العنف والسلطة والدولة في جبال النوبة إبان الحكم الثنائي (2). عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
العنف والسلطة والدولة في جبال النوبة إبان الحكم الثنائي (2)
Violence, Authority, and the State in the Nuba Mountains of Condominium Sudan
بقلم البروفسور جيستن وليس Prof. Justin Willis
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الأخير من عرض لمقال من 24 صفحة نشر في العدد رقم 46 في عام 2003م من "المجلة التاريخية" التي تصدر من دار نشر جامعة كامبردج البريطانية. يعمل البروفيسور "جيستن وليس" أستاذا في قسم التاريخ بجامعة دارام البريطانية ]وهي من أشهر المراكز التي تحتفظ بوثائق عن تاريخ السودان، خاصة خلال فترة الحكم الاستعماري البريطاني- المصري (الحكم الثنائي)[. لهذا البروفيسور - بحسب ما جاء في صفحته في موقع جامعة دارام- اهتمام خاص بالتاريخ الأرشيفي والشفاهي لمنطقة شرق أفريقيا (وتشمل كينيا ويوغندا وتنزانيا والسودان) والتغيرات الاجتماعية التي حدثت فيها في المائتي سنة الأخيرة. بحث الرجل أيضا في التاريخ الثقافي للانتخابات في شرق أفريقيا، والتاريخ الاجتماعي للمشروبات الكحولية فيها. يتضح من المقال أن للعنف في جبال النوبة جذورا تعود إلى عشرات (بل مئات) السنين، ومن الضروري دراسة جذور ذلك العنف قبل الخوض في أمره وكأنه من الأمور التي ظهرت في الأعوام القليلة الماضية.
في الجزء الأول سرد الكاتب تاريخ العنف الذي استخدمته الحكومة الإستعمارية ضد سكان جبال النوبة ونوازعه ومسوغاته من وجهة نظرها. وفي هذا الجزء يذكر الكاتب أمثلة من الأدوار غير الحميدة التي لعبها المستعمر البريطاني في إشعال الفتنة بين العناصر التي كانت تسكن جنوب كردفان، كاشفا عن عنصرية لا تعرف الحياء. يحاول الكاتب إظهار خطل فكرة أن الاستعمار البريطاني كان يتميز عن نظيره الفرنسي بالرحمة والمودة والتحضر، ويثبت أنه (أيضا) كان يستخدما العنف المفرط لفرض سيطرته.
تمثل لي كتابة هذا المؤرخ البريطاني عن مخازي بلاده في جبال النوبة في القرن الماضي قمة المهنية والتجرد الأكاديمي الصادق، وأعده رسالة قوية لمن ينادون عندنا ب "إعادة كتابة تاريخ السودان:، ومبلغ فهمهم لذلك هو تحسين (بل تمجيد) صورة من كتب عنه المؤرخون البريطانيون بما لا تشتهي أنفسهم! فالتاريخ ينبغي أن بعتمد الموضوعية في التفسير، والمنهجية العلمية في التحليل، لا أن يكون أسيرا لعامل واحد من العوامل التي تحركه، ولا متأثرا بتيار ما، حتى وإن كان ذلك التيار هو"الوطنية"، فالحق أولى بالإتباع. المترجم.
لعبت التقسيمات العرقية في السودان – كما يفهمها البريطانيون- دورا خاصا في اشعال نار العنف، فقد كانوا يؤمنون بأنه يسهل قيادة وتوجيه (والتلاعب) ب "العرب" في السودان عن طريق قياداتهم الدينية مثل المهدي. بيد أن القمع الفوري لهؤلاء القادة الدينيين سوف يجعل كل من يسمع يدرك قوة الحكومة الضاربة. لكن، وكما جاء في تقرير لمفتش بريطاني اسمه لويد في مديرية كردفان صدر في عام 1908م، فإن سكان جبال النوبة ليسوا "عربا" بل هم من "السود"، وزعم أنه من المعلوم أن "السود" لا يلقون بالا لما يسمعون، ولا يقتنعون إلا بما يرونه أو يحسونه. جاء في ذلك التقرير (الشديد العنصرية والفوقية. المترجم) ما نصه: "هؤلاء قوم جهلاء متوحشون لا تستطيع أن تقنعهم بأمر لا تستطيع مخيلتهم المحدودة تصوره. يجب اقناعهم عن طريق علامة ملموسة بقوة الحكومة وهيبتها، وذلك من أجل فرض سيطرتها الإدارية عليهم حين يلزم الأمر... لهذا السبب، فإني أرى أن زيادة حامية جنوب كردفان، ومضاعفة عدد الدوريات وتقويتها أمر ضروري لإرهاب عقول الأهالي والسيطرة عليهم (overawe the native mind)". بقيت فكرة هذا "الفرق العنصري" حية عند الإداريين البريطانيين، فقد كتب أحدهم (واسمه أوين) في رسالة خاصة لوالده بعد أربعين عاما مما سبق ذكره (أي في عام 1944م) ما يفيد بأنه لن يفكر أبدا في إرسال دورية وشن حملة عسكرية على "العرب"، ولكن وبحسب نص رسالته- فإن "أمر النوبة مختلف جدا، فهم أغبياء dull-witted وتعوزهم الحساسية، وبدائيين وعنيدين، ولغتهم العربية ضعيفة (هكذا! المترجم). لا يمكن للمرء أن يعاملهم كالعرب... لا يمكن إنجاز الأشياء هنا دون استخدام (أو إظهار) القوة."
لقد نشأ وتنامى العنف الاستعماري البريطاني – مثله مثل الاستعمار الفرنسي- جزئيا بفعل الطموح الشخصي لمرتكبيه. كان الضباط البريطانيون في بداية عهد الحكم الثنائي (البريطاني –المصري) يعدون - فنيا ورسميا- ضباطا في الجيش المصري منتدبين من حامياتهم البريطانية للعمل في خدمة الحكم الثنائي، حيث رحلة البحث عن المغامرة والأوسمة. كان هنالك طابور طويل من الضباط المنتظرين للانتداب للعمل في السودان وللالتحاق بالدوريات الأمنية التي كانت تجوب جبال النوبة، بل وسعى بعضهم لتوسيط ونجت لتخطي الصفوف والظفر بالعمل في حملات جبال النوبة. سجلت الوثائق أنه بحلول عام 1910م، كانت دوريات جبال النوبة تعج ب"المتطوعين" من الضباط البريطانيين، وكان من يظفر من هؤلاء بميدالية أو وسام يسخر ممن العاطلين عن تلك الميداليات والأوسمة. كان المتعطشون للدماء من أولئك الضباط الباحثين عن المغامرة والميداليات والأوسمة يقومون بدوريات هجومية غير ضرورية أمنيا، ولكنهم كانوا يحصلون بسببها على مزيد من الترقيات والميداليات والأوسمة والتقارير الممتازة، مما أثار غيرة وغضب الضباط في مناطق أخرى كالهند. يمكن القول بأن الإداريين البريطانيين في سنوات الحكم الثنائي الأولى كانوا يحاولون – وبكل الوسائل والطرق- أثبات وجودهم وتفانيهم في أداء واجباتهم، ويدخل في باب هذه الواجبات استخدام العنف المفرط – بسبب وبلا سبب- ضد الأهالي. كان المفتش منهم يطوف مع ثلة من جنوده على منطقة ما، ويستدعي مكوكها وسكانها المحليين للقاء القصد الأساس منه هو التخويف والإرهاب. كان كل من يرفض الحضور لتلك اللقاءات أو يتأخر عنها يتعرض لبأس تلك الدورية، والتي "تزوره" حيث هو، حيث تحرق داره أمام عينيه وتقتل بهائمه إن لم يبد مقاومة. أما إن أظهر مقاومة فالقتل هو مصيره. لخص أحد المفتشين موقفا مشابها حدث في منطقة "نيمة Nyima" وهو يستعرض رأسي مكك "نيمة" وحليف له بعد قتلهما بقوله: "الأعمال الفجة هي وحدها التي تؤثر على العقول/ الأدمغة الفجة" ("نيمة " هي مجموعة من 8 جبال في الركن الشمالي الغربي لمنطقة جبال النوبة، ويسمى سكانها نيمج Nyimng. حدثت في 1908م حالات نهب لأبقار قبيلة عربية في تلك المنطقة، ومواجهة دموية مع دوريات عسكرية بسببها).
أثبتت الدراسات الإثنوغرفية منذ عام 1940م أن فكرة هوية وثقافة موحدة لسكان جبال النوبة فكرة غير آمنة، إذ ليس هنالك ما يجمع بين المجموعات السكانية التي كانت تسكن في جبال النوبة في بدايات القرن العشرين غير أنها مختلفة ثقافيا عن المتحدثين باللغة العربية في السهول.
أدخلت في منتصف عشرينات القرن الماضي بعض المحاكم في جبال النوبة إتباعا لسياسة عامة في سائر أرجاء القطر، وتم تعيين بعض القادة المحليين في القرى كشيوخ كقضاة في محاكم ابتدائية لها سلطة إصدار أحكام بالغرامة، وعين بعض المكوك في محاكم أعلى يرأسها رجال متقدمين في السن تحكم في قضايا أكثر تعقيدا. كانت هنالك محاكم يقضي فيها عدد من المكوك مجتمعين، وهي تفصل في قضايا تخص المجتمعات النوبية ككل. بهذا المحاكم (الشعبية) تخلصت إدارة المركز من عبء الفصل في القضايا الصغيرة عديمة الخطر، وتفرغت للقضايا الكبيرة والهامة.
ظل البريطاني جيلان مهندس "الصحوة النوبية Nuba renaissance" يؤكد أن نظام المحاكم في جبال النوبة قد أعاد الحياة ل"السلطة القبلية"، رغم أن محاكمه تلك كانت بعيدة تماما عن النظام المحلي السابق (أو ما كان يسميه هو "ثقافة النوبة الحقيقة "Authentic Nuba culture) والتي كانت تتميز بأنها متعددة المراكز polycentric .كانت النزاعات المحلية في جبال النوبة تسوى عادة عن طريق تدخلات العائلات والأقرباء والمجتمع، لا يستثون منها أحدا، بل إن حتى بعض الممسوسين كان يجلسون على كرسي القضاء ويفصلون في بعض القضايا، بينما كانت بعض النزاعات تحسم بالعنف، أو بتدخل من أي فرد في المجتمع مها كانت مرتبته، حتى إن كان حارسا أو بوابا.
كانت نظرة الإداريين البريطانيين لشعب جبال النوبة هي أنهم مجرد "ما تبقى من مجموعات بشرية محاصرة، تطوقهم شعوب من المستعربين الرحل القاطنين في السهول المحيطة بجبال النوبة"، وكانوا يؤمنون بأن حكمهم خلال عقده الأول قد نجح في ايقاف الحملات التي كان "المستعربون" يشننوها ضد النوبة في الجبال، بيد أن النوبة قد جحدوا تلك "النعمة" فصاروا يشنون الحملات العسكرية ضد بعضهم البعض، وضد المستعربين من حولهم بغرض نهب الأبقار وأخذ الأسرى كعبيد، إذ كانوا يستخدمون الرجال منهم للأعمال (الشاقة)، والنساء كزوجات، أو يبعون من يسترقون من أجل الحصول على الأبقار أو البنادق. كذلك لم يكن البريطانيون متأكدين تمام التأكد من أمر "النوبة": أهم قبيلة أم عنصر؟ فالنوبة يتحدثون بلغات مختلفة، وقد لا يفهم بعضهم لغة الآخر، بيد أنهم كانوا متأكدين من أولئك "الزنوج الابروجينيNegro aborigines" هم بقايا مجموعة بشرية من زمن طالوت (استند الكاتب هنا على ما ورد في كتاب بعنوان "القبائل الوثنية في السودان النيلي" لمؤلفه سيلجيمان، صدر عام 1932م).
لجأت السلطات الاستعمارية في مرحلة معينة من حكمها لاستغلال "الأرواح" في جبال النوبة مثل ما يعرف بأرو (Arro)، و"الكجور" من أجل بسط الأمن في كل جبل من الجبال. كان على الحكومة أن ترى في هذا "الكجور" قوتها الضاربة، فالكجور هو ما يخشاه النوبة. كان المستعمرون في سنين حكمهم الأولى يعدون الكجورعدوهم الأول، كانوا يحرصون على أن يري النوبة أنهم قادرون على إخضاعه وإرهابه وتقليم أظفاره. تغير كل ذلك منذ بداية العشرينات من القرن الماضي، فصاروا لا يعدون الكجور "عرافا/ طبيبا ساحرا" أو طاغية مستبدا. كانت "إعادة التأهيل" تلك التي مارسها المستعمرون للكجور تتماهي مع سياستهم الرامية لاحترام التقاليد والأعراف القبيلية، واسناد قيادة المجموعات البشرية والقبائل المختلفة للقوي التقليدية (الروحية) فيها من خلال "الحكم غير المباشر"، إذ تبين لهم أن كثيرا من المكوك الذين نصبوهم لا يتمتعون بأي سلطة حقيقية، مما استلزم "إحياء" القيادات التقليدية القديمة للمارسة دورها في القيادة المحلية. سمى البريطانيون تلك السياسة ب "الصحوة النوبية Nuba renaissance". كان من لوازم تطبيق تلك السياسة الفصل (الثقافي والعنصري) بين العرب والنوبة فصلا تاما. كتب أحدهم عن مزايا هذا الفصل فقال: "يجب أن أشدد هنا على أضرار اختلاط العرب بالنوبة. نتيجته دوما هي شاب هجين عديم أصل، غير منضبط، ولا هم له غير السكر والعربدة، وليس له من خلفية تراثية يستند عليها". كان العري عند النوبة مصدرا لإعجاب بعض البريطانيين، فقد أثار خيالهم برومانسيته وبفلسفة ال essentialism الكامنة فيه. أعجبت سيدة إنجليزية بعري النوبة فقالت مهمهمة: " ياله من منظر وحشي وجذاب!". كتب مفتش المركز معلقا على قول السيدة تلك ما نصه: "لعل زائرتنا سرت مما رأت من عري الناس هنا".
أجبر الكساد الإقتصادي المستعمر البريطاني في ثلاثينات القرن الماضي على نبذ أحلامه الرومانسية في تنفيذ الحكم غير المباشر، وترك أمر القيادة المحلية للقادة التقليدين في المنطقة، وعزل العرب عن النوبة، فقد اشتدت الحاجة لمزيد من الضرائب والأموال، وتسهيل التجارة وتنميتها. لم يكن هنالك إذن من بد من فتح منطقة النوبة للعرب (وغيرهم) مثل الدعاة المسلمين والحرفيين من أجل تنشيط التجارة والتقدم في المنطقة. كذلك دخل منطقة جبال النوبة حتى عام 1933م نحو 1000 مهاجر من غرب أفريقيا، للعمل وكسب بعض المال وهم في رحلتهم البطيئة لمكة والحج. وبدأ الإداريون البريطانيون منذ عام 1934م في عقد مؤتمر سنوي لمناقشة التجارة والتنمية في جبال النوبة.
في رأي الكاتب أن الإداريين الاستعماريين قدموا خلال فترة حكمهم روايتين متتاليتين لموقفهم من حوادث جبال النوبة تلخصت في الآتي:
1.أهمية العنف كوسيلة من الوسائل التي تستعرض بها الحكومة قوتها وهيبتها، ولتلقين هؤلاء "النوبة المشاكسين" أن لا طائل من المقاومة. قال وينجت في هذا الخصوص: "إن الحملات المختلفة التي شنتها قواتنا في المنطقة نجحت، على الأقل، في إقناع السكان بأن محاربة الحكومة عبث غير مجدي".
2. قوة التقاليد والمقاومة الثقافية. ذكر الإداري البريطاني المخضرم فيكرز مايلز ما نصه: "لقد نجحت سياستنا الهادفة لجعل النوبة يحكمون أنفسهم بأنفسهم، إذ تماهى وعزز ذلك من تقاليدهم التليدة".
بيد أن الإدارة الفعالة التي تبلورت من خلف هاتين الروايتين لم تعكس تماما "قوة الحكومة" ولا انتصار "إعادة الحياة للتقاليد التليدة". أدركت الحكومة عجزها عن توفير قوات كافية لفرض هيبتها فقامت بحملات "مسرحية" زادت من وتيرة العنف حتى عشرينات القرن الماضي.
خلص الكاتب أن الحكم الثنائي في السودان قد شهد نفس السياسات والإجراءات التي اتخذت في كثير من الأقطار التي استعمرتها بريطانيا في أفريقيا ، حيث كان الحديث عن "التقاليد" و"التراث" مجرد غطاء لمزيد من عنف الدولة المركزي centralized state violence . انتقلت ثقافة السلطة التي أسسها المستعمر إلى تركيبة سودان ما بعد الاستقلال، واعتمد التوازن بين سلطة "الدولة" وسلطة "القادة المحليين" على توافق غير مؤكد وقابل للانهيار.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
////////////////////