجتمع المدني، مع وجود موارد قليلة، وتفشي فوضوي تنظيمي.  وكان على الأحزاب السياسيَّة المعارضة، التي تملك موارد شحيحة أقل مما يملكه الحزب الحاكم، أن تعد نفسها في خلال أربعة أسابيع بعد التسجيل إعداداً يشمل تأسيس لجانها، خوض الحملة الانتخابية، والطواف على كل أقاليم البلاد العشرة؛ وكان هذا الأمر مستحيلاً حتى في أفضل الأوضاع.  أما الإحباط السياسي العارم وقتئذٍ فمصدره عاملان: أولاً، فقد الناس الثقة في مقدرة المعارضة لعجزها عن إنجاز ما تعد؛ ثانياً، بعد أحداث عنف كثيرة في تأريخ الكميرون الحديث، بات الشعب الكميروني لا يرغب في عدم الاستقرار، بل السَّلام.  هكذا أفرزت الانتخابات إيَّاها نتائج ضعيفة.  والجدير بالذكر أنَّ الكميرونيين اعتمدوا لحقب طويلة على الأحزاب السياسيَّة.  وبناءاً على تجربة الربيع العربي بات التغيير لا يأتي من الأحزاب السياسيَّة، وبخاصة التقليديَّة منها، بل من منظمات المجتمع المدني والمعارضين المقيمين بالخارج.  فمؤسسات المجتمع المدني، التي تسير على هامش النظام السياسي الحزبي، سوف تحرِّك الشعب ليس في الداخل فحسب، بل في الخارج أيضاً، وذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو ما يسمى بالمواقع الاجتماعيَّة التي أخذت تسمح بمساءلة الراهن ومحاكمة الأوضاع.(49)  ومن هنا تبرز أهميَّة المنظمات المدنيَّة والحقوقيَّة الموازية لمنظمات الدولة البوليسيَّة والشموليَّة؛ فمن خلالها يستطيع الناس التأثير على توجه المجتمع ومقاومة جماعات السلطة والحكومة.
والانتخابات الرئاسيةَّ في جمهوريَّة الكونغو الديمقراطيَّة التي بدأت يوم الاثنين 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011م تمثل نموذجاً آخر من سلسة الانتخابات غير الحرَّة وغير النزيهة في الدول النامية، وذلك لأنَّ الحكام الديكتاتوريين لا يسمحون بإجراء انتخابات تؤدِّي إلى عزلهم عن عروشهم.  فالتأريخ علَّمنا أنَّ العسكر، حين يستولون على السلطة، لا يتخلون عنها إلا بالقوة أو بعد حدوث أزمة وطنيَّة حادة، كما برهنت الأحداث في السُّودان (1964م و1985م) والأرجنتين وشيلي وتونس ومصر وليبيا واليمن – أي ما أسمته الصحافة ب"الربيع العربي" – ودول عديدة أخرى حول العالم.  فربما تمثل تجربة المشير عبد الرحمن محمد الحسن سوار الدهب في السُّودان (1985-1986م) في تسليم السلطة إلى حكومة منتخبة حالاً شاذة.  مهما يكن من الشأن، فحينما أخذت الانتخابات في الكونغو تفرز صنوفاً من التزوير طفق المراقبون الدوليُّون يتصايحون بصوت عالٍ عن اتهامات بوجود الناخبين الأشباح (Ghost voters)، ومراكز اقتراع مزوَّرة (50 مركزاً)، وآلاف من الناخبين الذين سقطت أسماؤهم من السجل الانتخابي، والعنف المتفاقم ضد المعارضة.  وقد احتج المرشح الرئاسي فيتال كاميري أنَّ الشرطة طردت الشهود من مراكز الاقتراع قبل الشروع في فرز الأصوات، فضلاً عن العثور على صناديق الاقتراع مسجلة مسبقاً لصالح الرئيس الحالي جوزيف كابيلا، ووجود بطاقات تحمل صور أطفال مسجلين بأنَّهم ناخبون شرعيُّون.  إذ شمل ذلكم العنف المتصاعد – فيما شمل – اعتقال الصحافيين والنشطاء السياسيين وتهديدهم وتعذيبهم، حتى مات عشرون شخصاً نتيجة العنف الذي صاحب العمليَّة الانتخابيَّة.  وقد أخذت قوات الأمن تعتدي على الناس لأنَّهم يرتدون قمصان تحمل صور أو شعارات المعارضة، وأُغلِق راديو المعارضة، وحُظِر تجمعات المعارضة في بعض مناطق البلاد.  والأغرب في الأمر أنَّ مركز كارتر قد لاحظ أنَّه في بعض الدوائر الجغرافيَّة بلغت معدَّلات الإقبال على الانتخابات درجات عالية بشكل مستحيل، أي 99 إلى 100%، وذهاب هذه الأصوات كلها إلى كابيلا.  ففي منطقة بعينها تحدَّت الأرقام منطق الرِّياضيات، وبلغ حضور الناخبين 100,14% مع فوز كابيلا بنسبة 99,98%.  لذلك عبَّر الاتحاد الأوربي عن استيائه من غياب الشفافيَّة وشيوع الفوضى في نتائج هذه الانتخابات، ووصفت وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة الانتخابات إيّاها بأنَّها معيبة بصورة خطيرة.  هذه هي الانتخابات الثانية في تأريخ الكونغو، التي تنافس فيها كثرٌ من المرشحين، وكان هناك حوالي 18,800 مرشحاً لمقاعد البرلمان التي بلغ عددها 500 مقعداً؛ وفي دائرة جغرافيَّة معيَّنة في كنشاسا – حاضرة الكونغو – تنافس 1,700 مرشح.  فهناك من تفاءل بأنَّ هذا التزاحم ظاهرة صحيَّة في ازدهار الديمقراطيَّة، ثمَّ هناك من تشاءم بأنَّ هؤلاء المرشَّحين يرون في البرلمان فرصة طيِّبة للحصول على العيش الرغد في الكونغو، تلكم الدولة التي تحمل في باطنها معادن تعادل قيمتها 24 ترليون دولاراً (16 ترليون جنيه إسترليني)، ويعيش معظم سكانها على أقل من 1.25 دولاراً في اليوم، وملايين آخرين يقطنون في أكواخ مزدحمة غير صحية وسط أرتال من الأوساخ وبرك ذات مياه راكدة، ونمو الحشائش على قضبان السكك الحديديَّة، مع وجود 2% فقط من الطرق المعبدة، التي تتخللها الحفر.(50)
ومع أنَّ السنغال يعتبر نموذجاً لقصة نجاح الديمقراطية في ذلكم البلد، إلا أنَّ الرئيس السنغالي السابق عبد الله واد، الذي بلغ من العمر عتياً (85 عاماً)، وظل في الحكم 11 عاماً، قد أساء استخدام الدستور السنغالي المعدل، الذي يحدد الفترة الرئاسية بفترتين فقط.  لكن الرئيس واد كان يزعم أنَّ التعديل جاء بعد أن بدأ فترته الأولى في الحكم.  وكذلك أدخل الرئيس واد إصلاحات انتخابية في حزيران (يونيو) 2011م، صُمِّمت خصيصاً لبقائه في السلطة، مما قادت هذه الإصلاحات إلى تظاهرات عنيفة ضد حكومته، وكذلك نصب ابنه – الوريث المحتمل – نائباً له، مما يشي بالفساد والمحسوبية على حد سواء.  فقد جاء عبد الله واد إلى الحكم العام 2000م بعد أن مكث 25 عاماً في المعارضة، ولكن أخذ السنغاليون يستاءون من حكمه في السنوات الأخيرة لعدة أسباب منها: تعيين ابنه كريم في وظائف حكوميَّة هامة، وإخفاقه في وقف القطوعات المتكررة للكهرباء، وارتفاع أسعار المواد الغذائيّة والوقود، والفقر الذي يطاول 13 مليون سنغالي يعانون البطالة ويفضل الكثيرون منهم الهجرة سراً إلى أوروبا، مع إصراره بأنَّه هو الوحيد الذي بمقدوره حكم السنغال، فضلاً عن استعانته بالقضاء لتجاوز الحد الدستوري، الذي يسمح فقط بفترتين رئاسيتين، لكيما يرشح نفسه لفترة رئاسية ثالثة.(51)  وفي نهاية المطاف توحدت أحزاب المعارضة وألقت بمرشح رئاسي واحد هو مكي سال، وحثوا وحشدوا ناخبيهم للتصويت له، حيث نال دعم منظمات كثيرة للمجتمع المدني والحركات الشبابية مثل "لم نعد نحتمل" وشخصيات مثل المغني الشعبي الشهير يوسو ندور الذي لم يوافق المجلس الدستوري على قبول ترشيحه.  هكذا فاز رئيس الوزراء السابق، مكي سال – البالغ من العمر 50 عاماً (المولود العام 1961م) – على خصمه عبد الله واد، وأقر الأخير بالهزيمة.  فمن هو الرئيس المنتخب مكي سال إذن؟
المهندس الجيولوجي والجيوفيزيائي مكي سال قد خدم في عدة وظائف رئيسة في حكومة واد في "الحزب الديمقراطي السنغالي" قبل أن يختلف معه، ويشق عصا الطاعة عنه.  ففي العام 2008م اختلف مع الرئيس واد الذي استاء منه لأنَّه استدعى ابنه كريم واد، رئيس وكالة وطنيَّة مكلفة الأشغال العامة لإعداد قمة دكار الإسلاميَّة في آذار (مارس) 2007م إلى جلسة مساءلة أمام نواب البرلمان حول نشاطه في رئاسة تلك الوكالة.  والخطأ الذي ارتكبه سال هو أنَّه لم يفاتح رئيس الدولة مسبقاً بهذه القضية.  وجعل أنصار واد، الذين كانوا يخشون من نصب فخ لكريم، مكي سال يدفع ثمن فعلته هذه باستصدارهم قانوناً يخفض ولاية رئيس الجمعية الوطنية 5 سنوات إلى سنة واحدة.  لكن سال رفض الاستقالة من ذلك المنصب، مستنداً إلى عريضة رفعتها أغلبية النواب من أعضاء "الحزب الديمقراطي السنغالي".  ورفض مكي سال أيضاً قانوناً يخفض من ولايته، الذي أُعِد خصيصاً له بمبادرة من واد، وانشق عندها عن الرئيس واد.  واستقال، في تشرين الثاني (نوفمبر) في اليوم الذي فيه تمَّ إقرار القانون الجديد، من كل مهامه في الدولة والمهام النيابيَّة بصفته رئيس الجمعيَّة الوطنيَّة ونائب رئيس بلدية فاتيك مسقط رأسه، وقال يومها أمام مئات من أنصاره "أردت أن أقدِّم  مثالاً في المقاومة الجمهوريَّة".  ومن ثمَّ أسس حينها "حزب التحالف من أجل الديمقراطية"، وهو حزب ليبرالي، حيث انتخب تحت رايته رئيساً لبلديَّة فاتيك العام 2009م.
مهما يكن شيء، فهناك ثمة سؤال بعد الانتخابات التكميليَّة في ولاية جنوب كردفان، وهو هل فاز مرشح المؤتمر الوطني أحمد محمد هارون؟  أو بعبارة أخرى هل كانت هذه الانتخابات مزوَّرة أم حرَّة ونزيهة؟  وقبل الإجابة على هذا التساؤل علينا استعراض ما نعنيه بالغش أو الخداع الانتخابي.  بناءأ على فهوم الخبراء في التزوير الانتخابي، هناك عدة سبل للغش والخداع في سبيل الفوز – أو ادِّعاء الفوز – بالانتخابات، وهذا يعتمد كليَّاً على كيفية تعريف الخداع الانتخابي.  فهناك كثرٌ من القوانين واللوائح لتنظيم العمليَّة الانتخابيَّة بحيث تخرج للناس حرَّة ونزيهة، وإنَّ الاخلال بواحد منها لمن العمليات الهيِّنة، أكان ذلك في انتخابات محليَّة أم شخص ذاهب إلى مركز الاقتراع وهو منتحل شخصية أحد.  وقد يأخذ الخداع أيضاً شكل التلاعب بالناخبين بواسطة الإعلام المنحاز علانيَّة إلى مرشح بعينه، كما شهدنا في ولاية جنوب كردفان حين أعطى الإعلام الحكومي من الاهتمام شديد لأحمد هارون، ومتجاهلاً المرشحين الآخرين.  ثم هناك كذلك التلاعب بالأصوات، مثل شراء الأصوات أو ترهيب الناخبين حتى يصوِّتوا لمرشَّح بعينه.  وهناك التصويت المكرَّر (Carousal voting) لنفس الأشخاص خلال اليوم بعد أخذهم من مركز اقتراع إلى آخر.
ففي الانتخابات الرئاسية في روسيا – على سبيل المثال – في آذار (مارس) 2012م، والتي فيها فاز رئيس الوزراء فلادمير بوتين، كانت هناك عدة أمثلة تشير إلى التزوير.  فمثلاً في إقليم الشيشان، الذي شهد عنفاً وتجاوزات في حقوق الإنسان على أيدي السلطات الروسيَّة سجل الناخبون رقماً مستحيلاً في هذه الانتخابات – أي 107%، حيث صوَّت 99.82% منهم لصالح بوتين.  وفي هذا الإقليم أحرز زعيم المعارضة الشيوعيَّة غينادي زيوغانوف صوتاً واحداً فقط!؟(52)  والانتخابات السُّودانيَّة التي جرت العام 2010م مليئة بقصص مثير ومضحك من هذا النوع من الألاعيب الفاسدة.  فهناك الدكتور الجيلي، الذي بات ينادي أين صوتي حينما علم أنَّه حصل على صفر من الأصوات، وذلك بعد أن أدلى بصوته هو وزوجه وبنوه لصالح شخصه، حتى ذهب مثلاً، وأخذ السُّودانيون يتندَّرون في مجالسهم الخاصة والعامة ب "أين صوت الجيلي!"  ثم هناك السيدة التي ألقت بوثيقتها الثبوتيَّة (الجنسية) في صندوق الاقتراع عن طريق الخطأ، وأقفلت راجعة مطالبة بها، وأخبروها أن تحضر في الغد حين يتم تفريغ الصناديق للفرز، وحين جاءت في الصباح الباكر سائلة عن جنسيتها، طفق أحد الموظفين قائلاً لها: "ربما كانت وثيقتك في إحدى الصناديق التي ألقينا بها في مزبلة المهملات" بعيداً لتدميرها، وذلك بعد أن أتوا بصناديق كانت معبَّأة مسبقاً لعملية التَّزوير!  وهناك الكثير المثير في أمر هذه لانتخابات، التي كانت بمثابة مسرحية تراجيديَّة ملهاة بحيث لم يكد يستطيع النُّوبة أن يرتضوا بها، ولا أن يقبلوا بنتائجها.
أياً كان من أمر "صوت الجيلي" أو وثيقة السيدة الناخبة، فهنا نود أن نذكر بعضاً من أنماط الخداع الانتخابي":
(1)    التلاعب بالدوائر الانتخابية (Gerrymandering)، وهو عبارة عن ترسيم حدود الدوائر الانتخابية بحيث تنتج نتيجة معيَّنة، وقد يعني هذا تجميع مجموعات سكانيَّة في منطقة انتخابيَّة واحدة.  فعلى سبيل المثال إنشاء دائرة القوز الجنوبيَّة، وإلغاء دائرة دلامي، وإرجاع وحدة الأزرق إلى محليَّة هيبان، وإضافة سكان دلامي إلى كرتالا وإدماجهم في محليَّة أخرى هي هبيلا وهي دائرة انتخابيَّة ولائيَّة منفصلة.
(2)    التَّرهيب (Intimidation)، وهو استخدام العنف والتهديد باستخدام العنف للضغط على نتائج الانتخابات.  وأيضاً يمكن أن يكون بواسطة التَّهديدات الاقتصاديَّة – فمثلاً المستخدِم (بكسر الدال) الذي يملي على الأيدي العاملة الاتجاه الذي يود أن يصوتوا إليه فهو مخادع.
(3)    شراء الأصوات (Vote buying)، وهو من الأمور البسيطة، لكنه فعَّال، وقد تم استخدامه في دول كثيرة.
(4)    التصويت المكرَّر (Ballot stuffing)، وهو الحال التي فيها يصوِّت الناخب أكثر من مرة.  لذلك نجد أن بعضاً من الدول تستخدم "مداد الانتخابات" – وهو صبغة شبه دائمة – لضبط أي شخص صوَّت من قبل.
(5)    تحريم شخص أو أشخاص شرعياً من حقِّ التَّصويت (Disenfranchisement)، ويتطلب هذا النمط من الغش الانتخابي مستويات عالية من الفساد.  فعلى سبيل المثال حذف أحد الناخبين من السجل الانتخابي بواسطة موظفي الانتخابات "عن طريق الخطأ".  ثم هناك بعض الوسائل المستخدمة لتحريم مجموعات انتخابية بعينها من حقهم الانتخابي، مثلاً كإجراء الانتخابات في يوم عطلة دينيَّة.
(6)    العبث (Tampering)، وهذا نمط نادر من الخداع الانتخابي، لأنَّ هذا النوع من الغش يتطلّب تقنية عالية من الذين يعملون بآلات التصويت الإلكترونيَّة حتى يسهل لهم إفساد البرنامج الإلكتروني لصالح مرشح معيَّن.
على أي، فحين تفشل الاستعانة بالوسائل الأخرى، مثل المجادلة بالتي هي أحسن في تحسين الحياة الإنسانيَّة من خلال تحسين المؤسسات الإنسانيَّة، وحين تفرض السلطات الحكوميَّة الانتخابات المزوَّرة على الناس رغم أنف الشعب، وحين يصر القائمون بأمر الدولة على رفض المباذل الأخرى، وحين يتَّصفوا بنزوعهم الأكثر دمويَّة، فالحث على الأخذ بأسباب القوة، والتحذير من التخاذل والانهزاميَّة يصبح أمراً مرغوباً.  فالمطالب، وبخاصة تلك الرغائب العظيمة، لا يمكن نيلها بالتمني، بل تُأخذ هذه الحقوق الدنيويَّة بالقوة، وذلك لأنَّ الأقوام قد استنفدوا كل الوسائل السلميَّة واستعصى عليهم بلوغ ما يسعون إليه.  ودونكم وقول الشاعر المصري أحمد شوقي:
وما نَيْلُ المطالِبِ بالتَّمَنِّي    
ولكنْ تُأْخَذٌ الدُّنيا غِلابا
وما اسْتَعْصَى على قَوْمٍ مَنالٌ
إذا الإقْدامُ كانَ لَهُمْ رِكابا
وذلك ليفهم الأغيار من قادة السلطة في الخرطوم بأنَّ النُّوبة حين اتَّكلوا على هذه الانتخابات أبقوا بارودهم جافاً، حتى لا يُؤخذوا على غرة.  وبكلمة أخرى، لم يهملوا اتخاذ مختلف الاحتياطات العمليَّة، عملاً بما قاله أوليفر كرومويل خلال الحرب الأهليَّة الإنكليزيَّة (1642-1652م) عندما كان جنوده على وشك عبور أحد الأنهار.  فقد خاطب هؤلاء الجنود طالباً إليهم أن يعتمدوا على الله، وأن يحاذروا في الوقت نفسه أن يبلِّل الماء ما يحملون من بارود.  وقد نبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم الإعرابي الذي لم يَعْقِل (أي لم يربط) ناقته، بل تركها تسرح على هواها، قائلاً: "توكَّلت على الله"، بوجوب ربطها أولاً والاتِّكال من ثمَّ على الله: "إعْقِلها وتوكَّل".  فعلى المرء دوماً أن يكون له الخطة "ب" أو "ج" ليستعين بها، أو بهما، إن فشلت الخطة "أ"، ولا ينبغي أن يحسب أنَّ التوكُّل على الله وحده يكفي، لأنَّ هذا لسوف يمسي تواكلاً وليس توكُّلاً.
فالوقوف إلى جانب المستضعفين في الأرض ضد حيف الدولة وأحزاب الصفوة ذات المصالح الخاصة واجب وطني وإنساني وأخلاقي.  ولعلَّ هذا هو الذي دفع ثيودور روزفيلت للمناداة ب"الصفقة العادلة" (Square deal) مع الشعب الأمريكي قبل قرن من الزمان.  ففي العام 1912م هجر روزفيلت الحزب الجمهوري وترشَّح للرئاسة الأمريكيَّة تحت شعار الحزب التقدمي الملقَّب يومذاك ب"حزب المُوظ" (Bull Moose Party)، وأخذ ينادي بزيادة الإعانات الحكوميَّة، وأصوات المرأة، والإصلاحات المصرفيَّة؛ وقد شاركه ابن عمه فرانكلين روزفيلت في هذا الاتجاه السياسي.  هذا، فقد فعل روزفيلت ذلك نحو هؤلاء، لأنَّهم يمثلون "الأغلبيَّة الصامتة" (The silent majority)، وهي القوى المرجحة في أي مجتمع ديمقراطي يتم فيه تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، وقد تكون غير ملتزمة أو منتظمة تحت لواء حزب أو حركة سياسيَّة، لذلك يسعى كل مرشَّح للفوز بأكبر جزء من ثلثي هؤلاء الصامتين الغالبين.  ومصطلح "الأغلبية الصامتة" عبارة أطلقها علماء السياسة منذ العام 1752م على أولئك الذين لا يبالون بمجريات الأحداث السياسيَّة، وقد شاع هذا المصطلح عندما استخدمه مرشح من الحزب الديمقراطي من ولاية نيويورك في مطلع القرن العشرين شاكياً من إحجام الأغلبيَّة عن المشاركة.  والذي صك هذا المصطلح تأريخيَّاً كان هو الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في خطابه في تشرين الثاني (نوفمبر) 1969م يستحث الأغلبيَّة الصامتة، التي بقيت في المنازل غير متظاهرة ضد حرب فيتنام.  كان هذا المصطلح يستخدم في الحياة الأمريكيَة تعبيراً عن "صمت القبور" عند إلقاء كلمات الرثاء في المدافن .  فمن منا – نحن معشر السُّودانيين – يرغب أن يُوصف عدم مبالاته ب"صمت القبور" حينما تُلقى عبارات بهذا الشكل والحجم.  ومن ناحية أخرى، فمن يختال تكبراً ورفضاً للاستماع لصوت الشعب، فإنَّه لمقترف إثم عظيم.  أفلم يذهب القول المأثور للشاعر الإغريقي (اليوناني) هسيود في القرن الثامن قبل الميلاد بأنَّ "صوت الشعب هو صوت الله"؟  بلى!  ولعلَّ أقرب شيء إلى قوله ذاك هو بيت الشاعر أحمد شوقي، مشيراً بأنَّ أكثر ما يخيف الحكام من شدة غضبة الشعوب إذا تسلَّح أعزالهم بالحق:
وَأَهْيَبُ ما كانَ بَأسُ الشُّعوبِ
إذا سَلَّح الحَقُّ أَعْزَالَها
وقول الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي:
إذا الشَّعب يَوْماً أَرادَ الحَياةَ
فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيب القَدَرْ
وَلا بُدَّ لِلَّيْل أَنْ يَنْجَلِي
وَلا بُدَّ للقَيدِ أن يَنْكَسِرْ
على أيٍّ، كان في استطاعة حزب المؤتمر الوطني أن ينجح في حكم السُّودان إذا دافع عن قضيَّة حقوق الإنسان والحريات العامة، إذا احتضن كل مظلوم، إذا قاوم الفساد المالي والأخلاقي في الخدمة المدنيَّة، إذا ضرب الأمثلة في أروع ما تكون الأمثلة في القدوة الصالحة، ثمَّ إذا حوَّل الكلمات إلى أفعال نافعة، والوعود إلى حقائق ماثلة.  وكل حزب يقف إلى جانب الشعب يقف الشعب إلى جانبه يحيط به عندما توجه إليه الخناجر وإلى صدره المدافع والسيوف.  ولما كانت علاقة السلطة "الإنقاذيَّة" بالجماهير السُّودانيَّة هي في الأغلب الأعم علاقة اضطهاد واستهتار بها، فإنَّ التقييم الموضوعي لجماعة "الإنقاذ" يفرض علينا التقاط البدايات التأريخيَّة لمواقفها السياسيًّة، وبالتالي لموقعها بين قضايا الجماهير من جهة، وبين مصالحها الخاصة من جهة أخرى، ثمَّ نتتبع هؤلاء الجماعة عبر كافة المنحنيات التي تعرَّجت داخلها هبوطاً وصعوداً لاستجلاء المساوئ التي أحاطت بحلقاتها المتتالية بدءاً بالحلقة الأولى التي فيها أُذيع البيان الأول في 30 حزيران (يونيو) 1989م وانتهاءاً بالحروب الأهليَّة التي ورثتها واستفحلتها، والجديدة التي أشعلتها، ثمَّ بتلك التي أعادتها إلى سيرتها الأولى.  وكانت العودة إلى العدائيات في جنوب كردفان والغلو في انتهاكات حقوق الإنسان تُعد أبشع هذه الحلقات "الإنقاذيَّة"، كما سنرى في ثنايا الصفحات التاليات.


 

آراء